{ 50 } { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا }
يخبر تعالى ، عن عداوة إبليس لآدم وذريته ، وأن الله أمر الملائكة بالسجود لآدم ، إكراما وتعظيما ، وامتثالا لأمر الله ، فامتثلوا ذلك { إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } وقال : { أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا } وقال : { أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ } فتبين بهذا عداوته لله ولأبيكم ولكم ، فكيف تتخذونه وذريته أي : الشياطين { أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا } أي : بئس ما اختاروا لأنفسهم من ولاية الشيطان ، الذي لا يأمرهم إلا بالفحشاء والمنكر عن ولاية الرحمن ، الذي كل السعادة والفلاح والسرور في ولايته . وفي هذه الآية ، الحث على اتخاذ الشيطان عدوا ، والإغراء بذلك ، وذكر السبب الموجب لذلك ، وأنه لا يفعل ذلك إلا ظالم ، وأي : ظلم أعظم من ظلم من اتخذ عدوه الحقيقي وليا ، وترك الولي الحميد ؟ " .
قال تعالى : { اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ } وقال تعالى : { إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ }
فقوله - سبحانه - : { وَإِذْ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمََ فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ } تذكير لبنى آدم بالعداوة القديمة بين أبيهم آدم وبين إبليس وذريته .
والمقصود بهذا التذكير تحذيرهم من وساوسه ، وحضهم على مخالفته ، كما قال - تعالى - : { إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السعير } والملائكة : جمع ملك . وهم - كما وصفهم الله تعالى - : { لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } وآدم : اسم لأبى البشر ، قيل : إنه اسم عبرانى مشتق من أدمه بمعنى التراب .
والسجود لغة : التذلل والخضوع . وخص فى الشرع بوضع الجبهة على الأرض بقصد العبادة .
وإبليس اسم مشتق من الإِبلاس ، وهو الحزن الناشئ عن شدة اليأس وفعله أبلس ، والراجح أنه اسم أعجمى . ومنعه من الصرف للعلمية والعجمة .
والمعنى - واذكر - أيها العاقل - لتعتبر وتتعظ ، وقت أن قلنا للملائكة اسجدوا لآدم ، سجود تحية واحترام وتوقير ، لا سجود عبادة وطاعة لأن ذلك لا يكون إلا لله رب العالمين . فامتثلوا أمرنا وسجدوا جميعاً ، كما قال - تعالى - : { فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ } وجاء العطف فى قوله { فسجدوا } بالفاء المفيدة للتعقيب ، للإِشارة إلى أن الملائكة قد بادروا بالامتثال بدون تردد ، استجابة لأمر خالقهم - عز وجل .
وقوله - تعالى - { إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } بيان لموقف إبليس من أمر الله تعالى ، وهو أنه أبى واستكبر وامتنع عن السجود لآدم . وظاهر الآية يفيد أن سبب فسقه عن أمر ربه : كونه من الجن لا من الملائكة إذ من المقرر فى علم الأصول ؛ أن الفاء من الحروف الدالة على التعليل ، كما فى قولهم ، سرق فقطعت يده .
والمعنى : امتثل الملائكة جميعاً أمرنا فسجدوا لآدم ، إلا إبليس فإنه أبى واستكبر ولم يسجد ؛ لأنه كان من الجن ولم يكن من الملائكة { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } أى . فخرج بذلك عن طاعتنا ، واستحق لعنتنا وغضبنا .
وأصل الفسق : الخروج عن الطاعة مأخوذ من قولهم : فسق الرطب فسوقا إذا خرج عن قشره وهو أعم من الكفر ، فيقال للعاصى فاسق ، وللكافر فاسق .
قال بعض العلماء ما ملخصه : والخلاف فى كون إبليس من الملائكة أولا مشهور عند أهل العلم .
وحجة من قال إنه ليس منهم أمران : أحدهما : عصمة الملائكة من ارتكاب الكفر الذى ارتكبه إبليس ، فهم - كما قال الله عنهم : { لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } والثانى : أن الله - تعالى - صرح فى هذه الآية الكريمة بأنه كان من الجن ، والجن غير الملائكة . قالوا : وهو نص قرآنى فى محل النزاع .
واحتج من قال بأنه منهم ، بما تكرر فى الآيات القرآنية من قوله : { فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ }
قالوا : فإخراجه بالاستثناء من لفظ الملائكة دليل على أنه منهم ، والظواهر إذا كثرت صارت بمنزلة النص ومن المعلوم أن الأصل فى الاستثناء الاتصال لا الانقطاع .
قالوا : ولا حجة لمن خالفنا فى قوله - تعالى - { كَانَ مِنَ الجن } ، لأن الجن قبيلة من الملائكة ، خلقوا من بين الملائكة من نار السموم .
وأظهر الحجج فى المسألة . حجة من قال : إنه ليس من الملائكة ، لأن قوله - تعالى - { إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن } هو أظهر شئ فى الموضوع من نصوص الوحى ، والعلم عند الله - تعالى - .
ومن المفسرين الذين يدل كلامهم على أن إبليس لم يكن من الملائكة . الإِمام ابن كثير ، فقد قال - رحمه الله - قوله : { فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن } أى : خانه أصله ، فإنه خلق من مارج من نار ، وأصل خلق الملائكة من نور ، كما ثبت فى صحيح مسلم ، عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " خلقت الملائكة من نور ، وخلق إبليس من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم " فعند الحاجة نضح كل إناء بما فيه ، وخانه الطبع عند الحاجة ، وذلك أنه قد توسم بأفعال الملائكة ، وتشبه بهم ، وتعبد وتنسك فلهذا دخل فى خطابهم ، وعصى بالمخالفة .
ونبه - تعالى - هاهنا على أنه { من الجن } أى : " أنه خلق من نار . . " .
ثم ختم - سبحانه - الآية الكريمة بالإِنكار والتوبيخ والتعجيب ممن يتبع خطوات إبليس وذريته فقال : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } .
أى : أفبعد أن ظهر لكم - يا بنى آدم - ما ظهر من فسوق إبليس عن أمر ربه ، تتخذونه وذريته الذين نهجوا نهجه ، أولياء ، وأصفياء من دونى ، فتطيعونهم بدل أن تطيعونى ، والحال أن إبليس وذريته لكم عدو ؟
لا شك أن من يفعل ذلك منكم يكون قد استبدل الذى هو أدنى بالذى هو خير ، وآثر الغى على الرشد ، والضلالة على الهداية ، والفسوق على الإِيمان ! ! .
فالجملة الكريمة تستبعد من كل عاقل ، أن يطيع إبليس وذريته ، بعد أن تبين له عداوتهم إياه ، وحرصهم على إيقاعه فى موارد الهلكة والسوء .
وقوله : { وذريته } يدل على أن لإِبليس ذرية ، إلا أن الطريقة التى بواسطتها كانت له الذرية ، لم يرد بها نص صحيح يعتمد عليه ، لذا وجب تفويض علمها إلى - الله تعالى - .
قال الآلوسى عند تفسيره لهذه الآية : والظاهر أن المراد من الذرية الأولاد فتكون الآية دالة على أن له أولادا ، وبذلك قال جماعة . . وعن قتادة أنه قال : إنه ينكح وينسل كما ينسل بنو آدم .
ثم قال الآلوسى : ولا يلزمنا أن نعلم كيفية ولادته ، فكثير من الأشياء مجهول الكيفية عندنا ، ونقول به .
وقوله - تعالى - : { بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } حكم منه - سبحانه - بسوء التفكير والمصير على المتخذين إبليس وذريته أولياء من دونه - تعالى - وبئس فعل يفيد الذم ، والبدل : العوض عن الشئ .
أى بئس للظالمين ، الواضعين الشئ فى غير موضعه ، ما فعلوه من تركهم طاعة الله - تعالى - وأخذهم فى مقابل ذلك طاعة إبليس وذريته .
والمخصوص بالذم محذوف دل عليه المقام والتقدير : بئس البدل والعوض عن طاعة الله - تعالى - طاعة إبليس وذريته .
القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لاَدَمَ فَسَجَدُوَاْ إِلاّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ أَفَتَتّخِذُونَهُ وَذُرّيّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوّ بِئْسَ لِلظّالِمِينَ بَدَلاً } .
يقول تعالى ذكره مذكّرا هؤلاء المشركين حسد إبليس أباهم ومعلمهم ما كان منه من كبره واستكباره عليه حين أمره بالسجود له ، وأنه من العداوة والحسد لهم على مثل الذي كان عليه لأبيهم : وَ اذكر يا محمد إذْ قُلْنا للْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لاَدَمَ فَسَجَدُوا إلاّ إبْلِيسَ الذي يطيعه هؤلاء المشركون ويتبعون أمره ، ويخالفون أمر الله ، فإنه لم يسجد له استكبارا على الله ، وحسدا لاَدم كانَ مِنَ الجِنّ .
واختلف أهل التأويل في معنى قوله كانَ مِنَ الجِنّ فقال بعضهم : إنه كان من قبيلة يقال لهم الجنّ . وقال آخرون : بل كان من خزّان الجنة ، فنُسب إلى الجنة . وقال آخرون : بل قيل من الجنّ ، لأنه من الجنّ الذين استجنوا عن أعين بني آدم . ذكر من قال ذلك :
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن خلاد بن عطاء ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : كان اسمه قبل أن يركب المعصية عزازيل ، وكان من سكان الأرض ، وكان من أشدّ الملائكة اجتهادا وأكثرهم علما ، فذلك هو الذي دعاه إلى الكبر ، وكان من حيّ يسمى جنا .
حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : كان إبليس من حيّ من أحياء الملائكة يقال لهم الجنّ ، خُلقوا من نار السموم من بين الملائكة ، وكان اسمه الحارث . قال : وكان خازنا من خزّان الجنة . قال : وخُلقت الملائكة من نور غير هذ الحيّ . قال : وخُلقت الجنّ الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار ، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت .
حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني شيبان ، قال : حدثنا سلام بن مسكين ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، قال : كان إبليس رئيس ملائكة سماء الدنيا .
حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي عن الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله : إلاّ إبْلِيسَ كانَ مِنَ الجِن قال : كان إبليس من خزّان الجنة ، وكان يدبر أمر سماء الدنيا .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : كان إبليس من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة . وكان خازنا على الجنان ، وكان له سلطان السماء الدنيا ، وكان له سلطان الأرض ، وكان فيما قضى الله أنه رأى أن له بذلك شرفا وعظمة على أهل السماء ، فوقع من ذلك في قلبه كبر لا يعلمه إلا الله فما كان عند السجود حين أمره أن يسجد لاَدم استخرج الله كبره عند السجود ، فلعنه وأخّره إلى يوم الدين . قال : قال ابن عباس : وقوله : كانَ مِنَ الجِنّ إنما سمي بالجنان أنه كان خازنا عليها ، كما يقال للرجل : مكيّ ، ومدنيّ ، وكوفيّ ، وبصريّ ، قاله ابن جريج .
وقال آخرون : هم سبط من الملائكة قبيلة ، وكان اسم قبيلته الجنّ :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن صالح مولى التوأمة ، وشريك بن أبي نمر أحدهما أو كلاهما ، عن ابن عباس ، قال : إن من الملائكة قبيلة من الجنّ ، وكان إبليس منها ، وكان يسوس ما بين السماء والأرض ، فعصى ، فسخط الله عليه فمسخه شيطانا رجيما ، لعنه الله ممسوخا . قال : وإذا كانت خطيئة الرجل في كبر فلا ترجه ، وإذا كانت خطيئته في معصية فارجه ، وكانت خطيئة آدم في معصية ، وخطيئة إبليس في كبر .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَإذْ قُلْنا للْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لاَدَمَ فَسَجَدُوا إلاّ إبْلِيسَ كانَ مِنَ الجِنّ قبيل من الملائكة يقال لهم الجنّ . وقال ابن عباس : لو لم يكن من الملائكة لم يؤمر بالسجود ، وكان على خزانة السماء الدنيا . قال : وكان قتادة يقول : جنّ عن طاعة ربه . وكان الحسن يقول : ألجأه الله إلى نسبه .
حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله إلاّ إبْلِيسَ كانَ مِنَ الجِنّ قال : كان من قبيل من الملائكة يقال لهم الجنّ .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط ، وإنه لأصل الجنّ ، كما أن آدم عليه السلام أصل الإنس .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : كان إبليس على السماء الدنيا وعلى الأرض وخازن الجنان .
حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : فَسَجَدُوا إلاّ إبْلِيسَ كانَ مِنَ الجِنّ : كان ابن عباس يقول : إن إبليس كان من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة ، وكان خازنا على الجنان ، وكان له سلطان السماء الدنيا وسلطان الأرض ، وكان مما سوّلت له نفسه من قضاء الله أنه رأى أن له بذلك شرفا على أهل السماء ، فوقع من ذلك في قلبه كبر لا يعلمه إلا الله ، فاستخرج الله ذلك الكبر منه حين أمره بالسجود لاَدم ، فاستكبر وكان من الكافرين ، فذلك قوله للملائكة : إنّي أعْلَمُ غَيْبَ السّمَوَاتِ والأرْضِ وأعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُم تَكْتُمُونَ يعني : ما أسرّ إبليس في نفسه من الكبر .
وقوله : كانَ مِنَ الجِنّ كان ابن عباس يقول : قال الله كانَ مِنَ الجِنّ لأنه كان خازنا على الجنان ، كما يقال للرجل : مكيّ ، ومدني ، وبصريّ ، وكوفيّ .
وقال آخرون : كان اسم قبيلة إبليس الجنّ ، وهم سبط من الملائكة يقال لهم الجنّ ، فلذلك قال الله عزّ وجلّ كانَ مِنَ الجِنّ فنسبه إلى قبيلته .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، في قوله كانَ مِنَ الجِنّ قال : من الجنانين الذين يعملون في الجنان .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا أبو سعيد اليحمدي إسماعيل بن إبراهيم ، قال : ثني سوار بن الجعد اليحمدي ، عن شهر بن حوشب ، قوله : مِنَ الجنّ قال : كان إبليس من الجنّ الذين طردتهم الملائكة ، فأسره بعض الملائكة ، فذهب به إلى السماء .
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله إلاّ إبْليسَ كانَ مِنَ الجِنّ فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبّهِ قال : كان خازن الجنان فسمي بالجنان .
حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي ، قال : حدثنا أحمد بن بشير ، عن سفيان بن أبي المقدام ، عن سعيد بن جبير ، قال : كان إبليس من خزنة الجنة .
القول في ذلك فيما مضى من كتابنا هذا ، وذكرنا اختلاف المختلفين فيه ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .
وقوله : فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبّهِ يقول : فخرج عن أمر ربه ، وعدل عنه ومال ، كما قال رؤبة :
يَهْوِينَ فِي نَجْدٍ وغَوْرا غائرَا *** فَوَاسقا عَنْ قَصْدِها جَوَائِرَا
يعني بالفواسق : الإبل المنعدلة عن قصد نجد ، وكذلك الفسق في الدين إنما هو الانعدال عن القصد ، والميل عن الاستقامة . ويُحكى عن العرب سماعا : فسقت الرطبة من قشرها : إذا خرجت منه ، وفسقت الفأرة : إذا خرجت من جحرها . وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول : إنما قيل : فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبّهِ لأنه مراد به : ففسق عن ردّه أمر الله ، كما تقول العرب : اتخمت عن الطعام ، بمعنى : اتخمت لما أكلته . وقد بيّنا
القول في ذلك ، وأن معناه : عدل وجار عن أمر الله ، وخرج عنه . وقال بعض أهل العلم بكلام العرب : معنى الفسق : الاتساع . وزعم أن العرب تقول : فسق في النفقة : بمعنى اتسع فيها . قال : وإنما سمى الفاسق فاسقا ، لاتساعه في محارم الله . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى «ح » وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبّهِ قال : في السجود لاَدم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، في قوله فَفَسَق عَنْ أمْرِ رَبّهِ قال : عصى في السجود لاَدم .
وقوله : أفَتَتّخِذُونَهُ وَذُرّيّتَهُ أوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوّ يقول تعالى ذكره : أفتوالون يا بني آدم من استكبر على أبيكم وحسده ، وكفر نعمتي عليه ، وغرّه حتى أخرجه من الجنة ونعيم عيشه فيها إلى الأرض وضيق العيش فيها ، وتطيعونه وذرّيته من دون الله مع عدواته لكم قديما وحديثا ، وتتركون طاعة ربكم الذي أنعم عليكم وأكرمكم ، بأن أسجد لوالدكم ملائكته ، وأسكنه جناته ، وآتاكم من فواضل نعمه ما لا يحصى عدده ، وذرّية إبليس : الشياطين الذين يغرّون بني آدم . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد أفَتَتّخِذونَه وَذُرّيّتهُ أوْلِياءَ مِنْ دُونِي قال : ذرّيته : هم الشياطين ، وكان يعدّهم «زلنبوا » صاحب الأسواق ويضع رايته في كلّ سوق ما بين السماء والأرض ، و«ثبر » صاحب المصائب ، و«الأعور » صاحب الزنا و«مسوط » صاحب الأخبار ، يأتي بها فيلقيها في أفواه الناس ، ولا يجدون لها أصلاً ، و«داسم » الذي إذا دخل الرجل بيته ولم يسلم ولم يذكر الله بصره من المتاع ما لم يرفع ، وإذا أكل ولم يذكر اسم الله أكل معه .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : حدثنا حفص بن غياث ، قال : سمعت الأعمش يقول : إذا دخلتُ البيت ولم أسلم ، رأيت مطهرة ، فقلت : ارفعوا ارفعوا ، وخاصمتهم ، ثم أذكر فأقول : داسم داسم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، قال : هم أربعة ثبر ، وداسم ، وزلنبور ، والأعور ، ومسوط : أحدها .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أفَتَتّخِذُونَهُ وَذُرّيّتَهُ أوْلِياءَ مِنْ دُونِي . . . الاَية ، وهم يتوالدون كما تتوالد بنو آدم ، وهم لكم عدوّ .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : أفَتَتّخِذُونَهُ وَذُرّيّتَهُ أوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوّ وهو أبو الجنّ كما آدم أبو الإنس . وقال : قال الله لإبليس : إني لا أذرأ لاَدم ذرّية إلا ذرأت لك مثلها ، فليس من ولد آدم أحد إلا له شيطان قد قرن به .
وقوله : بِئْسَ للظّالِمينَ بَدَلاً يقول عزّ ذكره : بئس البدل للكافرين بالله اتخاذ إبليس وذرّيته أولياء من دون الله ، وهم لكم عدّو من تركهم اتخاذ الله وليا باتباعهم أمره ونهيه ، وهو المنعم عليهم وعلى أبيهم آدم من قبلهم ، المتفضّل عليهم من الفواضل ما لا يحصى بدلاً . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة بِئْسَ للظّالِمِينَ بَدَلاً بئْسما استبدلوا بعبادة ربهم إذ أطاعوا إبليس .
{ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس } كرره في مواضع لكونه مقدمة للأمور المقصود بيانها في تلك المحال ، وها هنا لما شنع على المفتخرين واستقبح صنيعهم قرر ذلك بأنه من سنن إبليس ، أو لما بين حال المغرور بالدنيا والمعرض عنها وكان سبب الاغترار بها حب الشهوات وتسويل الشيطان . زهدهم أولا في زخارف الدنيا بأنها عرضة الزوال والأعمال الصالحة خير وأبقى من أنفسها وأعلاها ، ثم نفرهم عن الشيطان بتذكير ما بينهم من العداوة القديمة وهكذا مذهب كل تكرير في القرآن . { كان من الجنّ } حال بإضمار قد أو استئناف للتعليل كأنه قيل : ما له لم يسجد فقيل كان من الجن . { ففسق عن أمر ربه } فخرج عن أمره بترك السجود والفاء للسبب ، وفيه دليل على أن الملك لا يعصى البتة وإنما عصى إبليس لأنه كان جنياً في أصله والكلام المستقصى فيه في سورة " البقرة " . { أفتتخذونه } أعقيب ما وجد منه تتخذونه والهمزة للإنكار والتعجب . { وذرّيته } أولاده أو أتباعه ، وسماهم ذرية مجازاً . { أولياء من دوني } فتستبدلونهم بي فتطيعونهم بدل طاعتي . { وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلاً } من الله تعالى إبليس وذريته .
عطف على جملة { ويوم نسير الجيال } [ الكهف : 47 ] بتقدير : واذكر إذ قلنا للملائكة ، تفننا لغرض الموعظة الذي سيقت له هذه الجمل ، وهو التذكير بعواقب اتباع الهوى والأعراضُ عن الصالحات ، وبمداحض الكبرياء والعُجب واحتقار الفضيلة والابتهاج بالأعراض التي لا تكسب أصحابها كمالاً نفسياً . وكما وُعظوا بآخر أيام الدنيا ذُكروا هنا بالموعظة بأول أيامها وهو يوم خلق آدم ، وهذا أيضاً تمهيد وتوطئة لقوله : { ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم } الآية [ الكهف : 52 ] ، فإن الإشراك كان من غرور الشيطان ببني آدم .
ولها أيضاً مناسبة بما تقدم من الآيات التي أنحت على الذين افتخروا بجاههم وأموالهم واحتقروا فقراء أهل الإسلام ولم يميزوا بين الكمال الحق والغرور الباطل ، كما أشار إليه قوله تعالى : { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } [ الكهف : 28 ] ، فكان في قصة إبليس نحو آدم مَثل لهم ، ولأن في هذه القصة تذكيراً بأن الشيطان هو أصل الضلال ، وأن خسران الخاسرين يوم القيامة آيل إلى اتباعهم خُطواتِ الشيطان وأوليائه . ولهذا فرع على الأمرين قوله تعالى : { أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو } .
وهذه القصة تكررت في مواضع كثيرة من القرآن ، وهي في كل موضع تشتمل على شيء لم تشتمل عليه في الآخر ، ولها في كل موضع ذُكرت فيه عبرة تخالف عِبرة غيره ، فذكرها في سورة البقرة ( مَثلاً ) إعلام بمبادىء الأمور ، وذكرها هنا تنظير للحال وتوطئة للإنكار والتوبيخ ، وقس على ذلك .
وفَسق : تجاوز عن طاعته . وأصله قولهم : فسقت الرُّطبَة ، إذا خرجت من قشرها فاستعمل مجازاً في التجاوز . قال أبو عبيدة . والفسق بمعنى التجاوز عن الطاعة . قال أبو عبيدة : « لم نسمع ذلك في شيء من أشعار الجاهلية ولا أحاديثها وإنما تكلم به العرب بعد نزول القرآن » ، أي في هذه الآية ونحوها . ووافقه المبرد وابن الأعرابي . وأطلق الفسق في مواضع من القرآن على العصيان العظيم ، وتقدم في سورة البقرة ( 26 ) عند قوله تعالى : { وما يضل به إلا الفاسقين .
والأمر في قوله : { عن أمر ربه } بمعنى المأمور ، أي ترك وابتعد عما أمره الله به .
والعدول في قوله : { عن أمر ربه } إلى التعريف بطريق الإضافة دون الضمير لتفظيع فسق الشيطان عن أمر الله بأنه فسق عبد عن أمر من تجب عليه طاعته لأنه مالكه .
وفرع على التذكير بفسق الشيطان وعلى تعاظمه على أصل النوع الإنساني إنكار اتخاذه واتخاذ جنده أولياء لأن تكبره على آدم يقتضي عداوته للنوع ، ولأن عصيانه أمر مالكه يقتضي أنه لا يرجى منه خير وليس أهلاً لأن يُتبع .
والاستفهام مستعمل في الإنكار والتوبيخ للمشركين ، إذ كانوا يعبدون الجن ، قال تعالى : { وجعلوا لله شركاء الجن } [ الأنعام : 100 ] . ولذلك علل النهي بجملة الحال وهي جملة { وهم لكم عدو } .
والذرية : النسل ، وذرية الشيطان الشياطين والجن .
والعدو : اسم يصدق على الواحد وعلى الجمع ، قال تعالى : { يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة } [ الممتحنة : 1 ] وقال : { هم العدو } [ المنافقون : 4 ] .
عومل هذا الاسم معاملة المصادر لأنه على زنة المصدر مثل القبول والوَلُوع ، وهما مصدران . وتقدم عند قوله تعالى : { فإن كان من قوم عدو لكم } في سورة النساء ( 92 ) .
والولي : من يُتولَّى ، أي يتخذ ذا وَلاية بفتح الواو وهي القرب . والمراد به القرب المعنوي ، وهو الصداقة والنسب والحلف . و ( من ) زايدة للتوكيد ، أي تتخذونهم أولياء مباعدين لي . وذلك هو إشراكهم في العبادة ، فإن كل حالة يعبدون فيها الآلهة هي اتخاذٌ لهم أولياء من دون الله .
والخطاب في { أتتخذونه } وما بعده خطاب للمشركين الذين اتخذوه ولياً ، وتحذير للمسلمين من ذلك .
وجملة { بئس للظالمين بدلاً } مستأنفة لإنشاء ذم إبليس وذريته باعتبار اتخاذ المشركين إياهم أولياء ، أي بئس البَدل للمشركين الشيطان وذريته ، فقوله : { بدلاً } تمييز مفسر لاسم ( بئس ) المحذوف لقصد الاستغناء عنه بالتمييز على طريقة الإجمال ثم التفصيل .
والظالمون هم المشركون . وإظهار الظالمين في موضع الإضمار للتشهير بهم ، ولما في الاسم الظاهر من معنى الظلم الذي هو ذم لهم .