ستة أيام : ستة أطوار ، أو ست مراحل ، وربما ستة بلايين سنة .
استوى : جلس ، والاستواء هنا بمعنى استولى .
العرش : أصله : سرير المُلك ، وفي الإصلاح الديني ، خلق عظيم محيط بالعالم ، منه تنزل التدبيرات الإلهية .
4- { هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } .
تسابق المسلمون إلى العمل بالقرآن الكريم ، وقد آمنوا بالمحكم ، وفوضوا إلى الله تعالى المتشابه ، واندفعوا إلى تحقيق مطالب الإيمان ، ففتحوا البلاد ، ونشروا دين الله في الأرض ، وبعد الفتوح والهدوء وجدنا البحث في الصفات وفي المتشابه .
فالسلف يقولون : نؤمن بها كما وردت ، ونفوض المراد إلى الله تعالى .
مثل قوله تعالى : { ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ } .
الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة .
أي أننا نؤمن بآيات الصفات كما جاءت ، بلا تشبيه ولا تعطيل ، نؤمن بأن الله على العرش ، كيف شاء وكما شاء ، بلا حدّ ولا صفة يبلغها واصف .
أما مذهب الخلف فيقولون : حاشا وكلا أن ينزل الله قرآنا ، ويطلب منا تدبّره وفهمه والاستنباط منه ، ثم نمنع أنفسنا من تأويله بمعان تليق بذاته تعالى ، مثل :
{ يد الله فوق أيديهم } . . . ( الفتح : 10 ) . { ولتصنع على عيني } . ( طه : 39 ) . { ثم استوى على العرش } . ( الحديد : 4 ) .
فيؤولون ذلك بقولهم : قدرة الله فوق قدرتهم ، ولتربّى بعنايتي وتوفيقي ، ثم استولى وغلب وقهر ومَلَك العرش ، وهو خلق عظيم محيط بالعالم ، منه تنزل التدبيرات الإلهية .
والمعنى الكليّ المفهوم من العرش أنه مركز نظام الكون ، ومصدر التدبير له ، وأن المتبادر في الاستعمال اللغوي استعمالهم : استوى على عرشه ، بمعنى ملك أو استقام أمر الملك له ، وثُلَّ عرشه ، بمعنى هلك وزال ملكه ، ونحن نعلم أن عروش ملوك البشر تختلف مادة وشكلا ، وهي من عالم الشهادة ، وصنع أيدي البشر ، أما عرش الرحمن فهو من عالم الغيب الذي لا ندركه بحواسنا ، ولا نستطيع تصويره بأفكارنا ، وحسبنا أن نفهم الجملة ، ونستفيد العبرة .
المتأمل في الآيات التي تحدثت عن خلق السماوات والأرض وعن خلق الكون ، يخلص إلى النقاط الآتية :
1- وجود مراحل ست للخلق عموما .
2- تداخل مراحل خلق السماوات مع مراحل خلق الأرض .
3- خلق الكون ابتداء من كومة أولية فريدة ، كانت تشكل كتلة متماسكة ، انفصلت أجزاؤها بعد ذلك .
4- تعدد السماوات ، وتعدد الكواكب التي تشبه الأرض .
5- وجود خلق وسيط بين السماوات والأرض .
6- إن المطابقة واضحة بين مفهوم السديم الأولي في العلم الحديث ، والدخان على حسب إشارة القرآن للدلالة على الحالة الغازية للمادة التي كونت الكون في هذه المرحلة الأولى .
وآيات القرآن الكريم يفسر بعضها بعضا ، ويكمل بعضها بعضا ، وقد أفاد القرآن أن الكون كان كرة ملتهبة ملتصقة ببعضها ، وكانت السماء رتقاء لا تُمطر ، والأرض صمّاء لا تنبت ، ففتق الله السماء بالمطر ، وفتق الأرض بالنبات ، وسخّر الهواء والفضاء ، والشمس والقمر ، والأنهار والبحار والنبات ، ليعمر الكون بإرادة الله .
قال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ * وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ * وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آَيَاتِهَا مُعْرِضُونَ * وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } . ( الأنبياء : 30-33 ) .
{ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ . . . }
أي : خلق الكون في مقدار ستة أيام من أيام لله تعالى ، ولو شاء لخلق السماوات والأرض في لمح البصر ، لكنه أراد أن يعلّم عباده الحكمة والصبر ، والأخذ بالأسباب ، وإتباع السنن الإلهية في الجدّ والعمل والدأب ، وانتظار الوقت المناسب لإنضاج الثمرة ، أو اكتمال العمل .
وقد انعقد في الولايات المتحدة الأمريكية مؤتمر للبحث في عمر الدنيا ، وعمر الإنسان على هذا الكوكب ، وذلك في أبريل سنة 1993م ، ومن نتائج المؤتمر أن عمر الكون 13 بليون سنة ، وأن عمر الإنسان في هذا الكون 7 ملايين سنة ، أي أن خلق الكون قد استمر 6 بلايين سنة ، حتى هدأت القشرة الملتهبة ، وأصبح الكون صالحا لحياة الإنسان ، ثم استخلف الله آدم لعمارة الأرض واستغلال طاقاتها ، وقدر الله في الأرض أرزاقها وأقواتها ، وحثّ الإنسان على أداء الصلاة ، ثم السعي على كسب الأرزاق .
قال تعالى : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } . ( الجمعة : 10 ) .
{ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ . . . }
ثم استولى على الملك ، يدبّره ويوصل كل شيء فيه إلى كماله .
{ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا . . }
يعلم ما بداخل الأرض من مطر وأموات وبذور وحشرات ، وهوام وكنوز وغيرها ، علما تفصيليا ، ويعلم الله ، َمَا يَخْرُجُ مِنْهَا . من نبات ونفائس ، ومعادن ونحوها ، كما قال تعالى :
{ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } . ( الأنعام : 59 ) .
{ وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ . . . } من الأرزاق والملائكة والرحمة والعذاب .
وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا . وما يصعد إليها من كلم طيب ودعوات وعبادات ، أو ذرات البخار ، أو جن يسترق السمع ، أو أرواح تصعد إلى بارئها .
قال تعالى : { إليه يصعد الكلم الطيب والعمل الصالح يرفعه . . . } ( فاطر : 10 )
وقال تعالى : { ألا يعلم من خلق . . . } ( الملك : 14 ) .
{ وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنْتُمْ . . . }
هو سبحانه مع خلقه جميعا بعلمه وقدرته ، وتدبيره وإحاطته إحاطة تامة بجميع الموجودات .
قال تعالى : { وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } . ( يونس : 61 ) .
{ واللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } .
هو سبحانه مطلع وشاهد ، ورقيب وحسيب ، تنكشف أمامه جميع الموجودات انكشافا تاما دون سبق خفاء فهو سبحانه سميع بصير .
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل لما سأله عن الإحسان : " الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك " . 7
وكان الإمام أحمد رحمه الله تعالى ينشد هذين البيتين :
استوى على العرش : استولى عليه . العرش : الملك والسلطان .
وهو الذي خلق هذا الكونَ في ستة أطوار ، فدبَّره جميعه ثم استولى على العرش . وقد تقدَّم مثلُ هذه الآية في عدة سور : الأعراف ويونس وهود والفرقان والسجدة .
يعلم كل ما يغيب في الأرض وما يخرج منها ، وما ينزل من السماء وما يصعَد إليها ، { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ } عليمٌ بكم ، محيطٌ بشئونكم في أيّ مكان كنتم . { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } .
قوله تعالى : " هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش " تقدم في " الأعراف{[14698]} " مستوفي . " يعلم ما يلج في الأرض " أي يدخل فيها من مطر وغيره " وما يخرج منها " من نبات وغيره " وما ينزل من السماء " من رزق ومطر وملك " وما يعرج فيها " يصعد فيها من ملائكة وأعمال العباد " وهو معكم أين ما كنتم " يعني بقدرته وسلطانه وعلمه " والله بما تعملون بصير " يبصر أعمالكم ويراها ولا يخفى عليه شيء منها . وقد جمع في هذه الآية بين " استوى على العرش " وبين " وهو معكم " والأخذ بالظاهرين تناقض فدل على أنه لا بد من التأويل ، والإعراض عن التأمل اعتراف بالتناقض . وقد قال الإمام أبو المعالي : إن محمدا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء لم يكن بأقرب إلى الله عز وجل من يونس بن متى حين كان في بطن الحوت . وقد تقدم .
{ هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير }
{ هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام } من أيام الدنيا أولها الأحد وآخرها الجمعة { ثم استوى على العرش } الكرسي استواءً يليق به { يعلم ما يلج } يدخل { في الأرض } كالمطر والأموات { وما يخرج منها } كالنبات والمعادن { وما ينزل من السماء } كالرحمة والعذاب { وما يعرج } يصعد { فيها } كالأعمال الصالحة والسيئة { وهو معكم } بعلمه { أين ما كنتم والله بما تعملون بصير } .