16- { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } .
أي : مثل هؤلاء المنافقين الذين وعدوا اليهود من بني النضير بالنصرة إن قوتلوا ، أو الخروج معهم إن أُخرجوا ، ومثل بني النضير في غرورهم بوعودهم وإسلامهم إياهم في أشد حاجتهم إليهم وإلى نصرتهم – كمثل الشيطان الذي غرّ إنسانا ووعده بالنصرة عند الحاجة إليه إذا هو كفر بالله واتبعه وأطاعه ، فلما احتاج إلى نصرته أسلمه وتبرأ منه ، وقال : إني أخاف الله رب العالمين إذا أنا نصرتك ، لئلا يشركني معك في العذاب .
أن مثل اليهود في اغترارهم بمن وعدهم بالنصرة من المنافقين بقولهم لهم : لئن قوتلتم لننصرنكم ، ولما جد الجد واشتد الحصار والقتال تخلوا عنهم وأسلموهم للهلكة – كمثل الشيطان إذ سول للإنسان الكفر والعصيان ، فلما دخل تبرأ منه وتنصل ، وقال : إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ .
ولا تجد مثلا أشد وقعا على النفوس ، ولا أنكى جرحا في القلوب من هذا المثل ، لمن اعتبر وادّكر ، ولكنهم قوم لا يعقلون .
ومثل هؤلاء المنافقين الذين غروا إخوانهم من أهل الكتاب { كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ } أي : زين له الكفر وحسنه ودعاه إليه ، فلما اغتر به وكفر ، وحصل له الشقاء ، لم ينفعه الشيطان ، الذي تولاه ودعاه إلى ما دعاه إليه ، بل تبرأ منه و { قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ } أي : ليس لي قدرة على دفع العذاب عنك ، ولست بمغن عنك مثقال ذرة من الخير .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم ضرب مثلا، حين غروا اليهود فتبرؤوا منهم عند الشدة وأسلموهم، فقال:
{كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
{كَمَثلِ الشّيْطانِ إذْ قالَ للإنْسانِ اكْفُرْ فَلَمّا كَفَرَ قال إنّي بَرِيءٌ مِنْكَ إنّي أخافُ اللّهَ رَبّ العَالمِينَ}: مثل هؤلاء المنافقين الذين وعدوا اليهود من النضير النصرة، إن قوتلوا، أو الخروج معهم إن أُخرجوا، ومثل النضير في غرورهم إياهم بإخلافهم الوعد، وإسلامهم إياهم عند شدّة حاجتهم إليهم، وإلى نُصرتهم إياهم، كمثل الشيطان الذي غرّ إنْسانا، ووعده على اتباعه وكفره بالله، النصرة عند الحاجة إليه، فكفر بالله واتبعه وأطاعه، فلما احتاج إلى نُصرته، أسلمه وتبرأ منه، وقال له: إني أخاف الله ربّ العالمين في نُصرتك.
وقد اختلف أهل التأويل في الإنسان الذي قال الله جلّ ثناؤه" إذْ قالَ للإنْسانِ اكْفُرْ "هو إنسان بعينه، أم أريد به المثل لمن فعل الشيطان ذلك به؟
فقال بعضهم: عُنِي بذلك إنسان بعينه.
وقال آخرون: بل عُنِي بذلك الناس كلهم، وقالوا: إنما هذا مثل ضُرِب للنضير في غرور المنافقين إياهم.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
قوله تعالى: {إني بريء منك} يجوز أن يكون في الآخرة حين يقول: {ما أنا 22 بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل} [إبراهيم:]. ويجوز أن يكون في الدنيا، وهو قوله: {وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم وقال لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه وقال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون} الآية [الأنفال: 48].
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{كَمَثَلِ الشيطان} إذا استغوى الإنسان بكيده ثم تبرأ منه في العاقبة، والمراد استغواؤه قريشاً يوم بدر؛ وقوله لهم: {لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ} إلى قوله {إِنِّي بريء مِّنكَم} [الأنفال: 48].
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
فالمنافقون مثلهم الشيطان، وبنو النضير مثلهم الإنسان. وذهب مجاهد وجمهور من المتأولين إلى أن الشيطان والإنسان في هذه الآية أسماء جنس، لأن العرف أن يعمل هذا شياطين بناس، كما يغوي الشيطان الإنسان، ثم يفر منه بعد أن يورطه، كذلك أغوى المنافقون بني النضير، وحرضوهم على الثبوت، ووعدوهم النصر، فلما نشب بنو النضير وكشفوا عن وجوههم، تركهم المنافقون في أسوأ حال.
الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 671 هـ :
وليس قول الشيطان: {إني أخاف الله رب العالمين} حقيقة، إنما هو على وجه التبرؤ من الإنسان، فهو تأكيد لقوله تعالى: {إني بريء منك}.
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي 685 هـ :
تبرأ منه مخافة أن يشاركه في العذاب ولم ينفعه ذلك كما قال.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{كمثل} أي مثل الكل: الواعدين بالنصر والمغترين بوعدهم، مع علمهم بأن الله كتب في الذكر: {لأغلبن أنا ورسلي} [المجادلة: 21] في إخلافهم الوعد وإسلامهم إياهم عند ما حق الأمر، يشبه مثل {الشيطان} أي البعيد من كل خير لبعده من الله المحترق بعذابه، والشيطان هنا مثل المنافقين.
{إذا قال للإنسان} وهو هنا مثل اليهود: {اكفر} أي بالله، بما زين له ووسوس إليه من اتباع الشهوات القائم مقام الأمر.
ولما كان الإنسان بما يساعد تزيين الشيطان عليه من شهواته وحُظوظه وأخلاقه يطيع أمره غالباً قال: {فلما كفر} أي أوجد الكفر على أي وجه كان، ودلت الفاء على إسراعه في متابعة تزيينه.
{قال} أي الشيطان الذي هو هنا عبارة عن المنافقين: {إني بريء منك} أي ليس بيني وبينك علاقة في شيء أصلاً، ظناً منه أن هذه البراءة تنفعه شيئاً مما استوجبه المأمور بقبوله لأمره، وذلك كناية عن أنه فعل معه من الإعراض عنه والتمادي في كل ما يدل على إهماله من أكد البراءة منه، وذلك كما فعل المنافقون باليهود؛ جرؤوهم على أمر ينهى وهو الإقامة في بلدهم، فلما نصبوا الحرب طمعاً في نصرهم، فعل المنافقون بتباطؤهم عنهم فعل المتبرئ منهم، فكان ذلك أشد عليهم مما لو لم يطمعوهم في نصرهم؛ لأن هذا بمنزله انهزامهم عنهم من الصف الموجب لانهزامهم لا محالة.
ثم علل البراءة بقوله: {إني أخاف الله} أي الملك الذي لا أمر لأحد معه فلا تطاق صولته.
ثم شرح ذلك بقوله: {رب العالمين} أي الذي أوجدهم من العدم ورباهم بما يدل على جميع الأسماء الحسنى والصفات العلى، فلا يغني أحد من خلقه عن أحد شيئاً إلا بإذنه، وهو لا يغفر أصلاً لمن يقدح ربوبيته، ولا سيما إن نسبها إلى غيره.
وكان هذا كمثل ما يجد الإنسان بعد الوقوع في المعصية من الندم والحيرة، فإذا وجد ذلك وهم بالتوبة، زين له المعصية وصعب عليه أمر التوبة وعسره، وجرأه على المعصية بعينها أو على ما هو أكبر منها، ولا يزال كذلك حتى يتعذر عليه الرجوع فيتحقق هلاكه وهلاك من أوقعه.
تفسير القرآن للمراغي 1371 هـ :
ولا تجد مثلا أشد وقعا على النفوس، ولا أنكى جرحا في القلوب من هذا المثل، لمن اعتبر وادكر، ولكنهم قوم لا يعقلون.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يضرب لهم مثلا بحال دائمة. حال الشيطان مع الإنسان، الذي يستجيب لإغرائه فينتهي وإياه إلى شر مصير. وصورة الشيطان هنا ودوره مع من يستجيب له من بني الإنسان تتفقان مع طبيعته ومهمته، فأعجب العجب أن يستمع إليه الإنسان، وحاله هو هذا الحال! وهي حقيقة دائمة ينتقل السياق القرآني إليها من تلك الواقعة العارضة؛ فيربط بين الحادث المفرد والحقيقة الكلية، في مجال حي من الواقع، ولا ينعزل بالحقائق المجردة في الذهن، فالحقائق المجردة الباردة لا تؤثر في المشاعر، ولا تستجيش القلوب للاستجابة. وهذا فرق ما بين منهج القرآن في خطاب القلوب، ومنهج الفلاسفة والدارسين والباحثين.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
فالحق: أن قول الشيطان هذا هو ما في آية {وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي إني كفرت بما أشركتمون من قبل} في سورة [إبراهيم: 22].
وقد حكى ابن عباس وغيرهما من السلف في هذه الآية قصة راهب بحكاية مختلفة جعلت كأنها المراد من الإنسان في هذه الآية؛ ذكرها ابن جرير والقرطبي، وضَعَّف ابن عطية أسانيدها، فلئن كانوا ذكروا القصة، فإنما أرادوا أنها تصلح مثالاً لما يقع من الشيطان للإِنسان، كما مال إليه ابنُ كثير.
وظاهر أن هذه المحاجة لا تقع إلا في يوم الجزاء وبعد موت الكافر على الكفر دون من أسلموا.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ}.. وذلك هو مثل المنافقين الذين يضللون الناس في وعودهم الكاذبة، حيث يثيرون الكثير من الأحلام والأوهام، حتى يخيل لهؤلاء الناس أن المنافقين يمثلون الضمانة القوية في ما يعدون أو يتحدثون، فيندفعون إلى ما أثاروه في أحلامهم وأوهامهم بكل ثقةٍ وعزيمةٍ، حتى إذا دخلوا في دائرة اللعبة النفاقية، واجهتهم الحقيقة بأن كل تلك الوعود سراب، ورأوا أن المنافقين يبتعدون عنهم وعن تحمل مسؤوليتهم ويتبرؤون من علاقتهم بكل ما يحدث لهم، لأنهم يخافون من الأخطار المترتبة عليهم من خلال ذلك. وهذا هو الأسلوب الشيطاني في علاقته بالإنسان، فإنه يزين له الكفر بمختلف الوسائل التي يملكها في إثارة الشبهات حول الإيمان، وفي تأكيد الفكر الكافر بطريقته الخاصة، ويضمن له النتائج السعيدة بالخيالات الواسعة والأوهام الرائعة، حتى إذا سقط الإنسان أمام كل تلك الإغراءات الفكرية والتهاويل العاطفية، ووقع في قلب التجربة التي يواجه بها عذاب الله، تبرأ منه، {فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ} فلا مسؤولية لي بما كفرت وانحرفت، لأنك تملك عقلاً تميز به الصواب من الخطأ، وإرادة تؤكد بها موقفك، فكيف تحمِّلني مسؤولية ما فكرت به وأردت السير فيه؟ {إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ} فلا أملك معه شيئاً لنفسي فكيف أملكه لك، ولا أستطيع تحمّل أي وضعٍ منحرف عن رضاه وعن إرادته، لأن ما لديّ من المواقف المنحرفة يكفيني، فليتحمل كل شخص مسؤوليته عن موقفه، وهذا هو ما عبرت عنه الآية الكريمة: {وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُوني وَلُومُواْ أَنفُسَكُمْ مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [إبراهيم: 22].
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
...نعم، هكذا حال المنافقين حيث يدفعون بحلفائهم من خلال الوعود الكاذبة والمكر والحيلة إلى أتون المعارك والمشاكل ثمّ يتركونهم لوحدهم، ويتخلّون عنهم، لأنّ الوفاء لا يجتمع والنفاق.
قوله تعالى : { كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر } هذا ضرب مثل للمنافقين واليهود في تخاذلهم وعدم الوفاء في نصرتهم . وحذف حرف العطف ، ولم يقل : وكمثل الشيطان ؛ لأن حذف حرف العطف كثير كما تقول : أنت عاقل أنت كريم أنت عالم . وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن الإنسان الذي قال له الشيطان اكفر ، راهب تركت عنده امرأة أصابها لَمَم ليدعو لها ، فزين له الشيطان فوطئها فحملت ، ثم قتلها خوفا أن يفتضح ، فدل الشيطان قومها على موضعها ، فجاؤوا فاستنزلوا الراهب ليقتلوه ، فجاء الشيطان فوعده أنه إن سجد له أنجاه منهم ، فسجد له فتبرأ منه فأسلمه . ذكره القاضي إسماعيل وعلي بن المديني عن سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار عن عروة بن عامر عن عبيد بن رفاعة الزرقي عن النبي صلى الله عليه وسلم . وذكر خبره مطولا ابن عباس ووهب بن منبه . ولفظهما مختلف .
قال ابن عباس في قوله تعالى : { كمثل الشيطان } كان راهب في الفترة يقال له : برصيصا ، قد تعبد في صومعته سبعين سنة ، لم يعص الله فيها طرفة عين ، حتى أعيا إبليس ، فجمع إبليس مردة الشياطين فقال : ألا أجد منكم من يكفيني أمر برصيصا ؟ فقال الأبيض ، وهو صاحب الأنبياء ، وهو الذي قصد النبي صلى الله عليه وسلم في صورة جبريل ليوسوس إليه على وجه الوحي ، فجاء جبريل فدخل بينهما ، ثم دفعه بيده حتى وقع بأقصى الهند فذلك قوله تعالى : { ذي قوة عند ذي العرش مكين{[14863]} } [ التكوير : 20 ] فقال : أنا أكفيكه ، فانطلق فتزيا بزي الرهبان ، وحلق وسط رأسه حتى أتى صومعة برصيصا فناداه فلم يجبه ، وكان لا ينفتل من صلاته إلا في كل عشرة أيام يوما ، ولا يفطر إلا في كل عشره أيام ، وكان يواصل العشرة الأيام والعشرين والأكثر ، فلما رأى الأبيض أنه لا يجيبه أقبل على العبادة في أصل صومعته ، فلما انفتل برصيصا من صلاته ، رأى الأبيض قائما يصلي في هيئة حسنة من هيئة الرهبان ، فندم حين لم يجبه ، فقال : ما حاجتك ؟ فقال : أن أكون معك ، فأتأدب بأدبك ، وأقتبس من عملك ، ونجتمع على العبادة ، فقال : إني في شغل عنك ، ثم أقبل على صلاته ، وأقبل الأبيض أيضا على الصلاة ، فلما رأى برصيصا شدة اجتهاده وعبادته قال له : ما حاجتك ؟ فقال : أن تأذن لي فارتفع إليك . فأذن له فأقام الأبيض معه حولا لا يفطر إلا في كل أربعين يوما يوما واحدا ، ولا ينفتل من صلاته إلا في كل أربعين يوما ، وربما مد إلى الثمانين ، فلما رأى برصيصا اجتهاده تقاصرت إليه نفسه . ثم قال الأبيض : عندي دعوات يشفي الله بها السقيم والمبتلي والمجنون ، فعلمه إياها . ثم جاء إلى إبليس فقال : قد والله أهلكت الرجل . ثم تعرض لرجل فخنقه ، ثم قال لأهله - وقد تصور في صورة الآدميين - : إن بصاحبكم جنونا أفأطبه ؟ قالوا نعم . فقال : لا أقوى على جنيته ، ولكن اذهبوا به إلى برصيصا ، فإن عنده اسم الله الأعظم الذي إذا سئل به أعطى ، واذا دعي به أجاب ، فجاؤوه فدعا بتلك الدعوات ، فذهب عنه الشيطان .
ثم جعل الأبيض يفعل بالناس ذلك ويرشدهم إلى برصيصا فيعافون . فانطلق إلى جارية من بنات الملوك بين ثلاثة إخوة ، وكان أبوهم ملكا فمات واستخلف أخاه ، وكان عمها ملكا في بني إسرائيل فعذبها وخنقها . ثم جاء إليهم في صورة رجل متطبب ليعالجها فقال : إن شيطانها مارد لا يطاق ، ولكن اذهبوا بها إلى برصيصا فدعوها عنده ، فإذا جاء شيطانها دعا لها فبرئت ، فقالوا : لا يجيبنا إلى هذا ، قال : فابنوا صومعة في جانب صومعته ثم ضعوها فيها ، وقولوا : هي أمانة عندك فاحتسب فيها . فسألوه ذلك فأبى فبنوا صومعة ووضعوا فيها الجارية ، فلما انفتل من صلاته عاين الجارية وما بها من الجمال فأسقط في يده ، فجاءها الشيطان فخنقها فانفتل من صلاته ودعا لها فذهب عنها الشيطان ، ثم أقبل على صلاته فجاءها الشيطان فخنقها . وكان يكشف عنها ويتعرض بها لبرصيصا ، ثم جاءه الشيطان فقال : ويحك ! واقعها ، فما تجد مثلها ثم تتوب بعد ذلك . فلم يزل به حتى واقعها فحملت وظهر حملها . فقال له الشيطان : ويحك ! قد افتضحت . فهل لك أن تقتلها ثم تتوب فلا تفتضح ، فإن جاؤوك وسألوك فقل جاءها شيطانها فذهب بها . فقتلها برصيصا ودفنها ليلا ، فأخذ الشيطان طرف ثوبها حتى بقي خارجا من التراب ، ورجع برصيصا إلى صلاته . ثم جاء الشيطان إلى إخوتها في المنام فقال : إن برصيصا فعل بأختكم كذا وكذا ، وقتلها ودفنها في جبل كذا وكذا ، فاستعظموا ذلك وقالوا لبرصيصا : ما فعلت أختنا ؟ فقال : ذهب بها شيطانها ، فصدقوه وانصرفوا . ثم جاءهم الشيطان في المنام وقال : إنها مدفونة في موضع كذا وكذا ، وإن طرف ردائها خارج من التراب ، فانطلقوا فوجدوها ، فهدموا صومعته وأنزلوه وخنقوه ، وحملوه إلى الملك فأقر على نفسه فأمر بقتله . فلما صلب قال الشيطان : أتعرفني ؟ قال لا والله قال : أنا صاحبك الذي علمتك الدعوات ، أما اتقيت الله أما استحيت وأنت أعبد بني إسرائيل ثم لم يكفك صنيعك حتى فضحت نفسك ، وأقررت عليها وفضحت أشباهك من الناس فان مت على هذه الحالة لم يفلح أحد من نظرائك بعدك . فقال : كيف أصنع ؟ قال : تطيعني في خصلة واحدة وأنجيك منهم وآخذ بأعينهم . قال : وما ذاك ؟ قال تسجد لي سجدة واحدة ، فقال : أنا أفعل ، فسجد له من دون الله . فقال : يا برصيصا ، هذا أردت منك ، كان عاقبة أمرك أن كفرت بربك ، إني بريء منك ، إني أخاف الله رب العالمين .
وقال وهب بن منبه : إن عابدا كان في بني إسرائيل ، وكان من أعبد أهل زمانه ، وكان في زمانه ثلاثة إخوة لهم أخت ، وكانت بكرا ، ليست لهم أخت غيرها ، فخرج البعث على ثلاثتهم ، فلم يدروا عند من يخلفون أختهم ، ولا عند من يأمنون عليها ، ولا عند من يضعونها . قال فاجتمع رأيهم على أن يخلفوها عند عابد بني إسرائيل ، وكان ثقة في أنفسهم ، فأتوه فسألوه أن يخلفوها عنده ، فتكون في كنفه وجواره إلى أن يقفلوا من غزاتهم ، فأبى ذلك عليهم وتعوذ بالله منهم ومن أختهم . قال فلم يزالوا به حتى أطمعهم{[14864]} فقال : أنزلوها في بيت حذاء صومعتي ، فأنزلوها في ذلك البيت ثم انطلقوا وتركوها ، فمكثت في جوار ذلك العابد زمانا ، ينزل إليها الطعام من صومعته ، فيضعه عند باب الصومعة ، ثم يغلق بابه ويصعد في صومعته ، ثم يأمرها فتخرج من بيتها فتأخذ ما وضع لها من الطعام . قال : فتلطف له الشيطان فلم يزل يرغبه في الخير ، ويعظم عليه خروج الجارية من بيتها نهارا ، ويخوفه أن يراها أحد فيعلقها . قال : فلبث بذلك زمانا ، ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير والأجر ، وقال له : لو كنت تمشي إليها بطعامها حتى تضعه في بيتها كان أعظم لأجرك ، قال : فلم يزل به حتى مشى إليها بطعامها فوضعه في بيتها ، قال : فلبثت بذلك زمانا ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير وحضه عليه ، وقال : لو كنت تكلمها وتحدثها فتأنس بحديثك ، فإنها قد استوحشت وحشة شديدة . قال : فلم يزل به حتى حدثها زمانا يطلع عليها من فوق صومعته . قال : ثم أتاه إبليس بعد ذلك فقال : لوكنت تنزل إليها فتقعد على باب صومعتك وتحدثها وتقعد على باب بيتها فتحدثك كان أنس لها . فلم يزل به حتى أنزله وأجلسه على باب صومعته يحدثها ، وتخرج الجارية من بيتها ، فلبثا زمانا يتحدثان ، ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير والثواب فيما يصنع بها ، وقال : لو خرجت من باب صومعتك فجلست قريبا من باب بيتها كان آنس لها . فلم يزل به حتى فعل . قال : فلبثا زمانا ، ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير وفيما له من حسن الثواب فيما يصنع بها ، وقال له : لو دنوت من باب بيتها فحدثتها ولم تخرج من بيتها ، ففعل . فكان ينزل من صومعته فيقعد على باب بيتها فيحدثها . فلبثا بذلك حينا ثم جاءه إبليس فقال : لو دخلت البيت معها تحدثها ولم تتركها تبرز وجهها لأحد كان أحسن بك . فلم يزل به حتى دخل البيت ، فجعل يحدثها نهاره كله ، فإذا أمسى صعد في صومعته . قال : ثم أتاه إبليس بعد ذلك ، فلم يزل يزينها له حتى ضرب العابد على فخذها وقبلها . فلم يزل به إبليس يحسنها في عينه ويسول له حتى وقع عليها فأحبلها ، فولدت له غلاما ، فجاءه إبليس فقال له : أرأيت أن جاء إخوة هذه الجارية وقد ولدت منك ! كيف تصنع ! لا آمن عليك أن تفتضح أو يفضحوك ! فاعمد إلى ابنها فاذبحه وادفنه ، فإنها ستكتم عليك مخافة إخوتها أن يطلعوا على ما صنعت بها ، ففعل . فقال له : أتراها تكتم إخوتها ما صنعت بها وقتلت ابنها ! خذها فاذبحها وادفنها مع ابنها . فلم يزل به حتى ذبحها وألقاها في الحفيرة مع ابنها ، وأطبق عليها صخرة عظيمة ، وسوى عليها التراب ، وصعد في صومعته يتعبد فيها ، فمكث بذلك ما شاء الله أن يمكث ، حتى قفل إخوتها من الغزو ، فجاؤوه فسألوه عنها فنعاها لهم وترحم عليها ، وبكى لهم وقال : كانت خير أمة ، وهذا قبرها فانظروا إليه . فأتى إخوتها القبر فبكوا على قبرها وترحموا عليها ، وأقاموا على قبرها أياما ثم انصرفوا إلى أهاليهم . فلما جن عليهم الليل وأخذوا مضاجعهم ، أتاهم الشيطان في صورة رجل مسافر ، فبدأ بأكبرهم فسأله عن أختهم ، فأخبره بقول العابد وموتها وترحمه عليها ، وكيف أراهم موضع قبرها ، فكذبه الشيطان وقال : لم يصدقكم أمر أختكم ، إنه قد أحبل أختكم وولدت منه غلاما فذبحه وذبحها معه فزعا منكم ، وألقاها في حفيرة احتفرها خلف الباب الذي كانت فيه عن يمين من دخله . فانطلقوا فادخلوا البيت الذي كانت فيه عن يمين من دخله فإنكم ستجدونهما هنالك جميعا كما أخبرتكم . قال : وأتى الأوسط في منامه وقال له مثل ذلك . ثم أتى أصغرهم فقال له مثل ذلك . فلما استيقظ القوم استيقظوا متعجبين لما رأى كل واحد منهم . فأقبل بعضهم على بعض ، يقول كل واحد منهم : لقد رأيت عجبا ، فأخبر بعضهم بعضا بما رأى . قال أكبرهم : هذا حلم ليس بشيء ، فامضوا بنا ودعوا هذا . قال أصغرهم : لا أمضى حتى أتي ذلك المكان فأنظر فيه . قال : فانطلقوا جميعا حتى دخلوا البيت الذي كانت فيه أختهم ، ففتحوا الباب وبحثوا الموضع الذي وصف لهم في منامهم ، فوجدوا أختهم وابنها مذبوحين في الحفيرة كما قيل لهم ، فسألوا العابد فصدق قول إبليس فيما صنع بهما . فاستعدوا{[14865]} عليه ملكهم ، فأنزل من صومعته فقدموه ليصلب ، فلما أوقفوه على الخشبة أتاه الشيطان فقال له : قد علمت أني صاحبك الذي فتنتك في المرأة حتى أحبلتها وذبحتها وذبحت ابنها ، فإن أنت أطعتني اليوم وكفرت بالله الذي خلقك خلصتك مما أنت فيه . قال : فكفر العابد بالله ، فلما كفر خلى الشيطان بينه وبين أصحابه فصلبوه .
قال : ففيه نزلت هذه الآية : { كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين - إلى قوله - جزاء الظالمين } . قال ابن عباس : فضرب الله هذا مثلا للمنافقين مع اليهود . وذلك أن الله تعالى أمر نبيه عليه السلام أن يجلي بني النضير من المدينة ، فدس إليهم المنافقون ألا تخرجوا من دياركم ، فإن قاتلوكم كنا معكم ، وإن أخرجوكم كنا معكم ، فحاربوا النبي صلى الله عليه وسلم فخذلهم المنافقون ، وتبرؤوا منهم كما تبرأ الشيطان من برصيصا العابد . فكان الرهبان بعد ذلك لا يمشون إلا بالتقية{[14866]} والكتمان . وطمع أهل الفسوق والفجور في الأحبار فرموهم بالبهتان والقبيح ، حتى كان أم جريج الراهب ، وبرأه الله فانبسطت بعده الرهبان وظهروا للناس . وقيل : المعنى مثل المنافقين في غدرهم{[14867]} لبني النضير كمثل إبليس إذ قال لكفار قريش : { لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم{[14868]} } [ الأنفال : 48 ] الآية . وقال مجاهد المراد بالإنسان ها هنا جميع الناس في غرور الشيطان إياهم . ومعنى قوله تعالى : { إذ قال للإنسان اكفر } أي أغواه حتى قال : إني كافر . وليس قول الشيطان : { إني أخاف الله رب العالمين } حقيقة ، إنما هو على وجه التبرؤ من الإنسان ، فهو تأكيد لقوله تعالى : { إني بريء منك } وفتح الياء من " إني " نافع وابن كثير وأبو عمرو . وأسكن الباقون .
ولما شبه سبحانه أمرهم في {[64089]}طاعتهم لابن{[64090]} أبي ومن معه وهم البعداء المحترقون بسبب إبعاد المؤمنين لهم بإبعاد الله واحتراق أكبادهم لذلك{[64091]} مع ما أعد{[64092]} لهم في الآخرة بأمر بني قينقاع ، شبه قصة الكل بقصة الشيطان و{[64093]}من أطاعه من الإنس والجن{[64094]} ، فقال مبيناً لمعنى ما حط{[64095]} عليه آخر الكلام : { كمثل } أي مثل الكل{[64096]} الواعدين بالنصر والمغترين بوعدهم مع علمهم بأن الله كتب في الذكر { لأغلبن أنا ورسلي }[ المجالة : 21 ] في إخلافهم الوعد وإسلامهم إياهم عند ما حق الأمر يشبه مثل{[64097]} { الشيطان } أي البعيد من كل خير لبعده من الله المحترق بعذابه ، والشيطان هنا مثل المنافقين { إذا قال للإنسان } أي كل من فيه نوس واضطراب وهو هنا مثل اليهود : { اكفر } أي بالله بما زين{[64098]} له ووسوس إليه من اتباع الشهوات القائم مقام الأمر .
ولما كان الإنسان بما يساعد تزيين الشيطان عليه من شهواته وحُظوظه وأخلاقه يطيع أمره غالباً قال : { فلما كفر } أي{[64099]} أوجد الكفر على أي وجه كان ، ودلت الفاء على إسراعه في متابعة تزيينه { قال } أي الشيطان الذي هو هنا عبارة عن المنافقين مؤكداً لما لمن تعلق بمن أكد له الوعد بشيء من صادق الاعتماد عليه والتكذيب بأنه{[64100]} يخذله : { إني بريء منك } أي ليس بيني وبينك علاقة في شيء{[64101]} أصلاً ظناً منه أن هذه البراءة تنفعه شيئاً {[64102]}مما استوجبه{[64103]} المأمور بقبوله لأمره ، وذلك كناية عن{[64104]} أنه فعل معه من الإعراض عنه والتمادي في كل ما يدل على إهماله من أكد البراءة منه ، وذلك كما فعل المنافقون باليهود{[64105]} جرؤوهم على أمر ينهى وهو الإقامة في بلدهم ، فلما نصبوا الحرب طمعاً في نصرهم فعل المنافقون بتباطؤهم عنهم فعل المتبرئ منهم{[64106]} فكان ذلك أشد عليهم مما لم يطمعوهم في نصرهم لأن هذا بمنزله انهزامهم{[64107]} عنهم من الصف الموجب لانهزامهم لا محالة ، ثم علل البراءة بقوله : { إني أخاف الله } أي الملك{[64108]} الذي لا أمر لأحد معه فلا تطاق صولته ، ثم شرح ذلك بقوله : { رب العالمين * } أي الذي أوجدهم من العدم ورباهم بما يدل على{[64109]} جميع الأسماء الحسنى والصفات العلى ، فلا يغني أحد من خلقه عن أحد شيئاً إلا بإذنه وهو{[64110]} لا يغفر أصلاً لمن يقدح{[64111]} ربوبيته ولا سيما إن نسبها إلى غيره ، وكان هذا كمثل ما يجد الإنسان بعد الوقوع في المعصية من الندم والحيرة ، فإذا وجد ذلك وهم بالتوبة زين له المعصية وصعب عليه أمر التوبة وعسره وجرأه على المعصية بعينها أو على ما هو أكبر منها ، ولا يزال كذلك حتى يتعذر عليه الرجوع فيتحقق هلاكه وهلاك من أوقعه . فلذلك سبب عنه قوله :{ فكان . . . }