( سورة الغاشية مكية ، وآياتها 26 آية ، نزلت بعد سورة الذاريات ) .
وهي سورة قصيرة الآيات ، متناسقة الفواصل ، تطوّف بالقلب البشرى أمام الآخرة وأحوالها ، فأصحاب الجحيم يلقون أشد ألوان الألم والعذاب ، وأهل الجنة يتمتعون بألوان النعيم وصنوف التكريم ، ثم تعرض أمام الناظرين مشاهد الكون ، وآيات الله المبثوثة في خلائقه ، المعروضة للجميع .
ثم تذكّر الناس بحساب الآخرة ، وسيطرة الله ، وحتمية الرجوع إليه في نهاية المطاف ، كل ذلك في أسلوب عميق الإيقاع ، هادئ ولكنه نافذ ، رصين ولكنه رهيب .
1- الغاشية هي الداهية التي تغشى بشدائدها ، وتغمرهم بأهوالها ، والمراد بها هنا يوم القيامة ، وقد سبق في هذا الجزء وصف القيامة بالطامة والصاخة ، وسيأتي وصفها بالقارعة ، بما يناسب طبيعة التذكير والتهديد للمعاندين . والاستفهام هنا لتعظيم الأمر وتقديره ، أي : هل سمعت قصة يوم القيامة وما يقع فيه ؟
وعن عمر بن ميمون ، قال : مرّ النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة تقرأ : هل أتاك حديث الغاشية . فقام يستمع ويقول : ( نعم قد جاءني ) .
والخطاب مع ذلك عام لكل من يسمع القرآن .
2-7- إن وجوه الكفار في هذا اليوم تكون ذليلة ، لما يظهر عليها من الحزن والكآبة ، وسوف يلقون تعبا وإرهاقا في النار بسبب أعمالهم السيئة ، وسيدخلون النار المتأججة التي تلتهمهم ، وإذا عطشوا من شدة حرها ، وطلبوا ما يطفئ ظمأهم ، سقوا ، من عين آنية . أي : من ينبوع شديد الحرارة ، وإن يستغيثوا يغاثوا بما كالمهل يشوي الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقا . ( الكهف : 29 ) . وليس لهم طعام في النار إلا من ضريع ، والضريع : شجر ذو شوك لائط بالأرض ، فإذا كان رطبا سمي بالشبرق ، وإذا جنى صار اسمه الضريع ، ولم تستطع الإبل مذاقه فهو عندئذ سام ، والأكل منه لون من ألوان العذاب الشديد ، يضاف إلى ذلك الغسلين والغساق وباقي الألوان التي لا تسمن ولا تغني من جوع .
8-11- وجوه يومئذ ناعمة* لسعيها راضية* في جنة عالية* لا تسمع فيها لاغية .
هنا وجوه يبدو عليها النعيم ، ويفيض منها الرضا ، وجوه تنعم بما تجد ، وتشعر بالرضا عن عملها حين ترى رضا الله عنها ، وهذا النعيم في جنة عالية المقام ، مرتفعة على غيرها من الأماكن ، لأن الجنة منازل ودرجات بعضها أعلى من بعض ، كما أن النار دركات بعضها أسفل من بعض .
لا يسمع أهل الجنة لغوا ولا باطلا ، وإنما يعيشون في جو من السكون والهدوء والسلام والاطمئنان ، والود والرضا ، والنجاء والسمر بين الأحبة والأوداء ، والتنزه والارتفاع عن كل كلمة لاغية ، لا خير فيها ولا عافية ، وهذه وحدها نعيم وسعادة ، وتوحي الجملة بأن المؤمنين في الأرض حين ينأون عن اللغو والباطل إنما ينعمون بطرف من حياة الجنة ، ويتشبهون بأهلها .
12- فيها عين جارية . والعين الجارية : الينبوع المتدفق ، والمياه الجارية متعة للنفس وللنظر ، وقد افتخر بمثلها فرعون فقال : أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون . ( الزخرف : 51 ) .
13- فيها سرر مرفوعة . وفيها سرر عالية المكان والمقدار ، ليرى المؤمن وهو عليها ما خوله الله من النعم .
14- وأكواب موضوعة . مصفوفة مهيأة للشرب ، لا تحتاج إلى طلب ولا إعداد .
15- ونمارق مصفوفة . والنمارق الوسائد والحشايا ، قد صفت بعضها إلى بعض للاتكاء في ارتياح .
16- وزرابيّ مبثوثة . والزرابي هي البسط ( أي : السجاجيد ) . مبثوثة : أي : مبسوطة أو مفرقة هنا وهناك ، كما تراه في بيوت أهل النعمة . كل ذلك لتصوير النعمة والرفاهية واللذة ، وتقريبها لتصور الناس في الدنيا ، وإلا فنعيم تلك الدار نعيم لا يشبهه في هذه الدار نعيم ، فمتاع الدنيا قليل ، ومتاع الآخرة لا شبيه له ولا مثيل ، وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين وأنتم فيها خالدون . ( الزخرف : 71 ) .
فيها النعيم والرضا ، فيها السرور بالنجاة ، والأنس برضوان الله ، فيها ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر .
17- أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت .
يلفت القرآن الأنظار إلى دلائل قدرة الله ، وبديع صنعه ، فلينظر الإنسان إلى الجمال كيف خلقت ؟ وليتدبر كيف وجدت على هذا النحو المناسب لوظيفتها ، المحقق لغاية خلقها ، المتناسق مع بيئتها ووظيفتها جميعا ، إن الناس لم يخلقوها ، وهي لم تخلق نفسها ، فلا يبقى إلا أن تكون من إبداع المتفرد بصنعته ، التي تدل عليه وتقطع بوجوده ، كما تشى بتدبيره وتقديره .
18- وإلى السماء كيف رفعت . أفلا ينظرون إليها كيف رفعت ؟ ومن ذا رفعها بلا عمد ؟ ونثر فيها النجوم بلا عدد ؟ وجعل فيها هذه البهجة وهذا الجمال .
19- وإلى الجبال كيف نصبت . والجبل ملجأ وملاذ ، وأنيس وصاحب ، ومشهد يوحي إلى النفس الإنسانية جلالا واستهوالا ، حيث يتضاءل الإنسان إلى جواره ويستكين ، ويخشع للجلال السامق الرزين ، ( ونصب الجبال إقامتها علما للسائر ، وملجأ من الجائر ، وهي في الأغلب نزهة للناظر )i ، وأمان وحفظ لتوازن الأرض .
قال تعالى : وجعلنا في الأرض رواسي أن تميد بهم . . . ( الأنبياء : 31 ) .
وقال سبحانه : والجبال أوتادا . ( النبأ : 7 ) . أي : وسيلة لحفظ نظام الأرض من الزلازل والبراكين وغيرها .
20- وإلى الأرض كيف سطحت . والأرض مسطوحة أمام النظر ، ممهدة للحياة والسير والعمل ، والناس لم يسطحوها كذلك ، فقد سطحت قبل أن يكونوا هم ، أفلا ينظرون إليها ، ويتدبرون ما وراءها ، ويسألون من سطحها ومهدها هكذا للحياة تمهيدا ؟
( وقد أيقظ القرآن الحس ، ولفت النظر إلى مشهد كلي يضم منظر السماء المرفوعة ، والأرض المبسوطة وفي هذا المدى المتطاول تبرز الجبال منصوبة السنان ، لا رأسية ولا ملقاة ، وتبرز الجمال منصوبة السنام خطان أفقيان ، وخطان رأسيان ، في المشهد الهائل ، في المساحة الشاسعة ، وهي لوحة متناسقة الأبعاد والاتجاهات ، على طريقة القرآن في عرض المشاهد ، وفي التعبير بالتصوير على وجه الإجمال )ii .
والآن بعد الجولة الأولى في عالم الآخرة ، والجولة الثانية في مشاهد الكون المعروضة ، يخاطب النبي الكريم فيقول :
21-24- فذكّر إنما أنت مذكّر* لست عليهم بمصيطر* إلا من تولّى وكفر* فيعذبه الله العذاب الأكبر .
فعظهم يا محمد بآيات القرآن ، وذكرهم بالدعوة إلى الإله الواحد القهار ، فالإنسان بفطرته ميسر للإذعان بقدرة الله وبديع صنعته ، وإنما قد تتحكم الغفلات ، فتحتاج النفوس إلى مذكر يردها إلى الحق والصواب .
إنما أنت مذكّر . أي : إنما بعثت للتذكير فحسب ، وليس عليك هداهم : إن عليك إلا البلاغ ، وتبليغ الدعوة وترك الناس أحرارا في اعتقادهم ، فلا إكراه في الدين .
لست عليهم بمصيطر . والمصيطر : المتسلط ، فأنت لا تجبرهم على الإيمان .
قال تعالى : وما أنت عليهم بجبّار فذكّر بالقرآن من يخاف وعيد . ( ق : 45 ) .
فمن تولى عن الحق ، وكفر بآيات الله ، وأنكر الدعوة ، فإن حسابه إلى الله المطلع على القلوب ، وصاحب السلطان على السرائر ، وسوف يعذبه الله العذاب الأكبر في الآخرة ، وقد يضم إلى عذاب الآخرة عذاب الدنيا .
25 ، 26- إنّ إلينا إيابهم* ثم إنّ علينا حسابهم . وتختم السورة بهذا الإيقاع المناسب ، لتؤكد دور الرسول في البلاغ ، أما الجزاء والحساب فسيكون في يوم الدين ، يوم يقوم الناس لرب العالمين ، إن إلينا إيابهم ورجوعهم ، ثم إن علينا وحدنا حسابهم حسابهم وجزاءهم .
قال تعالى : ونضع الموزين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين . ( الأنبياء : 47 ) .
2- وصف مشاهد الكون وبدائع الصنعة الإلهية .
3- تحديد مهمة الرسول صلى الله عليه وسلم بالبلاغ والدعوة إلى الهداية .
هول القيامة ، وأحوال أهل النار .
{ هل أتاك حديث الغاشية 1 وجوه يومئذ خاشعة 2 عاملة ناصبة 3 تصلى نارا حامية 4 تسقى من عين آنية 5 ليس لهم طعام إلا من ضريع 6 لا يسمن ولا يغني من جوع 7 وجوه يومئذ ناعمة 8 لسعيها راضية 9 في جنة عالية 10 لا تسمع فيها لاغية 11 فيها عين جارية 12 فيها سرر مرفوعة 13 وأكواب موضوعة 14 ونمارق مصفوفة 15 وزرابيّ مبثوثة 16 }
الغاشية : القيامة تغشى الناس بأهوالها .
هل بلغك يا محمد خبر الغاشية التي تغشى الناس بأهوالها ؟ إذا لم يكن بلغك فأنا أحدّثك عنه .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
النكت و العيون للماوردي 450 هـ :
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
هذه السورة واحدة من الإيقاعات العميقة الهادئة . الباعثة إلى التأمل والتدبر ، وإلى الرجاء والتطلع ، وإلى المخافة والتوجس ، وإلى عمل الحساب ليوم الحساب !
وهي تطوف بالقلب البشري في مجالين هائلين : مجال الآخرة وعالمها الواسع ، ومشاهدها المؤثرة . ومجال الوجود العريض المكشوف للنظر ، وآيات الله المبثوثة في خلائقه المعروضة للجميع . ثم تذكرهم بعد هاتين الجولتين الهائلتين بحساب الآخرة ، وسيطرة الله ، وحتمية الرجوع إليه في نهاية المطاف . . كل ذلك في أسلوب عميق الإيقاع ، هادئ ، ولكنه نافذ . رصين ولكنه رهيب !
( هل أتاك حديث الغاشية ? ) . .
بهذا المقطع تبدأ السورة التي تريد لترد القلوب إلى الله ، ولتذكرهم بآياته في الوجود ، وحسابه في الآخرة وجزائه الأكيد . وبهذا الإستفهام الموحي بالعظمة الدال على التقدير ؛ الذي يشير في الوقت ذاته إلى أن أمر الآخرة مما سبق به التقرير والتذكير . وتسمى القيامة هذا الإسم الجديد : ( الغاشية ) . . أي الداهية التي تغشى الناس وتغمرهم بأهوالها . وهو من الأسماء الجديدة الموحية التي وردت في هذا الجزء . . الطامة . . الصاخة . . الغاشية . . القارعة . . مما يناسب طبيعة هذا الجزء المعهودة .
وهذا الخطاب : هل أتاك . . ? كان رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] يحس وقع توجيهه إلى شخصه ، حيثما سمع هذه السورة ، وكأنما يتلقاه أول أمر مباشرة من ربه ، لشدة حساسية قلبه بخطاب الله - سبحانه - واستحضاره لحقيقة الخطاب ، وشعوره بأنه صادر إليه بلا وسيط حيثما سمعته أذناه . . قال ابن أبي حاتم : حدثنا علي بن محمد الطنافسي ، حدثنا أبو بكر بن عباس ، عن أبي إسحاق ، عن عمر بن ميمون ، قال : مر النبي [ صلى الله عليه وسلم ] على امرأة تقرأ : ( هل أتاك حديث الغاشية ? )فقام يستمع ويقول : " نعم قد جاءني " . .
والخطاب - مع ذلك - عام لكل من يسمع هذا القرآن . فحديث الغاشية هو حديث هذا القرآن المتكرر . يذكر به وينذر ويبشر ؛ ويستجيش به في الضمائر الحساسية والخشية والتقوى والتوجس ؛ كما يثير به الرجاء والارتقاب والتطلع . ومن ثم يستحيي هذه الضمائر فلا تموت ولا تغفل .
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
سميت في المصاحف والتفاسير سورة الغاشية . وكذلك عنونها الترمذي في كتاب التفسير من جامعه ، لوقوع لفظ الغاشية في أولها . وثبت في السنة تسميتها هل أتاك حديث الغاشية ، ففي الموطأ أن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير بم كان رسول الله يقرأ في الجمعة مع سورة الجمعة? قال : هل أتاك حديث الغاشية . وهذا ظاهر في التسمية لأن السائل سأل عما يقرأ مع سورة الجمعة فالمسؤول عنه السورة الثانية ، وبذلك عنونها البخاري في كتاب التفسير من صحيحه . وربما سميت سورة هل أتاك } بدون كلمة حديث الغاشية . وبذلك عنونها ابن عطية في تفسيره وهو اختصار ... أغراضها:
اشتملت هذه السورة على تهويل يوم القيامة وما فيه من العقاب قوم مشوهة حالتهم ، ومن ثواب قوم ناعمة حالتهم وعلى وجه الإجمال المرهب أو المرغب .
والإيماء إلى ما يبين ذلك الإجمال كله بالإنكار على قوم لم يهتدوا بدلالة مخلوقات من خلق الله وهي نصب أعينهم ، على تفرده بالإلهية فيعلم السامعون أن الفريق المهدد هم المشركون .
وعلى إمكان إعادته بعض مخلوقاته خلقا جديدا بعد الموت يوم البعث .
وتثبيت النبي صلى الله عليه وسلم على الدعوة إلى الإسلام وأن لا يعبأ بإعراضهم .
وأن وراءهم البعث فهم راجعون إلى الله فهو مجازيهم على كفرهم وإعراضهم .
التفسير الحديث لدروزة 1404 هـ :
السورة فصلان متناظران ، أحدهما في الإنذار بيوم القيامة ووصف مصير وحالة المؤمنين والكفار فيه . وثانيهما في لفت نظر الناس إلى بعض مشاهد الخلق والكون الدالة على ربوبية الله وقدرته فيه معنى التنديد بالكفار مع بيان مهمة النبي صلى الله عليه وسلم وكونها للتبليغ والتذكير وليست لإكراه الناس . وأسلوب السورة ومضمونها مما يسوغ القول : إنها من السور التي نزلت دفعة واحدة . ...
يتكلم الحق سبحانه وتعالى في سورة الغاشية عن المنهج الذي يضعه البشر لنفسه، وهو منهج قد أتعبه في حركة الحياة، ولا يأتي له بطائل، وإذا ما نظرنا إلى الحركة في الحياة، وجدنا أنه حتى الذين لا يؤمنون بإله، فإن حركتهم في الحياة متمثلة أولاً في أنه يقدر الهدف من الحركة، فلا يمكن لإنسان أن يفعل فعلاً قبل أن يحدد الهدف من هذا الفعل، ويجب أن يكون الهدف معوضاً لمتاعب الإنسان من حركة العمل، ومعنى معوض: أنه يعطيه من المتعة والراحة فوق ما يأخذ العمل منه من المشقة والتعب، فلو أن العمل يعطيك من الراحة على قدر المشقة فقط لما كان هناك ضرورة للمشقة أصلاً، ولكن كل عمل يعمله العاقل لابد أن يأخذ حصيلة من عمله فوق مشقة عمله، وبذلك يكون نجاح العمل للذين يعيشون في هذه الحياة، فإنما يعملون ويكدون ويجتهدون، ونقول لهم: بمقياس العقل يجب أن تحددوا نفعكم من هذا العمل بما يفوق مشقتكم في هذه الحياة، فإذا كنتم عاملين وناصبين وفي مشقة، فما هي النتيجة النهائية لذلك العمل؟!
إن الحق سبحانه وتعالى يعرض هذه اللمحة في قوله سبحانه وتعالى: {عاملةٌ ناصبةٌ(3) تصلى ناراً حامية(4)} [الغاشية]. فكأن المعنى: فما ظنك بمن يعمل عملاً، وينصب نصباً، ثم لا يجد لذلك العمل نتيجة، ولا فائدة، بل يجد له مضرة في أنه سيصلى ناراً حامية، إذن، فأساس فكرته في العمل فكرة خاطئة، وذلك دليل حمق الحركة في الحياة.
فكأن الدين حينما جاء، قد جاء ليجعل لحركة الإنسان في الحياة هدفاً، وغاية، وراحة، تعقب التعب من العمل.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وهذه سورةٌ مكيةٌ تطوف بالإنسان في حديث يوم القيامة الذي يعبر عنه بالغاشية ، التي تثير الناس بأهوالها وتغشاهم حتى يكادوا لا يرون شيئاً من شدة الهول في الموقف . وتتحدث عن الناس الذين يبدو مصيرهم في ملامح وجوههم ، فهناك وجوهٌ خاشعةٌ توحي بالذل في خشوعها الذي لا يملك أفقاً يرتفع بصرها إليه ، ومصيرها إلى النار التي تصلاها وتسقى فيها من عين شديدة الحرارة ، وتأكل فيها طعاماً لا غذاء فيه ، فلا يسمن ولا يغني من جوع . وهناك وجوه «ناعمة » ، توحي بالسعادة والرضى والطمأنينة من خلال سعيها ، ومصيرها الجنة العالية التي لا تسمع فيها إلا الكلام النافع للقلب وللروح .....ثم توجه الجاحدين للتطلّع إلى خلق الله في الإبل كيف خلقت ، وفي السماء كيف رفعت ، وفي الجبال كيف نصبت ، وفي الأرض كيف سطحت ، ليفكروا في ذلك كله ، وليتعرفوا من خلاله على عظمة الله المودعة في هذه الموجودات التي هي من خلقه . ثم يلتفت إلى النبي( صلى الله عليه وسلم ) ليطلب منه أن يذكّرهم بالله وبكتابه وباليوم الآخر ، لأن دوره كرسولٍ هو هذا الدور ، فليس مسيطراً عليهم ، وسينفتح عليه الناس ، إلا المعرضين عن الدعوة الكافرين بها الذين سوف ينالون العذاب الأكبر في جهنم ، فسيرجعون إلى الله وسيحاسبهم على كل مواقفهم الرافضة للإيمان ....
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
تدور محتويات السّورة على ثلاثة محاور :
الأوّل : بحث «المعاد » ، وبيان حال المجرمين بما فيه من شقاء وتعاسة ، ووصف حال المؤمنين وهم يرفلون بنعيم لا ينضب .
الثّاني : بحث «التوحيد » ، ويتناول موضوع خلق السماء والجبال والأرض ، ونظر الإنسان إليها .
الثّالث : بحث «النبوّة » ، مع عرض لبعض وظائف النبيّ( صلى الله عليه وآله وسلم ) . وعموماً ، فالسّورة تسير على منهج السور المكّية في تقوية اُسس الإيمان والاعتقاد . فضيلة السّورة : ورد في فضيلة هذه السّورة في الحديث النبوي الشريف : «مَن قرأها حاسبه اللّه حساباً يسيراً » . ...
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
قال الإمام مالك عن ضمرة بن سعيد ، عن عبيد الله بن عبيد الله أن الضحاك بن قيس سأل النعمان بن بشير، بم كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في الجمعة مع سورة الجمعة ؟ قال : { هل أتاك حديث الغاشية } .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : "هَلْ أتاكَ" يا محمد "حَدِيثُ الْغاشِيَةُ" يعني : قصتها وخبرها . واختلف أهل التأويل في معنى الغاشية ؛
فقال بعضهم : هي القيامة تغشى الناس بالأهوال ... عن ابن عباس "الْغاشِيَةُ" من أسماء يوم القيامة ، عظّمه الله ، وحذّره عباده ...
وقال آخرون : بل الغاشية : النار تغشَى وجوه الكَفَرة ....
والصواب من القول في ذلك : أن يقال : إن الله قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : "هَلْ أتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ" ولم يخبرنا أنه عنى غاشية القيامة ، ولا أنه عنى غاشية النار ، وكلتاهما غاشية ، هذه تغشى الناس بالبلاء والأهوال والكروب ، وهذه تغشى الكفار باللفْح في الوجوه ، والشّواظ والنّحاس ، فلا قول في ذلك أصحّ من أن يقال كما قال جلّ ثناؤه ، ويعمّ الخبر بذلك كما عمه .
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
...في هذه الآيات ترغيب في ما تحمد عاقبته ، وتحذير عما يذم في العاقبة ، وتبيين أن العاقبة المحمودة متصلة باكتسابه وكدحه ، وكذلك العاقبة المذمومة ينالها بعمله ونصبه . ثم اختلف في تأويل الغاشية ؛ فقيل : الغاشية: النار، تغشاهم كما قال تعالى : { لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل } [ الزمر : 16 ] وقال في آية أخرى : { وتغشى وجوههم النار } [ إبراهيم : 50 ] .
ومنهم من يقول : الغاشية ، هي الساعة ، سميت غاشية ، لأنها تغشى الصغير والكبير والمحمود والمذموم والشقي والسعيد ، فيعمهم جميعا . وهذا التأويل أقرب لأنه ذكر الغاشية أولا ، ثم ذكر الجزاء بعد ذلك بقوله : { وجوه يومئذ خاشعة } { عاملة ناصية } [ الآيتان : 2 و3 ] وقوله تعالى : { وجوه يومئذ ناعمة } [ الآيات : 8 و . . . ] .
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
الداهية التي تغشى الناس بشدائدها وتلبسهم أهوالها . يعني القيامة ، من قوله : { يَوْمَ يغشاهم العذاب } [ العنكبوت : 55 ] ....
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{ هل } بمعنى قد ، وقال الحذاق : هي على بابها توقيف ، فائدته تحريك نفس السامع إلى تلقي الخبر ، وقيل المعنى هل كان هذا من علمك لولا ما علمناك ، ففي هذا التأويل تعديد النعمة . ...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
و { الغاشية } : مشتقة من الغشيان وهو تغطية متمكنة وهي صفة أريد بها حادثة القيامة سميت غاشية على وجه الاستعارة لأنها إذا حصلت لم يجد الناس مَفراً من أهوالها فكأنها غاشش يغشى على عقولهم . ويطلق الغشيان على غيبوبة العقل فيجوز أن يَكون وصف الغاشية مشتقاً منه . ففهم من هذا أن الغاشية صفة لمحذوف يدل عليه السياق وتأنيث الغاشية لتأويلها بالحادثة ولم يستعملوها إلا مؤنثة اللفظ والتأنيث كثير في نقل الأوصاف إلى الإسمية مثل الداهية والطامة والصاخة والقارعة والآزفة . و { الغاشية } هنا : علم بالغلبة على ساعة القيامة كما يؤذن بذلك قوله عقبه { وجوه يومئذ } [ الغاشية : 2 ] أي يوم الغاشية ....
تفسير القرآن الكريم لابن عثيمين 1421 هـ :
يجوز أن يكون الخطاب موجها للرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم وحده وأمته تبعاً له ، ويجوز أن يكون عاماً لكل من يتأتى خطابه ...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
وهي القيامة التي تفنّن التعبير القرآني عنها ، للإيحاء بالأجواء التي تنطلق في مشاهدها وأهوالها وصدماتها الواقعية ، ليواجهها القلب البشري ، من خلال ذلك ، بالخوف الشعوري الذي يدفع إلى المزيد من التفكير ومن التركيز ، للوصول إلى مسألة الإيمان والانتماء إليه بكل قوّةٍ . ولعل التعبير عنها بالغاشية من خلال أنها تفرض نفسها على واقع الناس هناك ، فتغشاهم وتحيط بهم ، كما يحيط الغشاء بالموقع كله ، أو لأنّ أهوالها الشديدة تغشاهم فتحول بينهم وبين الرؤية في شدّة تأثيرها عليهم ، فتبدو للعيون كالدخان الذي يحجب الأفق بكثافته . . ...
" هل " بمعنى قد ، كقوله : " هل أتى على الإنسان{[15985]} " [ الإنسان : 1 ] . قاله قطرب . أي قد جاءك يا محمد حديث الغاشية ، أي القيامة التي تغشى الخلائق بأهوالها وأفزاعها ، قاله أكثر المفسرين . وقال سعيد بن جبير ومحمد بن كعب : " الغاشية " : النار تغشى وجوه الكفار ، ورواه أبو صالح عن ابن عباس ، ودليله قوله تعالى : " وتغشى وجوههم النار{[15986]} " [ إبراهيم : 50 ] . وقيل : تغشى الخلق . وقيل : المراد النفخة الثانية للبعث ؛ لأنها تغشى الخلائق . وقيل : " الغاشية " أهل النار يغشونها ، ويقتحمون فيها . وقيل : معنى " هل أتاك " أي هذا لم يكن من علمك ، ولا من علم قومك . قال ابن عباس : لم يكن أتاه قبل ذلك على هذا التفصيل المذكور ها هنا . وقيل : إنها خرجت مخرج الاستفهام لرسوله ، ومعناه إن لم يكن أتاك حديث الغاشية فقد أتاك ، وهو معنى قول الكلبي .
لما ختمت " سبح " بالحث على تطهير النفوس عن وضر الدنيا ، ورغب في ذلك بخيرية الآخرة تارة والاقتداء بأولي العزم من الأنبياء أخرى ، رهب أول هذه من الإعراض عن ذلك مرة ، ومن التزكي بغير منهاج الرسل أخرى ، فقال تعالى مذكراً بالآخرة التي حث عليها آخر تلك مقرراً لأشرف خلقه صلى الله عليه وسلم لأن ذلك أعظم في تقدير اتباعه وأقعد في تحريك النفوس إلى تلقي الخبر بالقبول : { هل أتاك } أي جاءك وكان لك وواجهك على وجه الوضوح يا أعظم خلقنا { حديث الغاشية * } أي القيامة التي تغشي الناس بدواهيها وشدائدها العظمى وزواجرها ونواهيها ، فإن الغشي لا يكون إلا فيما يكره .
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : لما تقدم تنزيهه سبحانه عما توهم الظالمون ، واستمرت آي السورة على ما يوضح تقدس الخالق جل جلاله عن عظيم مقالهم ، أتبع ذلك بذكر الغاشية بعد افتتاح السورة بصورة الاستفهام تعظيماً لأمرها ، فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : " هل أتاك " يا محمد " حديث الغاشية " وهي القيامة ، فكأنه سبحانه وتعالى يقول : في ذلك اليوم يشاهدون جزاءهم ويشتد تحسرهم حين لا يغني عنهم ، ثم عرف بعظيم امتحانهم في قوله : { ليس لهم طعام إلا من ضريع } مع ما بعد ذلك وما قبله ، ثم عرف بذكر حال من كان في نقيض حالهم إذ ذلك أزيد في الفرح وأدهى ، ثم أردف بذكر ما نصب من الدلائل وكيف لم يغن فقال : { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت } - الآيات ، أي أفلا يعتبرون بكل ذلك ويستدلون بالصنعة على الصانع ثم أمره بالتذكار - انتهى .