{ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ } أي : قد قصرن طرفهن على أزواجهن ، من حسنهم وجمالهم ، وكمال محبتهن لهم ، وقصرن أيضا طرف أزواجهن عليهن ، من حسنهن وجمالهن ولذة وصالهن ، { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ } أي : لم ينلهن قبلهم أحد من الإنس والجن ، بل هن أبكار عرب ، متحببات إلى أزواجهن ، بحسن التبعل والتغنج والملاحة والدلال ، ولهذا قال : { كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ }
ثم بين - سبحانه - ألوانا أخرى من نعيمهم فقال : { فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطرف لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ } .
وقوله - سبحانه - : { قَاصِرَاتُ الطرف } صفة لموصوف محذوف . والطمث : كناية عن افتضاض البكارة . يقال : طمث الرجل امرأته - من باب ضرب وقتل - ، إذا أزال بكارتها . وأصل الطمث : الجماع المؤدى إلى خروج دم الفتاة البكر ، ثم أطلق على كل جماع وإن لم يكن معه دم .
أى : فى هاتين الجنتين اللتين أعدهما - سبحانه - لمن خاف مقامه . . . نساء قاصرات عيونهم على أزواجهن ، ولا يتلفتن إلى غيرهم . وهؤلاء النساء من صفاتهن - أيضا - أنهن أبكار ، لم يلمسهن ولم يزل بكارتهن أحد قبل هؤلاء الأزواج . . . وكأن هؤلاء النساء فى صفائهن وجمالهن وحمرة خدودهن . . . الياقوت والمرجان .
القول في تأويل قوله تعالى : { فِيهِنّ قَاصِرَاتُ الطّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنّ * فَبِأَيّ آلآءِ رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ } .
يقول تعالى ذكره في هذه الفرش التي بطائنها من إستبرق قاصِرَاتُ الطّرْفِ وهنّ النساء اللاتي قد قُصرَ طرفهنّ على أزواجهنّ ، فلا ينظرن إلى غيرهم من الرجال . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن عبيد المحاربي ، قال : ثني أبي ، عن أبي يحيى ، عن مجاهد ، في قوله : فِيهِنّ قاصِرَاتُ الطّرْفِ قال : قَصُر طرفهنّ عن الرجال ، فلا ينظرن إلا إلى أزواجهنّ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة فِيهِنّ قاصِرَاتُ الطّرْفِ . . . الاَية ، يقول : قُصِر طرفهنّ على أزواجهنّ ، فلا يردن غيرهم .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : قاصِراتُ الطّرْفِ قال : لا ينظرن إلا إلى أزواجهنّ ، تقول : وعزّة ربي وجلاله وجماله ، إن أرى في الجنة شيئا أحسن منَك ، فالحمد لله الذي جعلك زوجي ، وجعلني زوجَك .
وقوله : لَمْ يَطْمِثْهُنّ إنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جانّ يقول : لم يمسهن إنس قبل هؤلاء الذين وصف جلّ ثناؤه صفتهم ، وهم الذين قال فيهم ولِمَنْ خافَ مَقامَ رَبّهِ جَنّتانِ ولا جان يقال منه : ما طمث هذا البعيرَ حبلٌ قطّ : أي ما مَسّهُ حبل .
وكان بعض أهل العلم بكلام العرب من الكوفيين يقول : الطمث هو النكاح بالتدمية ، ويقول : الطمث هو الدم ، ويقول : طمثها إذا دماها بالنكاح . وإنما عنى في هذا الموضع أنه لم يجامعهنّ إنس قبلهم ولا جانّ . وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثني عليّ ، قال : حدثنا أبو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، قوله : لَمْ يَطْمِثْهُنّ إنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جانّ يقول : لم يُدْمِهنّ إنس ولا جانّ .
حدثنا ابن حُمَيد ، قال : حدثنا مهران ، عن سفيان ، عن إسماعيل ، عن رجل عن عليّ لَمْ يَطْمِثْهُنّ إنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جانّ قال : منذ خلقهنّ .
حدثنا الحسين بن يزيد الطحان ، قال : حدثنا أبو معاوية الضرير ، عن مغيرة بن مسلم ، عن عكرمة ، قال : لا تقل للمرأة طامث ، فإن الطّمْث هو الجماع ، إن الله يقول : لَمْ يَطْمِثْهُنّ إنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جانّ .
حدثنا يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد في قوله : لَمْ يَطْمِثْهُنّ إنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جانّ قال : لم يَمَسّهنّ شيء إنس ولا غيره .
حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحارث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قوله : لَمْ يَطْمِثْهُنّ إنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جانّ قال : لم يَمَسّهنّ .
حدثنا عمرو بن عبد الحميد الاَملي ، قال : حدثنا مروان بن معاوية ، عن عاصم ، قال : قلت لأبي العالية امرأة طامث ، قال : ما طامث ؟ فقال رجل : حائض ، فقال أبو العالية : حائض ، أليس يقول الله عزّ وجل لَمْ يَطْمِثْهُنّ إنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جانّ .
فإن قال قائل : وهل يجامع النساءَ الجنّ ، فيقال : لَمْ يَطْمِثْهُنّ إنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جانّ ؟ فإن مجاهدا روي عنه ما .
حدثني به محمد بن عمارة الأسدي ، قال : حدثنا سهل بن عامر ، قال : حدثنا يحيى بن يَعْلَى الأسلميّ عن عثمان بن الأسود ، عن مجاهد ، قال : إذا جامع ولم يسمّ ، انطوى الجانّ على إحليله فجامع معه ، فذلك قوله : لَمْ يَطْمِثْهُنّ إنْس قَبْلَهُمْ وَلا جانّ .
وكان بعض أهل العلم ينتزع بهذه الاَية في أن الجنّ يدخلون الجنة . ذكر من قال ذلك :
حدثني أبو حُمَيد أحمد بن المغيرة الحمصي ، قال : ثني أبو حَيْوة شريح بن يزيد الحضرمي ، قال : ثني أرطاة بن المنذر ، قال : سألت ضَمْرة بن حبيب : هل للجنّ من ثواب ؟ قال : نعم ، ثم نزع بهذه الاَية لَمْ يَطْمِثْهُنّ إنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جانّ فالإنسيات للإنس ، والجنيات للجنّ .
ضمير { فيهن } عائد إلى فرش وهو سبب تأخير نعم أهل الجنة بلذة التأنّس بالنساء عن ما في الجنات من الأفنان والعيون والفواكه والفرش ، ليكون ذكر الفرش مناسباً للانتقال إلى الأوانس في تلك الفرش وليجيء هذا الضمير مفيداً معنى كثيراً من لفظ قليل ، وذلك من خصائص الترتيب في هذا التركيب .
ف { قاصرات الطرف } كائنة في الجنة وكائنة على الفُرش مع أزواجهن قال تعالى : { وفرش مرفوعة إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكاراً } [ الواقعة : 34 36 ] الآية .
و { قاصرات الطرف } : صفة لموصوف محذوف تقديره نساء ، وشاع المدح بهذا الوصف في الكلام حتى نُزّل منزلة الاسم ف { قاصرات الطرف } نساء في نظرهن مثل القصور والغضِّ خِلقة فيهن ، وهذا نظير ما يقول الشعراء من المولّدين مراض العيون ، أي : مثل المراض خِلقة . والقصور : مثل الغضِّ من صفات عيون المها والظباء ، قال كعب بن زهير :
وما سعاد غداةَ البين إذْ رحلُوا *** إلاّ أَغَنُّ غَضِيضُ الطرف مكحول
والطمْث بفتح الطاء وسكون الميم مسيس الأنثى البِكر ، أي من أبكار . وعُبِّر عن البكارة ب { لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان } إطناباً في التحسين ، وقد جاء في الآية الأخرى { فجعلناهن أبكاراً } [ الواقعة : 36 ] . وهؤلاء هن نساء الجنة لا أزواج المؤمنين اللآئي كُنَّ لهم في الدنيا لأنهن قد يكنّ طمثهم أزواج فإن الزوجة في الجنة تكون لآخر من تزوجها في الدنيا .
وقرأ الجمهور { يطمثهن } هنا ، وفي نظيره الآتي بكسر الميم . وقرأه الدُوري عن الكسائي بضم الميم وهما لغتان في مضارع طمث . ونقل عن الكسائي : التخييرُ بين الضم والكسر .
وقوله : { إنس قبلهم } أي لم يطمثهن أحد قبل ، وقوله : { ولا جان } تتميم واحتراس وهو إطناب دعا إليه أن الجنة دار ثواب لصالحي الإِنس والجن فلما ذكر { إنس } نشأ توهم أن يمَسهن جن فدفع ذلك التوهم بهذا الاحتراس .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.