تفسير القرآن الكريم لعبد الله شحاته - شحاته [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلٗا مِّن قَبۡلِكَ مِنۡهُم مَّن قَصَصۡنَا عَلَيۡكَ وَمِنۡهُم مَّن لَّمۡ نَقۡصُصۡ عَلَيۡكَۗ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأۡتِيَ بِـَٔايَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ فَإِذَا جَآءَ أَمۡرُ ٱللَّهِ قُضِيَ بِٱلۡحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ} (78)

المفردات :

بآية : بمعجزة .

أمر الله : قضاء الله ، أو يوم القيامة .

بالحق : بالعدل .

المبطلون : أهل الباطل .

التفسير :

78-{ ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون } .

إن رسالة محمد لم تكن بدعا من الرسل ، بل قد سبقه رسل وأنبياء كثيرون ، ذكر القرآن الكريم طائفة منهم ، ولم يذكر طائفة منهم ، فقد سجل القرآن الكريم قصص آدم ونوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب وزكريا ويحيى وأيوب وداود وسليمان ويونس وإسماعيل وإدريس ، ومجموع من ذكرهم القرآن الكريم من الرسل خمسة وعشرون رسولا ، ومن الرسل من لم يذكر القرآن أخبارهم ، وهم أكثر من ذلك بأضعاف أضعاف .

كما قال تعالى : { ورسلا قد قصصناهم عليك من قبل ورسلا لم نقصصهم عليك . . . } ( النساء : 164 ) .

أخرج الإمام أحمد ، عن أبي ذر قال : قلت يا رسول الله كم عدد الأنبياء ؟ قال : " مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا ، والرسل من ذلك ثلاثمائة وخمسة عشر ، جمّا غفيرا " {[638]} .

لقد ذكر القرآن الكريم أخبار المرسلين وكفاحهم ، وأحيا ذكراهم ، واقتصر في الذكر على نماذج محدودة ، ولم يذكر جميع الرسل لحكمة إلهية عليا ، فالقرآن ليس كتاب إحصاء ، وليس كتاب تاريخ أو معارف ، لكنه ذكر نماذج من الرسل ، وعينات من العلوم والمعارف ، وقبسات من تاريخ الأمم والملوك والرسل للعظة والاعتبار .

قال تعالى : { لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب } . ( يوسف : 111 ) .

وقد أيد الله الرسل بالمعجزات ، وأنزل عليهم الآيات والصحف والكتب وألوان الهداية .

{ وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله . . . } .

إن مجيء الآيات والمعجزات يتم بحكمة إلهية ، وباختيار الله لكل رسول بما يناسبه ، فقد أيد الله إبراهيم بأن جعل النار بردا وسلاما عليه ، وأيّد موسى باليد والعصا وتسع آيات بينات ، كما أيّد عيسى بإحياء الموتى بإذن الله ، وشفاء المرضى بإذن الله ، وجعل معجزة محمد صلى الله عليه وسلم من جنس ما برع فيه قومه ، وهو البيان والقصائد والخطب والنظام والنثر ، فجاء القرآن في الذروة العليا من الفصاحة لكنه ليس شعرا ، وليس أساطير الأولين ، وليس كهانة ، ولكنه وحي الله إلى رسوله ، وقد اقترح كفار مكة ألوانا من المعجزات تشبه ناقة صالح ، أو عصا موسى ، كما اقترحوا أن يأتي لهم الرسل بالأنهار والبساتين حتى تصبح مكة مثل قرى الشام في الزراعة وطيب النسيم ، والقرآن يذكر أن مجيء الآيات والمعجزات أمر إلهي ، ولا دخل للرسل في اقتراحها أو المجيء بها ، وإن كانت طبيعة الرسول البشرية تتمنى أن يتحقق للناس ما يتطلعون إلى وقوعه من المعجزات ، ليكون ذلك باعثا لهم عن الإيمان والتصديق ، ولكن الله تعالى لا يعجل لعجلة العباد ، ويريد لعباده المؤمنين أن ينالوا قسطا من الصبر والبتلاء ، حتى يكون الإيمان عن قناعة ورغبة وجهاد وتضحية .

{ وليمحص الله الذين آمنوا ويمحق الكافرين } . ( آل عمران : 141 ) .

{ فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون } .

أي : إن الله يمهل مجيء الآيات ليأخذ الناس فرصة واسعة قبل نزول العذاب ، فإذا جاء أمر الله ووعده بإهلاك الكافرين في الدنيا ، أو عذابهم في الآخرة ؛ جعل ذلك بالعدل والحق ، ولا مجال لاعتذار أو تراجع بل عذاب رادع في الدنيا ، أو دخول جهنم في الآخرة ، كما حدث في غرق نوح ، أو هلاك عاد وثمود ، أو غرق فرعون وملئه .

وعندئذ يخسر المبطلون ، ويحيق العذاب الشديد بأهل الباطل في الدنيا والآخرة .

{ وما ربك بظلام للعبيد } . ( فصلت : 46 ) .


[638]:كم المرسلون: رواه أحمد في مسنده (21036) من حديث أبي ذر قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فجلست فقال: " يا أبا ذر هل صليت؟ قلت: لا، قال: " قم فصل..." الحديث وفيه: قلت: يا رسول الله، أي الأنبياء كان أول ؟ قال: "آدم"، قلت: يا رسول الله ونبي كان؟ قال: "نعم نبي مكلم" قال: قلت: يا رسول الله، كم المرسلون ؟ قال:" ثلاثمائة وبضعة عشر جما غفيرا"، وقال مرة:" خمسة عشر" قال: قلت: يا رسول الله آدم أنبي كان ؟ قال: " نعم نبي مكلم"، قلت: يا رسول الله أيما أنزل عليك أعظم ؟ قال: " آية الكرسي { الله لا إله إلا هو الحي القيم}.
 
تيسير التفسير لإبراهيم القطان - إبراهيم القطان [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلٗا مِّن قَبۡلِكَ مِنۡهُم مَّن قَصَصۡنَا عَلَيۡكَ وَمِنۡهُم مَّن لَّمۡ نَقۡصُصۡ عَلَيۡكَۗ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأۡتِيَ بِـَٔايَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ فَإِذَا جَآءَ أَمۡرُ ٱللَّهِ قُضِيَ بِٱلۡحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ} (78)

ثم يسلي الرسولَ الكريم ومن معه بقوله تعالى :

{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ }

وتقدّم مثل هذا النص في سورة النساء : 164 .

{ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله }

يبين الله تعالى أن الرسلَ بشرٌ مكلفون بالتبشير والإنذار وتعليم الناس ،

أما المعجزات فهي بأمر الله وحسب مقتضى حكمته . ولا يمكن لرسول أن يأتي بمعجزة إلا بأمر الله ومشيئته . فإذا جاء أمر الله بالعذاب في الدنيا أو الآخرة قضى بين الناس بالعدل .

{ وَخَسِرَ هُنَالِكَ المبطلون }

ولم يعد هنا ك مجال للتوبة ولا للرجعة إلى الدنيا .

 
تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن لابن سعدي - ابن سعدي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلٗا مِّن قَبۡلِكَ مِنۡهُم مَّن قَصَصۡنَا عَلَيۡكَ وَمِنۡهُم مَّن لَّمۡ نَقۡصُصۡ عَلَيۡكَۗ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأۡتِيَ بِـَٔايَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ فَإِذَا جَآءَ أَمۡرُ ٱللَّهِ قُضِيَ بِٱلۡحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ} (78)

{ 78 } { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ }

أي : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا } كثيرين إلى قومهم ، يدعونهم ويصبرون على أذاهم . { مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ } خبرهم { وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } وكل الرسل مدبرون ، ليس بيدهم شيء من الأمر .

وما كان لأحد منهم { أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ } من الآيات السمعية والعقلية { إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ } أي : بمشيئته وأمره ، فاقتراح المقترحين على الرسل الإتيان بالآيات ، ظلم منهم ، وتعنت ، وتكذيب ، بعد أن أيدهم اللّه بالآيات الدالة على صدقهم وصحة ما جاءوا به . { فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ } بالفصل بين الرسل وأعدائهم ، والفتح . { قُضِىَ } بينهم { بِالْحَقِّ } الذي يقع الموقع ، ويوافق الصواب بإنجاء الرسل وأتباعهم ، وإهلاك المكذبين ، ولهذا قال : { وَخَسِرَ هُنَالِكَ } أي : وقت القضاء المذكور { الْمُبْطِلُونَ } الذين وصفهم الباطل ، وما جاءوا به من العلم والعمل ، باطل ، وغايتهم المقصودة لهم ، باطلة ، فَلْيَحْذَر هؤلاء المخاطبون ، أن يستمروا على باطلهم ، فيخسروا ، كما خسر أولئك ، فإن هؤلاء لا خير منهم ، ولا لهم براءة في الكتب بالنجاة .

 
الجامع التاريخي لبيان القرآن الكريم - مركز مبدع [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلٗا مِّن قَبۡلِكَ مِنۡهُم مَّن قَصَصۡنَا عَلَيۡكَ وَمِنۡهُم مَّن لَّمۡ نَقۡصُصۡ عَلَيۡكَۗ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأۡتِيَ بِـَٔايَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ فَإِذَا جَآءَ أَمۡرُ ٱللَّهِ قُضِيَ بِٱلۡحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ} (78)

تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :

{ولقد أرسلنا رسلا من قبلك} يا محمد {منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك} ذكرهم.

{وما كان لرسول أن يأتي بآية} وذلك أن كفار مكة سألوا النبي صلى الله عليه وسلم أن يأتيهم بآية يقول الله تعالى: {وما كان لرسول} يعني وما ينبغي لرسول.

{أن يأتي بآية} إلى قومه {إلا بإذن الله} يعني إلا بأمر الله.

{فإذا جاء أمر الله} بالعذاب.

{قضي} العذاب {بالحق} يعني لم يظلموا حين عفوا.

{وخسر هنالك} يعني عند ذلك {المبطلون} المكذبين بالعذاب في الدنيا بأنه غير كائن.

جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :

يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم:"وَلَقَدْ أرْسَلْنا" يامحمد "رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ "إلى أممها؛ "مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ" يقول: من أولئك الذين أرسلنا إلى أممهم من قصصنا عليك نبأهم، "وَمِنْهُمْ مِنْ لَمْ نَقْصُصّ عَلَيْكَ" نبأهم...

وقوله: "وَما كانَ لِرَسُولِ أنْ يَأْتِيَ بآيَةٍ إلاّ بإذْنِ اللّهِ" يقول تعالى ذكره: وما جعلنا لرسول ممن أرسلناه من قبلك الذين قصصناهم عليك، والذين لم نقصصهم عليك إلى أممها أن يأتي قومه بآية فاصلة بينه وبينهم، إلا بإذن الله له بذلك، فيأتيهم بها، يقول جلّ ثناؤه لنبيه: فلذلك لم يجعل لك أن تأتي قومك بما يسألونك من الآيات دون إذننا لك بذلك، كما لم نجعل لمن قبلك من رسلنا إلا أن نأذن له به.

"فإذَا جاءَ أمْرُ اللّهِ قُضِيَ بالحَقّ" يعني بالعدل، وهو أن ينجي رسله والذين آمنوا معهم، "وخَسِرَ هُنالِكَ المُبْطِلُونَ" يقول: وهلك هنالك الذين أبطلوا في قيلهم الكذب، وافترائهم على الله وادعائهم له شريكا.

الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :

{فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ الله} وعيد، ورد عقيب اقتراح الآيات.

وأمر الله: القيامة.

{المبطلون} هم المعاندون الذين اقترحوا الآيات، وقد أتتهم الآيات فأنكروها وسموها سحراً...

المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :

{ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك} الآية رد على العرب الذين قالوا: إن الله لا يبعث بشراً رسولاً واستبعدوا ذلك.

{منهم من قصصنا} قال النقاش: هم أربعة وعشرون.

{ومنهم من لم نقصص عليك}...

{وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله} رد على قريش في إنكارهم أمر محمد صلى الله عليه وسلم وقولهم إنه كاذب على الله تعالى. والإذن يتضمن علماً وتمكيناً. فإذا اقترن به أمر قوي كما هو في إرسال النبي، ثم قال تعالى: {فإذا جاء أمر الله} أي إذا أراد الله إرسال رسول وبعثة نبي قضى ذلك وأنفذه بالحق، وخسر كل مبطل وحصل على فساد آخرته.

مفاتيح الغيب للرازي 606 هـ :

{ولقد أرسلنا رسلا من قبلك منهم من قصصنا عليك ومنهم من لم نقصص عليك} والمعنى أنه قال لمحمد صلى الله عليه وسلم: أنت كالرسل من قبلك، وقد ذكرنا حال بعضهم لك ولم نذكر حال الباقين، وليس فيهم أحد أعطاه الله آيات ومعجزات إلا وقد جادله قومه فيها وكذبوه فيها وجرى عليهم من الهم ما يقارب ما جرى عليك فصبروا، وكانوا أبدا يقترحون على الأنبياء إظهار المعجزات الزائدة على قدر الحاجة على سبيل العناد والتعنت. ثم إن الله تعالى لما علم أن الصلاح في إظهار ما أظهره، وإلا لم يظهره ولم يكن ذلك قادحا في نبوتهم، فكذلك الحال في اقتراح قومك عليك المعجزات الزائدة لما لم يكن إظهارها صلاحا، لا جرم ما أظهرناها، وهذا هو المراد من قوله {وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله}.

نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :

ولما قسم له الله سبحانه الحال إلى إصابتهم أو وفاته صلى الله عليه وسلم، وكان قد بقي مما هو أقر لعينه وأشفى لصدره أن يريهم في حياته آية تلجئهم إلى الإيمان، وتحملهم على الموافقة والإذعان، فيزول النزاع بحسن الاتباع، كما وقع لقوم يونس عليه الصلاة والسلام، قال عاطفاً على ما تقديره في تعليل الأمر بالصبر، فلقد أرسلناك إليهم ولننفذن أمرنا فيهم، وأما أنت فما عليك إلا البلاغ.

في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :

(وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله).. فالنفس البشرية -ولو كانت نفس رسول- تتمنى وترغب أن تستعلي الدعوة وأن يذعن لها المكابرون سريعاً. فتتطلع إلى ظهور الآية الخارقة التي تقهر كل مكابرة. ولكن الله يريد أن يلوذ عباده المختارون بالصبر المطلق؛ ويروضوا أنفسهم عليه؛ فيبين لهم أن ليس لهم من الأمر شيء، وأن وظيفتهم تنتهي عند حد البلاغ، وأن مجيء الآية هو الذي يتولاه حينما يريد. لتطمئن قلوبهم وتهدأ وتستقر؛ ويرضوا بكل ما يتم على أيديهم ويدعوا الأمر كله بعد ذلك لله. ويريد كذلك أن يدرك الناس طبيعة الألوهية وطبيعة النبوة ويعرفوا أن الرسل بشر منهم، اختارهم الله، وحدد لهم وظيفتهم، وما هم بقادرين ولا محاولين أن يتجاوزوا حدود هذه الوظيفة.. كذلك ليعلم الناس أن تأخير الآيات رحمة بهم؛ فقد قضى في تقديره بأن يدمر على المكذبين بعد ظهور الآيات. وإذن فهي مهلة، وهي من الله رحمة: (فإذا جاء أمر الله قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون).. ولم يعد هناك مجال لعمل ولا لتوبة ولا لرجعة بعد قضاء الله الأخير.

التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :

المقصود الأهمّ من هذه الآية هو قوله: {وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أنْ يأتِيَ بِآيَةٍ إلاَّ بإذْنِ الله}.

وأما قوله: {وَلَقَدْ أرْسَلْنَا رُسُلاً مِن قَبْلِكَ} الخ فهو كمقدمة للمقصود لتأكيد العموم من قوله: {وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله}، وهو مع ذلك يفيد بتقديمه معنى مستقلاً من رد مجادلتهم فإنهم كانوا يقولون: {ما أنزل اللَّه على بشر من شيء} [الأنعام: 91] ويقولون: {لولا أنزل عليه ملك} [الأنعام: 8] فدُمغت مزاعمهم بما هو معلوم بالتواتر من تكرر بعثة الرسل في العصور والأمم الكثيرة.

وتنكير {رسلاً} مفيد للتعظيم والتكثير، أي أرسلنا رسلاً عددهم كثير وشأنهم عظيم. وعطف

{ومَا كَانَ لِرَسُولٍ} الخ بالواو دون الفاء يفيد استقلال هذه الجملة بنفسها لما فيها من معنى عظيم حقيق بأن لا يكون تابعاً لغيره، ويكتفي في الدلالة على ارتباط الجملتين بموقع إحداهما من الأخرى

والآية: المعجزة، وإذن الله: هو أمر التكوين الذي يخلق الله به خارق العادة ليجعله علامة على صدق الرسول. ومعنى إتيان الرسول بآية: هو تحديه قومه بأن الله سيؤيده بآية يعينّها مثل قول صالح عليه السلام: {هذه ناقة الله لكم آية} [الأعراف: 73]...فالباء في {بآية باء التعدية لفعل أَنْ يَأْتِيَ} وأما الباء في {بإذن الله} فهي باء السببية دخلت على مستثنىً من أسباب محذوفة في الاستثناء المفرغ، أي ما كان له أن يأتي بآية بسبب من الأسباب إلا بسبب إذن الله تعالى.

وهذا إبطال لما يتوركون به من المقترحات والتعلات.

وفُرع عليه قوله: {فَإذَا جَاءَ أَمْرُ الله قُضِيَ بِالحَقِّ} أي فإذا جاء أمر الله بإظهار الرسول آية ظهر صدق الرسول وكان ذلك قضاء من الله تعالى لرسوله بالحق على مكذبيه، فإذن الله هو أمره التكويني بخلق آية وظهورها.

{فَإِذَا جَاءَ أمْرُ الله} الأمر: القضاء والتقدير، كقوله تعالى: {أتى أمر اللَّه فلا تستعجلوه} [النحل: 1] وقوله: {أو أمر من عنده} [المائدة: 52] وهو الحدث القاهر للناس كما في قول عمر لما قال له أبو قَتادة يومَ حُنين « ما شأن الناس» حين انهزموا وفَرّوا قال عمر: « أَمرُ الله» وفي العدول عن: إذن الله، إلى {أَمْرُ الله} تعريض بأن ما سيظهره الله من الإِذن لمحمد صلى الله عليه وسلم هي آيات عقاب لمعانديه، فمنها: آية الجوع سبع سنين حتى أكلوا الميتة، وآيةُ السيفِ يوم بدر إذْ استأصل صناديدَ المكذبين من أهل مكة، وآية السيفِ يوم حُنين إذ استأصل صناديدَ أهل الطائف، وآية الأحزاب التي قال الله عنها: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة اللَّه عليكم إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحاً وجنوداً لم تروها} [الأحزاب: 9] ثم قال: {وردَّ الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيراً وكفى اللَّه المؤمنين القتال وكان اللَّه قوياً عزيزاً وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقاً تقتلون وتأسرون فريقاً وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضاً لم تطئوها وكان الله على كل شيء قديراً} [الأحزاب: 25 27].

وفي إيثار {قُضِيَ بِالحَق} بالذكر دون غيره من نحو: ظهر الحق، أو تبين الصدق، ترشيح لما في قوله: {أَمْرُ الله} من التعريض بأنه أمر انتصاف من المكذبين. ولذلك عطف عليه {وَخَسِرَ هُنَالِكَ المُبْطِلُونَ} أي خسر الذين جَادلوا بالباطل ليُدحضوا به الحق.

والخسران: مستعار لحصول الضرّ لمن أراد النفع، كخسارة التاجر الذي أرادَ الربح فذهب رأس ماله.

و {هنالك} أصله اسم إشارة إلى المكان، واستعير هنا للإِشارة إلى الزمان المعبر عنه ب (إذا) في قوله: {فَإِذَا جَاءَ أمْرُ الله}.

وفي هذه الاستعارة نكتة بديعية وهي الإِيماء إلى أن المبطلين من قريش ستأتيهم الآية في مكان من الأرض وهو مكان بَدر وغيره من مواقع إعمال السيف فيهم، فكانت آيات محمد صلى الله عليه وسلم حجة على معانديه أقوى من الآيات السماوية نحو الصواعق أو الريح، وعن الآياتِ الأرضية نحو الغَرق والخسف؛ لأنها كانت مع مشاركتهم ومداخلتهم حتى يكون انغلابهم أقطع لحجتهم وأخزى لهم نظير آية عَصَا موسى مع عِصيّ السحرة.

أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 1393 هـ :

المبطل هو: من مات مصراً على الباطل.

 
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي - الواحدي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلٗا مِّن قَبۡلِكَ مِنۡهُم مَّن قَصَصۡنَا عَلَيۡكَ وَمِنۡهُم مَّن لَّمۡ نَقۡصُصۡ عَلَيۡكَۗ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأۡتِيَ بِـَٔايَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ فَإِذَا جَآءَ أَمۡرُ ٱللَّهِ قُضِيَ بِٱلۡحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ} (78)

وقوله { فإذا جاء أمر الله } بعذاب الأمم المكذبة { قضي بالحق وخسر هنالك المبطلون } أي تبين خسران أصحاب الباطل

 
التسهيل لعلوم التنزيل، لابن جزي - ابن جزي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلٗا مِّن قَبۡلِكَ مِنۡهُم مَّن قَصَصۡنَا عَلَيۡكَ وَمِنۡهُم مَّن لَّمۡ نَقۡصُصۡ عَلَيۡكَۗ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأۡتِيَ بِـَٔايَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ فَإِذَا جَآءَ أَمۡرُ ٱللَّهِ قُضِيَ بِٱلۡحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ} (78)

{ منهم من قصصنا عليك } روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أن الله تعالى بعث ثمانية آلاف رسول " وفي حديث آخر : " أربعة آلاف " ، وفي حديث أبي ذر : " إن الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفا منهم الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر " ؛ فذكر الله بعضهم في القرآن ، فهم الذين قص عليه ولم يذكر سائرهم فهم الذين لم يقصص عليه .

{ فإذا جاء أمر الله قضى بالحق } قال الزمخشري : أمر الله ، القيامة ، وقال ابن عطية : المعنى : إذا أراد الله إرسال رسول قضى ذلك ويحتمل أن يريد بأمر الله إهلاك المكذبين للرسل لقوله : { وخسر هنالك المبطلون } هنالك في الموضعين يراد به الوقت والزمان وأصله ظرف مكان ثم وضع موضع ظرف الزمان .

 
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي - البقاعي [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلٗا مِّن قَبۡلِكَ مِنۡهُم مَّن قَصَصۡنَا عَلَيۡكَ وَمِنۡهُم مَّن لَّمۡ نَقۡصُصۡ عَلَيۡكَۗ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأۡتِيَ بِـَٔايَةٍ إِلَّا بِإِذۡنِ ٱللَّهِۚ فَإِذَا جَآءَ أَمۡرُ ٱللَّهِ قُضِيَ بِٱلۡحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ ٱلۡمُبۡطِلُونَ} (78)

ولما قسم له الله سبحانه الحال إلى إصابتهم أو وفاته صلى الله عليه وسلم ، وكان قد بقي مما هو أقر لعينه وأشفى لصدره أن يريهم في حياته آية تلجئهم إلى الإيمان ، وتحملهم على الموافقة والإذعان ، فيزول النزاع بحسن الاتباع ، كما وقع لقوم يونس عليه الصلاة والسلام ، قال عاطفاً على ما تقديره في تعليل الأمر بالصبر ، فلقد أرسلناك إليهم ولننفذن أمرنا فيهم ، وأما أنت فما عليك إلا البلاغ : { ولقد أرسلنا } أي على ما لنا من العظمة { رسلاً } أي بكثرة . ولما كان الإرسال إنما هو في بعض الزمان الماضي وإن كان بلوغ رسالة كل لمن بعده موجبة لانسحاب حكم رسالته إلى مجيء الرسول الذي يقفوه ، أثبت الجار لإرادة الحقيقة فقال : { من قبلك } أي إلى أممهم ليبلغوا عنا ما أمرناهم به : { منهم من قصصنا } أي بما لنا من الإحاطة { عليك } أي أخبارهم وأخبار أممهم { ومنهم من لم نقصص } وإن كان لنا العلم التام والقدرة الكاملة { عليك } لا أخبارهم ولا أخبار أممهم ولا ذكرناهم لك بأسمائهم { وما } أي أرسلناهم والحال أنه ما { كان لرسول } أصلاً { أن يأتي بآية } أي ملجئة أو غير ملجئة مما يطلب الرسول استعجالاً لاتباع قومه له ، أو اقتراحاً من قومه عليه أو غير ذلك مما يجادل فيه قومه أو يسلمون له أو ينقادون ، وصرف الكلام عن المظهر المشير إلى القهر إلى ما فيه - مع الإهانة - الإكرام فقال : { إلا بإذن الله } أي بأمره وتمكينه ، فإن له الإحاطة بكل شيء ، فلا يخرج شيء عن أمره ، فإن لم يأذن في ذلك رضوا وسلموا وصبروا واحتسبوا ، وإن أذن في شيء من ذلك من عذاب أو آية ملجئة أو غير ذلك جاءهم ما أذن فيه { فإذا جاء } وزاد الأمر عظماً لمزيد الخوف والرجاء بالإظهار دون الإضمار فقال : { أمر الله } أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً ، وأمره ما توعد به من العذاب عند العناد بعد الإجابة إلى المقترح ، ومن القيامة وما فيها ، وتكرير الاسم الأعظم لتعظيم المقام باستحضار ما له من صفات الجلال والإكرام ، ولثبات ما أراد ولزومه عبر عنه بالقضاء ، فقال مشعراً بصيغة المفعول بغاية السهولة : { قُضيَ } أي بأمره على أيسر وجه وأسهله { بالحق } أي الأمر الثابت الذي تقدم الوعد به وحكم بثبوته من إهلاك ناس وإنجاء آخرين أو إيمان قوم وكفر آخرين - هذا كله هو الذي أجرى سبحانه سنته القديمة بثبوته ، وأما الفضل من الإمهال والتطول بالنعم فإنما هو قبل الإجابة إلى المقترحات ، والدليل على أن هذا من مراد الآية ما يأتي من قوله : { فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا } وما أشبهه { وخسر } أي هلك أو تحقق وتبين بالمشاهدة أنه خسر { هنالك } أي في ذلك الوقت العظيم بعظمة ما أنزلنا فيه ، ظرف مكان استعير للزمان إيذاناً بغاية الثبات والتمكن في الخسار تمكن الجالس { المبطلون * } أي المنسوبون إلى إيثار الباطل على الحق ، إما باقتراح الآيات مع إتيانهم بما يغنيهم عنها وتسميتهم له سحراً أو بغير ذلك ، إما بتيسرهم على الرجوع عما هم فيه من العناد من غير إذعان وإما بالهلاك ، وإما بإدحاض الحجج والحكم عليهم بالغلب ثم النار ولو بعد حين ، ومن هذه الآية أخذ سبحانه في رد مقطع السورة على مطلعها ، فهذه الآية ناظرة إلى قوله تعالى { وهمت كل أمة برسولهم ليأخذوه } { وما كان لرسول أن يأتي بآية } إلى { وجادلوا بالباطل } و { أفلم يسيروا في الأرض } إلى { فأخذتهم فكيف كان عقاب } وهذا وما بعده مما اشتمل عليه من الحكمة والقدرة إلى الثلاث الآيات الأول .