قل هو الرحمان آمنّا به وعليه توكّلنا فستعلمون من هو في ضلال مبين .
قل لهم يا محمد : الله ربنا ، وهو الرحمان يشملنا برحمته وعنايته وفضله ، وقد توكلنا عليه واعتمدنا ، اما أنتم فستعلمون غدا من الواقع في الضلال المبين .
والآية أيضا لا تصرّح لهم بأنهم ضالون كافرون ، آثمون بعبادة الأصنام وترك عبادة الرحمان ، بل تترك لهم مجالا للتفكير وعدم العناد .
فأمر الله نبيه أن يخبر عن حاله وحال أتباعه ، ما به يتبين لكل أحد هداهم وتقواهم ، وهو أن يقولوا : { آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } والإيمان يشمل التصديق الباطن ، والأعمال الباطنة والظاهرة ، ولما كانت الأعمال ، وجودها وكمالها ، متوقفة على التوكل ، خص الله التوكل من بين سائر الأعمال ، وإلا فهو داخل في الإيمان ، ومن جملة لوازمه كما قال تعالى : { وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ } فإذا كانت هذه حال الرسول وحال من اتبعه ، وهي الحال التي تتعين للفلاح ، وتتوقف عليها السعادة ، وحالة أعدائه بضدها ، فلا إيمان [ لهم ] ولا توكل ، علم بذلك من هو على هدى ، ومن هو في ضلال مبين .
قوله تعالى : " قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا فستعلمون " قرأ الكسائي بالياء على الخبر ، ورواه عن علي . الباقون بالتاء على الخطاب . وهو تهديد لهم . ويقال : لم أخر مفعول " آمنا " وقدم مفعول " توكلنا " فيقال : لوقوع " آمنا " تعريضا بالكافرين حين ورد عقيب ذكرهم . كأنه قيل : آمنا ولم نكفر كما كفرتم . ثم قال " وعليه توكلنا " خصوصا لم نتكل على ما أنتم متكلون عليه من رجالكم وأموالكم ، قاله الزمخشري .
ولما كان لا يقدر على التعميم بالنعمة{[67150]} إلا من كان عام {[67151]}القدرة والنعمة{[67152]} والرحمة ، وكان التذكير بالنعم أشد استعطافاً ، صرف القول إلى التعبير بما هو صريح في ذلك ، فقال مذكراً بذلك لعلمهم بأنه لا نعمة عليهم إلا منه ، واعترافهم بذلك ليحذروه ويتذكروا{[67153]} عموم قدرته ، فيعلموا قدرته{[67154]} على البعث فينفصل النزاع ، { قل } يا خير الخلق : { هو } أي الله وحده { الرحمن } أي الشامل الرحمة لكل ما تناولته الربوبية ، فلا يليق بعقل{[67155]} عاقل أن يدع أحداً من خلقه في ظلم ظالمه فلا يأخذ له بحقه ، لأن ذلك لا يرضاه أقل {[67156]}الناس لنفسه{[67157]} مع عجزه ، فكيف بمن هو كامل القدرة ، وإلا لما قدر{[67158]} على عموم الرحمة { آمنا به } أي أنا ومن آمن بي لهذا البرهان القاطع ، بأنه لا يكافئه شيء ، فهو كاف في الإيمان به . { وعليه } أي وحده { توكلنا } لأنه لا شيء في يد غيره ، وإلا لرحم من يريد عذابه أو عذب من يريد رحمته ، فكل ما جرى على أيدي خلقه من رحمة أو نقمة فهو الذي أجراه ، لأنه الفاعل بالذات{[67159]} ، المستجمع لما يليق به من الصفات ، فنحن نرجو خيره ولا نخاف غيره ، وقد أقررنا له بهذه{[67160]} العبارة على وجه الحصر بالألوهية والربوبية فلا نحتج {[67161]}في السلوك{[67162]} إليه إلى معوق عن ذكره والتفكر في آلائه ولو كان المعوق نفيساً في ظاهر الحياة الدنيا ولو كان{[67163]} مخوفاً فإنه{[67164]} لا خوف معه سبحانه ، فالتوكل {[67165]}عليه منجاة{[67166]} من كل هلكة مجلبة لكل ملكة ، ولم يفعل كما تفعلون أنتم في توكلكم على رجالكم وجاهكم وأموالكم .
ولما أبان هذا{[67167]} طريق الصواب ، وجلى كل ارتياب ، وكان لا بد من الرجوع إليه والانقلاب ، لإتمام الرحمة بالثواب والعقاب ، سبب عنه قوله : { فستعلمون } أي عند{[67168]} التجلي عليكم بصفة{[67169]} القهر عما قليل بوعد لا خلف فيه { من هو } أي منا ومنكم متداع بذاته ظاهراً وباطناً { في ضلال } أي{[67170]} أخذ في غير{[67171]} مسلك موصل إلى مقصد محيط به الضلال ، بحيث إنه لا قدرة له على الانفكاك منه ، إلا إن أطاع من يجره بيده فيخرجه منه . ولما كان الشيء إذا كان فيه نوع لبس كان ربما اقتضى قبول العذر قال : { مبين * } أي بين في نفسه ، موضح لكل أحد أنه لا خفاء به .