فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير للشوكاني - الشوكاني  
{وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا سِجِّينٞ} (8)

وسجين هو ما فسره به سبحانه من قوله : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجّينٌ * كتاب مَّرْقُومٌ } فأخبر بهذا أنه كتاب مرقوم : أي مسطور ، قيل : هو كتاب جامع لأعمال الشرّ الصادر من الشياطين والكفرة والفسقة ، ولفظ سجين علم له .

وقال قتادة وسعيد بن جبير ومقاتل وكعب : إنه صخرة تحت الأرض السابعة تقلب ، فيجعل كتاب الفجار تحتها ، وبه قال مجاهد ، فيكون في الكلام على هذا القول مضاف محذوف ، والتقدير : محل كتاب مرقوم . وقال أبو عبيدة والأخفش والمبرد والزجاج { لَفِي سِجّينٍ } : لفي حبس وضيق شديد ، والمعنى : كأنهم في حبس ، جعل ذلك دليلاً على خساسة منزلتهم وهوانها . قال الواحدي : ذكر قوم أن قوله : { كتاب مَّرْقُومٌ } تفسير لسجين ، وهو بعيد لأنه ليس السجين من الكتاب في شيء على ما حكيناه عن المفسرين ، والوجه أن يجعل بياناً لكتاب المذكور في قوله : { إِنَّ كتاب الفجار } على تقدير هو كتاب مرقوم : أي مكتوب قد بينت حروفه انتهى ، والأولى ما ذكرناه ، ويكون المعنى : إن كتاب الفجار الذين من جملتهم المطففون : أي ما يكتب من أعمالهم أو كتابة أعمالهم لفي ذلك الكتاب المدوّن للقبائح المختصّ بالشر ، وهو سجين . ثم ذكر ما يدل على تهويله وتعظيمه ، فقال : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجّينٌ } ثم بيّنه بقوله : { كتاب مَّرْقُومٌ } . قال الزجاج : معنى قوله : { وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجّينٌ } ليس ذلك مما كنت تعلمه أنت ولا قومك . قال قتادة : ومعنى { مرقوم } : رقم لهم بشرّ كأنه أعلم بعلامة يعرف بها أنه كافر . وكذا قال مقاتل . وقد اختلفوا في نون سجين ، فقيل : هي أصلية واشتقاقه من السجن ، وهو الحبس ، وهو بناء مبالغة كخمير وسكير وفسيق ، من الخمر والسكر والفسق . وكذا قال أبو عبيدة والمبرد والزجاج . قال الواحدي : وهذا ضعيف لأن العرب ما كانت تعرف سجيناً . ويجاب عنه : بأنه رواية هؤلاء الأئمة تقوم بها الحجة ، وتدل على أنه من لغة العرب ، ومنه قول ابن مقبل :

ورفقة يضربون البيض ضاحية *** ضرباً تواصت به الأبطال سجينا

وقيل : النون بدل من اللام ، والأصل سجيل ، مشتقاً من السجل ، وهو الكتاب . قال ابن عطية : من قال إن سجيناً موضع فكتاب مرفوع على أنه خبر إن ، والظرف وهو قوله : { لَفِي سِجّينٍ } ملغى ، ومن جعله عبارة عن الكتاب ، فكتاب خبر مبتدأ محذوف ، التقدير : هو كتاب ، ويكون هذا الكلام مفسراً لسجين ما هو ؟ كذا قال . قال الضحاك : مرقوم مختوم بلغة حمير ، وأصل الرقم الكتابة . قال الشاعر :

سأرقم بالماء القراح إليكم *** على بعدكم إن كان للماء راقم

/خ17