سورة الروم مكية ، نزلت بعد سورة الانشقاق ، وآياتها 60 آية وقد نزلت سورة الروم في السنة التي انتصر فيها الفرس على الروم وكان ذلك قبل الهجرة بسنة .
وسميت هذه السورة بسورة الروم لقوله تعالى في أولها : { ألم*غلبت الروم } . ( الروم : 1-2 ) .
قال المفسرونi : بعث كسرى جيشا إلى الروم واستعمل عليهم رجلا يسمى " شهريران " فسار إلى الروم بأهل فارس وظهر عليهم فقتلهم وخرب مدائنهم وقطع زيتونهم ، وكان قيصر قد بعث رجلا يدعى " يحنس " فالتقى مع " شهريران " بأذرعات وبصرى وهي أدنى الشام إلى أرض العرب فغلبت فارس الروم وبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة فشق عليهم . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يكره أن يظهر الأميون من أهل المجوس على أهل الكتاب من الروم ، وفرح كفار مكة وشمتوا ، وقالوا للمسلمين : إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب ونحن أميون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من الروم وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم .
فأنزل الله تعالى سورة الروم وفيها ما يفيد أن أهل فارس قد غلبوا في أرض الأردن وفلسطين وهي أقرب البلاد إلى جزيرة العرب ، ثم وعد الله بأن ينتصر الروم على الفرس في جولة أخرى خلال بضع سنين . والبضع هو ما بين الثلاث إلى التسع أو العشر ، وقد التقى الجيشان في السنة السابعة من الالتقاء الأول وغلبت الروم فارس .
وعن أبي سعيد الخدري قال : لما كان يوم بدر غلب المسلمين كفار مكة وأتى المسلمون الخبر بعد ذلك والنبي والمؤمنون بالحديبية بأن الروم قد غلبوا أهل فارسii ففرح المسلمون بذلك ، لانتصار أهل الكتاب على عباد الأوثان ، فذلك قوله تعالى : { ويومئذ يفرح المؤمنون*بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم } . ( الروم : 4-5 ) .
يمضي سياق سورة الروم في فصلين مترابطين :
الفصل الأول : يربط بين نصر المؤمنين والحق الذي تقوم عليه السموات والأرض وما بينهما ، ويرتبط به أمر الدنيا والآخرة ويوجه إلى سنة الله فيمن مضى قبلهم من القرون ، ويقيس عليها قضية البعث والإعادة ومن ثم يعرض عليهم مشهدا من مشاهد الكون ، وآيات الله المبثوثة في ثناياه ودلالة تلك المشاهد وإيحائها للقلوب ، ويضرب لهم من أنفسهم ومما ملكت أيمانهم مثلا يكشف عن سخافة فكرة الشرك وقيامها على الأهواء التي لا تستند إلى حق أو علم وينتهي هذا الموضوع بتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى اتباع الحق الواحد الثابت الواضح طريق الفطرة التي فطر الله الناس عليها ، والتي لا تتبدل ولا تدور مع الهوى ، ولا يتفرق متبعوها شيعا وأحزابا كما تفرق الذين اتبعوا الهوى .
ويستغرق هذا الفصل من أول السورة إلى الآية 22 .
الفصل الثاني : يكشف هذا الفصل عما في طبيعة الناس من تقلب لا يصلح أن تقام عليه الحياة ، ما لم يرتبطوا بمعيار ثابت لا يدور مع الأهواء ويصور حالهم في الرحمة والضر وعند بسط الرزق وقبضه ويستطرد بهذه المناسبة إلى وسائل إنفاق هذا الرزق ويعود إلى قضية الشرك والشركاء فيعرضها من هذه الزاوية فإذا هم لا يرزقون ولا يميتون ولا يحيطون ويربط بين ظهور الفساد في البر والبحر وعمل الناس وكسبهم ويوجههم إلى السير في الأرض والنظر في عواقب المشركين من قبل ومن ثم يوجه الرسول صلى الله عليه وسلم على الاستقامة على دين الفطرة من قبل أن يأتي اليوم الذي يجزى فيه كل إنسان بما كسبت يداه ، ويعود بهم بعد ذلك إلى آيات الله في مشاهد الكون- كما عاد بهم في الفصل الأول- ويعقب على ذلك بأن الهدى هدى الله وأن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يملك إلا البلاغ فهو لا يهدي العمي ولا يسمع الصم ، ثم يطوف بهم في جولة جديدة في ذات أنفسهم ويذكرهم بأطوار نشأتهم من بدئها إلى منتهاها منذ الطفولة الواهنة الضعيفة إلى الموت والبعث والقيامة ويعرض عليهم مشهدا من مشاهدها ثم ينتهي هذا الموضوع ويختم معه السورة بتوجيه الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الصبر على دعوته وما يلقاه من الناس فيها ، والاطمئنان إلى ان وعد الله حق لا بد آت فلا يثقله الذين لا يوقنون .
ويستغرق هذا الفصل من الآية 33 إلى آخر السورة .
الفكرة الرئيسية في سورة الروم هي الكشف عن الارتباطات الوثيقة بين أحوال الناس وأحداث الحياة وماضي البشرية وحاضرها ومستقبلها ، وسنن الوجود ونواميس الكون ومن خلال هذه الارتباطات يبدو أن كل حركة وكل حالة وكل نصر وكل هزيمة كلها مرتبطة برباط وثيق محكومة بقانون دقيق وأن مرد الأمر فيها كله لله : { لله الأمر من قبل ومن بعد . . . } ( الروم : 4 ) وهذه هي الحقيقة الأولى التي يؤكدها القرآن كله بوصفها الحقيقة الموجهة في هذه العقيدة ، الحقيقة التي تنشأ عنها جميع التصورات والمشاعر والقيم والتقديرات والتي بدونها لا يستقيم تصور ولا تقدير .
وهناك أفكار متعددة مبثوتة في ثنايا السورة منها :
ذكر أخبار القرون الماضية ، وذكر قيام الساعة وآيات التوحيد والحجج المترادفة الدالة على الذات والصفات وبيان البعث يوم القيامة ، وتمثيل حال المؤمنين والكافرين وتقرير المؤمنين على الإيمان والأمر بالمعروف والإحسان إلى ذوي القربى ووعد الثواب على أداء الزكاة والإخبار عن ظهور الفساد في البر والبحر ، وعن آثار القيامة ، وذكر عجائب الصنع في السحاب والأمطار وظهور آثار الرحمة في إنبات النبات وظهور الربيع وذكر إصدار الكفار على الكفر ، وتخليق الله الخلق مع الضعف والعجز وإحياء الخلق بعد الموت والحشر والنشر وتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم .
لم يقف القرآن في سورة الروم عند حادث هزيمة الروم أمام الفرس ثم الوعد بغلبة الروم على الفرس . ولكنه انطلق من ذكر هذه الحادثة ليربط بين سنة الله في نصر العقيدة السماوية والحق الكبير الذي قامت عليه السماوات والأرض وما بينهما وليصل بين ماضي البشرية وحاضرها ومستقبلها .
ثم يستطرد إلى الحياة الآخرة ومشاهدها ثم يطوف بالمسلمين في مشاهد الكون ومشاهد النفس وأحوال البشر وعجائب الفطر ، ومن ثم يرتفع تصورهم لحقيقة الارتباطات وحقيقة العلاقات في هذا الكون الكبير ويشعرون بدقة السنن التي تحكم هذا الكون وتصرف أحداث الحياة وتحدد مواضع النصر ومواضع الهزيمة .
وفي ظل ذلك التصور الواسع الشامل تنكشف عالمية هذه الدعوة وارتباطها بأوضاع العالم كله من حولها .
ويدرك المسلم موقفه وموقف أمته في ذلك الخضم الهائل ويعرف قيمته وقيمة عقيدته في حساب الناس وحساب الله فيؤدي حينئذ دوره على بصيرة وينهض بتكاليفه في ثقة وطمأنينة واهتمام .
سورة الروم مكية وآياتها ستون نزلت بعد سورة الانشقاق
وقد بدئت سورة العنكبوت قبلها بالجهاد وختمت به ، وبدئت سورة الروم بما يفيد أن الله ينصر المؤمنين واشتملت سورة الروم على أدلة التوحيد والنظر في الآفاق والأنفس وهي معان ذكرت في سورة العنكبوت .
{ آلم( 1 ) غلبت الروم( 2 ) في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون( 3 ) في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون( 4 ) بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم( 5 ) وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون( 6 ) يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون( 7 ) }
حروف للتحدي والإعجاز وبيان أن الخلق عاجزون عن الإتيان بمثل القرآن مع أنه مكون من حروف عربية ينطقون بها ويتكلمون بها وقيل : هي حروف تشير إلى أسماء الله تعالى أو صفاته ، وقيل إنها أدوات للتنبيه كالجرس الذي يقرع فيتنبه التلاميذ إلى دخول المدرسة .
كانت الدولة الرومانية والدولة الفارسية أعظمَ دولِ العالم في عصر النبيّ صلى الله عليه وسلم ، وكانت الحروبُ بينهما دائمة . وفي عصر كسرى أبرويز نَشِطت الدولةُ الفارسية وانتصرت على الروم واستولت على جميع ممتلكاتهم في العراق وبلاد الشام ومصر وآسيا الصغرى . يومذاك تقلصت الإمبراطورية الرومانية في عاصمتها ، وسُدّت عليها جميع الطرق في حصار اقتصادي قاس ، وعم القحط ، وفشت الأمراض الوبائية . وأخذ الفرس يستعبدون الرعايا الروم ويستبدّون بهم للقضاء على المسيحية ، فدمروا الكنائس وأخذوا خشبة الصليب المقدس وأرسلوها الى المدائن . وأراقوا دماء ما يقرب من مائة ألف من السكان المسيحيين . وأوشكت الامبراطورية الرومانية على الانهيار .
في هذه الفترة كان المسلمون في مكّةَ في أصعب أيامهم وأشدّ مِحنتهم ، وفي حالةٍ من الضعف والضَنْك لا يمكن تصوُّرها . وقد فرح المشركون بنصر الفُرس لأنهم وثنيون مثلهم ، وحزِن المسلمون باندحار الروم لأنهم أهلُ كتاب . وقال المشركون شامتين : لقد غلب إخوانُنا إخوانكم ، وكذلك سوف نقضي عليكم إذا لم تتركوا دينكم الجديد هذا .
{ ألم غُلِبَتِ الروم في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ } :
يقول المؤرخ البريطاني « جيبون » في كتابه « تدهور الإمبراطورية الرومانية وسقوطها » تعليقا على نبوءة القرآن هذه : « في ذلك الوقت حين تنبأ القرآن بهذا لم تكن آية نبوءة أبعدَ منها وقوعا ، لأن السنين الاثنتي عشرة الأولى من حكومة هِرَقل كانت تؤذِن بانتهاء الإمبراطورية الرومانية » ، المجلد الخامس صفحة 74 .
« فلما سمع أبو بكر رضي الله عنه هذه الآيات خرج إلى المشركين فقال لهم : أفرِحتم بظهور إخوانكم الفرس ، فواللهِ لتظهرنَّ الرومُ على فارس كما أخبرنا بذلك نبيُّنا صلى الله عليه وسلم . فقام إليه أُبيّ بن خلف فقال له : كذبتَ . فقال أبو بكر : أنت كذبتَ يا عدو الله . اجعل بيننا أجَلاً أراهنك على عشر قلائص منّي وعشرٍ منك ، فإن ظهرت الرومُ على فارس ربحتُ أنا الرهان ، وإن ظهرت فارس ربحتَ أنت الرهان . ثم جاء إلى النبيّ عليه الصلاة والسلام فأخبره ، فقال الرسول الكريم : زايدْه في الرِهان ومادَّه في الأجلِ .
فخرج أبو بكر ، فلقي أُبي بن خلف فقال له : لعلّك ندمتَ ؟ فقال : لا . فقال أبو بكر : تعالى أزايدْك في الرهان ، وأمادّك في الأجل ، فاجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين ، قال : قد فعلت . وقد قتل أُبي في معركة أُحُد . ولما ظهرت الرومُ على الفرس واستعادوا بلادهم وصدقت نبوءة القرآن ، أخذ أبو بكر مائةَ ناقة من ورثةِ أُبيّ وتصدّق بها ، وهذا كان قبل تحريم الميسر »
وهكذا صدقت نبوءةُ القرآن الكريم عن غلبة الروم في أقلَّ من عشر سنين ، وفي هذا أكبرُ دليل على أن القرآن كتابُ الله ، وأن هذه النبوءة جاءت من لدن مهيمنٍ على كل الوسائل والأحوال ، ومَن بيده قلوبُ الناس وأقدارُهم .