{ 77 - 81 } { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ * لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ * تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ * وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ }
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ } أي : لا تتجاوزوا وتتعدوا الحق إلى الباطل ، وذلك كقولهم في المسيح ، ما تقدم حكايته عنهم .
وكغلوهم في بعض المشايخ ، اتباعا ل { أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ } أي : تقدم ضلالهم .
{ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا } من الناس بدعوتهم إياهم إلى الدين ، الذي هم عليه . { وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } أي : قصد الطريق ، فجمعوا بين الضلال والإضلال ، وهؤلاء هم أئمة الضلال الذين حذر الله عنهم وعن اتباع أهوائهم المردية ، وآرائهم المضلة .
ثم أرشدهم - سبحانه - إلى طريق الحق ، ونهاهم عن الغلو الباطل فقال : { قُلْ يا أهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحق وَلاَ تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ } والغلو مصدر غلا في الأمر : إذا تجاوز الحد . وهو نقيض التقصير .
وقد نهى النبي - صلى الله عليه وسلم عن الغلو حتى في الدين ، فقد روى الإِمام أحمد والنسائي وابن ماجه والحاكم عن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغو في الدين " .
وروى البخاري عن عمر بن الخطاب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ؛ إنما أنا عبد فقولوا : عبد الله ورسوله " .
وروى مسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " هلك المتنطعون . قالها ثلاثة " والمتنطعون هم المتشددون المتجاوزون للحدود التي جاءت بها تعاليم الإِسلام .
وقد غالى أهل الكتاب في شأن عيسى - عليه السلام - أما اليهود فقد كفروا به ونسبوه إلى الزنا وافتروا عليه وعلى أمه افتراء شديداً وأما النصارى فقد وصفوه بالألوهية فوضعوه في غير موضعه الذي وضعه الله فيه وهو منصب الرسالة . وكما غالوا في شأن عيسى عليه السلام - فقد غالوا أيضا في تمسكهم بعقائدهم الزائفة ، مع أن الدلائل الواضحة قد دلت على بطلانها وفسادها .
وقوله { غَيْرَ الحق } منصوب على أنه صفة لمصدر محذوف . أي : لا تغلوا في دينكم غلوا غير الحق : أي : غلوا باطلا .
وقوله : { وَلاَ تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ } معطوف على قوله : { لاَ تَغْلُواْ } .
قال الفخر الرازي : الأهواء - ههنا - المذاهب التي تدعو إليها الشهوة دون الحجة .
قال الشعبي : ما ذكرالله لفظ الهوى في القرآن إلا ذمه . قال : { وَلاَ تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السبيل } وقال : { واتبع هَوَاهُ فتردى } وقال :
{ وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى } وقال : { أَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ } وقال أبو عبيدة : لم نجد الهوى يوضع إلا في الشر لا يقال : فلان يهوي الخير إنما يقال يريد الخير ويحبه .
وقيل : سمى الهوى هوى لأنه يهوي بصاحبه في النار . وأنشد في ذم الهوى :
إن الهوى الهوان بعينه . . . فإذا هويت فقد لقيت هواناً
وقال رجل لابن عباس : الحمد لله الذي جعل هو أي على هواك . فقال ابن عباس : كل هوى ضلالة .
والمعنى : قل يا محمد لأهل الكتاب الذين تجاوزوا الحدود التي تقرها الشرائع والعقول السليمة ، قل لهم يا أهل الكتاب : { لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحق } أي : لا تتجاوزوا حدود الله تجاوزوا باطلا ، كأن تعبدوا سواه مع أنه هو الذي خلقكم ورزقكم ، وكأن تصفوا عيسى بأوصاف هو برئ منها .
وقل لهم أيضاً : { وَلاَ تتبعوا أَهْوَآءَ قَوْمٍ } أي : ولا تتبعوا شهوات وأقوال قوم من أسلافكم وعلمائكم ورؤسائكم { قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ } أي : قد ضلوا من قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم بتحريفهم للكتب السماوية وتركهم لتعاليمها جرياً وراء شهواتهم وأهوائهم { وَأَضَلُّواْ كَثِيراً } أي أنهم لم يكتفوا بضلال أنفسهم بل أضلوا أناساً كثيرين سواهم ممن قلدهم ووافقهم على أكاذيبهم وقوله : { وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السبيل } معطوف على قوله { قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ } .
أي أنهم قد ضلوا من قبل البعثة النبوية الشريفة ، وضلوا من بعدها عن { سَوَآءِ السبيل } أي : عن الطريق الواضح الذي أتى به النبي صلى الله عليه وسلم وهو طريق الإِسلام وذلك لأنهم لم يتبعوه مع معرفتهم بصدقه ؛ بل كفروا به حسدا له على ما آتاه الله من فضله .
فأنت ترى أنه - تعالى - قد وصفهم - كما يقول الإِمام الرازي - بثلاث درجات في الضلال : فبين أنهم كانوا ضالين من قبل ، ثم ذكر أنهم كانوا مضلين لغيرهم ، ثم ذكر أنهم استمروا على تلك الحالة حتى الآن ضالون كما كانوا ولا نجد حالة أقرب إلى البعد من الله والقرب من عقابه من هذه الحالة ويحتمل أنهم ضلوا وأضلوا ثم ضلوا بسبب اعتقادهم في ذلك الإِضلال أنه إرشاد إلى الحق .
هذا ، ومما أخذه العلماء من هذه الآية الكريمة أن الغلو في الدين لا يجوز وهو مجاوزة الحق إلى الباطل وقد سقنا من الآثار ما يشهد بذلك عند تفسيرنا لصدر الآية الكريمة .
قال صاحب الكشاف ما ملخصه دلت الآية على أن الغلو في الدين غلوان " غلو حق " وهو أن يفحص عن حقائقه ، ويفتش عن أباعد معانيه ، ويجتهد في تحصيل حججه كما يفعل المتكلمون . وغلوا باطل ، وهو أن يتجاوز الحق ويتخطاه بالإِعراض عن الأدلة واتباع الشبه . كما يفعل أهل الأهواء والبدع والضلال .
{ قُلْ يََأَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقّ وَلاَ تَتّبِعُوَاْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلّواْ كَثِيراً وَضَلّواْ عَن سَوَآءِ السّبِيلِ } . .
وهذا خطاب من الله تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم . يقول تعالى ذكره : قل يا محمد لهؤلاء الغالية من النصارى في المسيح : يا أهْلَ الكِتابِ يعني بالكتاب : الإنجيل ، لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ يقول : لا تفْرطوا في القول فيما تدينون به من أمر المسيح ، فتجاوزوا فيه الحقّ إلى الباطل ، فتقولوا فيه : هو الله ، أو هو ابنه ولكن قولوا : هو عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه . وَلا تَتّبِعُوا أهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلّوا مِنْ قَبْلُ وأضَلّوا كَثِيرا يقول : ولا تتبعوا أيضا في المسيح أهواء اليهود الذين قد ضلوا قبلكم عن سبيل الهدي في القول فيه ، فتقولون فيه كما قالوا : هو لغير رِشْدة ، وتَبْهتوا أمه كما بيهتونها بالفرية ، وهي صدّيقة . وأضَلّوا كَثِيرا يقول تعالى ذكره : وأضلّ هؤلاء اليهود كثيرا من الناس ، فحادوا بهم عن طريق الحقّ وحملوهم على الكفر بالله والتكذيب بالمسيح . وَضَلّوا عَنْ سَوَاءِ السّبِيلِ يقول : وضلّ هؤلاء اليهود عن قصد الطريق ، وركبوا غير محجة الحقّ وإنما يعني تعالى ذكره بذلك كفرهم بالله وتكذيبهم رسله عيسى ومحمدا صلى الله عليه وسلم ، وذهابهم عن الإيمان وبُعْدهم منه . وذلك كان ضلالهم الذي وصفهم الله به .
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : وَضَلّوا عَنْ سَوَاءِ السّبِيلِ قال : يهود .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن مفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : لا تَتّبِعُوا أهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضلّوا مِنْ قَبْلُ وأضَلّوا كَثِيرا فهم أولئك الذين ضلوا وأضلوا أتباعهم . وَضَلّوا عَنْ سَوَاءِ السّبِيلِ عن عدل السبيل .
الخطاب لعموم أهل الكتاب من اليهود والنّصارى ، وتقدّم تفسير نظيره في آخر سورة النّساء . والغلوّ مصدر غَلا في الأمر : إذا جاوزَ حدّه المعروف . فالغلوّ الزّيادة في عَمل على المتعارف منه بحسب العقل أو العادة أو الشرع .
وقوله : { غيرَ الحقّ } منصور على النّيابة عن مفعول مطلق لفعل { تغلوا } أي غلوّاً غير الحقّ ، وغير الحقّ هو الباطل . وعدل عن أن يقال باطلاً إلى { غيرَ الحق } لِما في وصف غير الحقّ من تشنيع الموصوف . والمراد أنّه مخالف للحقّ المعروف فهو مذموم ؛ لأنّ الحقّ محمود فغيره مذموم . وأريد أنّه مخالف للصّواب احترازاً عن الغلوّ الّذي لا ضير فيه ، مثل المبالغة في الثّناء على العمل الصّالح من غير تجاوز لما يقتضيه الشرع . وقد أشار إلى هذا قوله تعالى : { يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلاّ الحقّ } في سورة النّساء ( 171 ) . فمِن غُلوّ اليهود تجاوزُهم الحدّ في التّمسك بشرع التّوراة بعد رسالة عيسى ومحمد عليهما الصّلاة والسّلام . ومن غلوّ النّصارى دعوى إلهيّة عيسى وتكذيبُهم محمداً . ومن الغلوّ الّذي ليس باطلاً ما هو مثل الزّيادة في الوضوء على ثلاث غسلات فإنّه مكروه .
وقوله : { ولا تتّبعوا أهواء قوم قد ضلّوا من قبل } عطف على النّهي عن الغلوّ ، وهو عطف عامّ من وجه على خاصّ من وجه ؛ ففيه فائدة عطف العامّ على الخاصّ وعطف الخاصّ على العامّ ، وهذا نهي لأهل الكتاب الحاضرين عن متابعة تعاليم الغُلاة من أحبارهم ورُهبانهم الّذين أساءوا فهم الشريعة عن هوى منهم مخالف للدّليل . فلذلك سمّي تغاليهم أهواء ، لأنّها كذلك في نفس الأمر وإن كان المخاطبون لا يعرفون أنّها أهواء فضلّوا ودعوا إلى ضلالتهم فأضلّوا كثيراً مثل ( قيافا ) حَبر اليهود الّذي كفَّر عيسى عليه السّلام وحكم بأنّه يقتل ، ومثل المجمع الملكاني الّذي سجّل عقيدة التثليث .
وقوله { من قبلُ } معناه من قبِلكِم . وقد كثر في كلام العرب حذف ما تضاف إليه قبلُ وبعدُ وغيرُ وحسبُ ودونَ ، وأسماء الجهات ، وكثر أن تكون هذه الأسماء مبنيّة على الضمّ حينئذٍ ، ويندر أن تكون معربة إلاّ إذا نُكّرت . وقد وجّه النحويّون حالة إعراب هذه الأسماء إذا لم تنكَّر بأنّها على تقدير لفظ المضاف إليه تفرقة بين حالة بنائها الغالبة وحالة إعرابها النّادرة ، وهو كشف لسر لطيف من أسرار اللّغة .
وقوله : { وضلّوا عن سواء السّبيل } مقابل لقوله : { قد ضلّوا من قبلُ } فهذا ضلال آخر ، فتعيّن أنّ سواء السّبيل الذي ضلّوا عنه هو الإسلام . والسواء المستقيمُ ، وقد استعير للحقّ الواضح ، أي قد ضلّوا في دينهم من قبل مجيء الإسلام وضلّوا بعدَ ذلك عن الإسلام .
وقيل : الخطاب بقوله : { يأهل الكتاب } للنّصارى خاصّة ، لأنّه ورد عقب مجادلة النّصارى وأنّ المراد بالغلوّ التّثليث ، وأنّ المراد بالقوم الّذين ضلّوا من قبل هم اليهود . ومعنى النّهي عن متابعة أهوائهم النّهي عن الإتيان بمثل ما أتوا به بحيث إذا تأمّل المخاطبون وجدوا أنفسهم قد اتّبعوهم وإن لم يكونوا قاصدين متابعتهم ؛ فيكون الكلام تنفيراً للنّصارى من سلوكهم في دينهم المماثل لسلوك اليهود ، لأنّ النّصارى يبغضون اليهود ويعرفون أنّهم على ضلال .