9- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } .
يؤدب الله المسلمين بذلك الأدب الإلهي الذي يجعل المسلم مراقبا لله في السر والنجوى ، فينادي الله المؤمنين بأن يكون تناجيهم الخافت وحديثهم الخاص مخالفا لمناجاة اليهود والمنافقين .
{ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَةِ الرَّسُولِ . . . }
وفيه تربية وتعريض باليهود والمنافقين .
{ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى . . . }
أي : لا تتناجوا بالشر والعدوان على الغير ، أو السوء والكيد ، أو مخالفة أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ، بل عليكم بالتناجي بالخير والعفاف ، والطاعة والتقوى ، والبعد عما نهى الله عنه .
{ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } .
وراقبوا الله الذي يراكم ، ويطلع على مناجاتكم ، ولا تخفى عليه خافية من شئونكم ، ثم يحاسبكم عند الحشر والجزاء يوم تحشرون وترجعون إليه .
ثم أمر الله عباده المؤمنين أن لا يكونوا مثلَ اليهود المنافقين في التناجي بالإثم والعدوان ، فقال : { يا أيها الذين آمنوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَةِ الرسول } .
يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كاليهودِ والمنافقين في تناجِيكم بينكم ، فإذا حدث تناجٍ أو مسارّة في اجتماعاتكم فلا تفعلوا مثل ما يفعلون .
{ وَتَنَاجَوْاْ بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } ، تناجَوا أنتم بما هو خير ينفع المؤمنين ، واتقوا الله فيما تأتون وتذَرون ، فإليه تحشَرون فيخبركم بجميع أعمالكم وأقوالكم .
وهؤلاء المذكورون إما أناس من المنافقين يظهرون الإيمان ، ويخاطبون الرسول صلى الله عليه وسلم بهذا الخطاب الذي يوهمون أنهم أرادوا به خيرا{[1012]} وهم كذبة في ذلك ، وإما أناس من أهل الكتاب ، الذين إذا سلموا على النبي صلى الله عليه وسلم ، قالوا : " السام عليك يا محمد " يعنون بذلك الموت .
ثم إن الله تعالى : نهى المؤمنين أن يتناجوا فيما بينهم كفعل المنافقين واليهود ، فقال :{ يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول } أي كفعل المنافقين واليهود ، وقال مقاتل أراد بقوله :{ آمنوا } المنافقين ، أي آمنوا بلسانهم ، قال عطاء : يريد الذين آمنوا بزعمهم ، قال لهم : لا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصية الرسول } ، { وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون } .
قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم } نهى المؤمنين أن يتناجوا فيما بينهم كفعل المنافقين واليهود فقال :{ يا أيها الذين آمنوا إذا تناجيتم } أي تساررتم . { فلا تتناجوا } هذه قراءة العامة . وقرأ يحيى بن وثاب وعاصم ورويس عن يعقوب{ فلا تنتجوا } من الانتجاء { وتناجوا بالبر } أي بالطاعة { والتقوى } بالعفاف عما نهى الله عنه . وقيل : الخطاب للمنافقين ، أي يا أيها الذين آمنوا بزعمهم . وقيل : أي يا أيها الذين آمنوا بموسى . { الذي إليه تحشرون }أي تجمعون في الآخرة .
ولما نهى عن النجوى وذم على فعلها وتوعد عليه فكان ذلك موضع أن يظن أن النهي عام لكل نجوى وإن كانت بالخير ، استأنف قوله{[63284]} منادياً بالأداة التي لا يكون ما بعدها له وقع عظيم ، معبراً بأول أسنان{[63285]} الإيمان باقتضاء الحال له : { يا أيها الذين آمنوا } أي ادعوا أنهم أوجدوا هذه الحقيقة ، { إذا تناجيتم } أي قلع كل منكم الكلام من نفسه فرفعه{[63286]} وكشفه لصاحبه سراً ، { فلا تتناجوا } أي توجدوا هذه الحقيقة ظاهرة كتناجي المنافقين ، { بالإثم } أي الذنب وكل فعل يكتب بسببه عقوبة .
ولما عم خص فقال : { والعدوان } أي الذي هو العدو الشديد بما يؤذي وإن كان العادي يظن أنه لا يكتب عليه به إثم . ولما كان السياق لإجلال{[63287]} النبي صلى الله عليه وسلم مع أنه لا تعرف حقيقة الإثم إلا منه قال تعالى : { ومعصيت الرسول } أي الكامل في الرسلية{[63288]} فإن ذلك يشوش فكره فلا يدعه يبلغ رسالات ربه وهو منشرح{[63289]} الصدر طيب النفس .
ولما علم أن نهيهم إنما هو عن شر يفسد{[63290]} ذات البين وهو ما لا يريدون إطلاع النبي صلى الله عليه وسلم عليه{[63291]} ، صرح بقوله حثاً على إصلاح ذات البين لأن خير الأمور ما عاد بإصلاحها ، وشر الأمور ما عاد{[63292]} بإفسادها . { وتناجوا بالبر } أي بالخير الواسع الذي فيه حسن{[63293]} التربية ، ولما كان ذلك قد يعمل طبعاً ، حث على القصد الصالح بقوله :{ والتقوى } وهي{[63294]} ما يكون في نفسه ظاهراً أنه يكون سترة تقي من عذاب الله بأن يكون مرضياً لله ولرسوله .
ولما كانت التقوى أم المحاسن ، أكدها ونبه عليها بقوله :{ واتقوا الله } أي اقصدوا قصداً يتبعه العمل أن تجعلوا بينكم وبين سخط الملك الأعظم وقاية . ولما كانت ذكرى{[63295]} الآخرة هي مجمع المخاوف ولا سيما فضائح الأسرار على رؤوس الأشهاد قال :{ الذي إليه } أي خاصة { تحشرون * } أي تجمعون بأيسر أمر وأسهله بقهر وكره ، وهو يوم القيامة ، فيتجلى فيه سبحانه للحكم بين الخلق والإنصاف بينهم بالعدل ومحاسبتهم على النقير والقطمير{[63296]} لا تخفى عليه خافية ولا تقي منه واقية تنكشف فيه سرادقات{[63297]} العظمة ، ويظهر ظهوراً{[63298]} تاماً نفوذ الكلمة ، ويتجلى في مجالي العز سطوات القهر ، وتنبث{[63299]} لوامع الكبر ، فإذا فعلتم ذلك مستحضرين لذلك لم تقدموا على شيء تريدون إخفاءه من النبي صلى الله عليه وسلم ، فيكون ذلك أقر لعينه وأطهر لكم .