سورة الطور مكية ، وآياتها 49 آية ، نزلت بعد سورة السجدة ، وهي سورة ترجّ القلب البشري رجّا ، بإيقاعها القوي وفواصلها القصيرة ، وتأثيرها في النفس والحس ، واستغلالها مشاهد التاريخ ومظاهر الكون للتدليل على ألوهية الخالق ، وعظيم قدرته .
والطّور : الجبل فيه شجر ، والأرجح أن المقصود به هو الطور المعروف في القرآن ، وهو الجبل الذي كلَّم الله عليه موسى عليه السلام ، وتلقى عنده تعاليم السماء ، قال تعالى : { وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولاً نَبِيًّا *وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا . } ( مريم : 51-52 ) .
وكتاب مسطور : الأقرب أن يكون كتاب موسى الذي كتب له في الألواح للمناسبة بينه وبين الطور .
وقيل : هو اللوح المحفوظ تمشيا مع ما بعده ، وهو البيت المعمور والسقف المرفوع ، ولا يمتنع أن يكون هذا هو المقصود .
والبيت المعمور : قد يكون هو الكعبة فهي عامرة بالطواف حولها في جميع الأوقات .
وقيل : هو بيت في السماء حيال الكعبة يدخله كل يوم سبعون ألفا لا يعودون إليه ، بل يدخل غيرهم في اليوم التاليi .
وذلك يرمز إلى كثرة الملائكة وهم خلق مكرمون لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون .
وقد نسب ذلك إلى سفيان الثوري ، عن الإمام عليّ رضي الله عنه ، وقال تعالى : { وجعلنا السماء سقفا محفوظا وهم عن آياتها معرضون } . ( الأنبياء : 32 ) .
والبحر المسجور : المملوء ، وهو أنسب شيء يذكر مع السماء في مشهد ، في انفساحه وامتلائه وامتداده .
وقد يكون معنى المسجور : المتقد . كما قال تعالى في سورة أخرى : { وإذا البحار سُجِّرت } . ( التكوير : 6 )
أي : توقدت نيرانا عند نهاية الحياة ، وذلك يمهد لجواب القسم ، وهو : { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ } . ( الطور : 7-8 )
وقد سمع عمر رضي الله عنه هذه الآية ذات ليلة فتأثر بها واشتد خوفه ، وعاد إلى بيته مريضا ، ومكث شهرا يعوده الناس لا يدرون مرضه .
وعمر رضي الله عنه سمع السورة قبل ذلك وقرأها وصلى بها ، فقد كان رسول الله يصلي بها المغرب ، ولكنها في تلك الليلة صادفت من عمر قلبا مكشوفا ، وحسا مفتوحا ، فنفذت إليه .
{ يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا } ( الطور : 9-10 ) .
ومشهد السماء الثابتة المبنية بقوة وهي تضطرب وتتقلب كما يضطرب الموج في البحر من هنا إلى هنالك بلا قوام ، ومشهد الجبال الراسية الصلبة تسير خفيفة رقيقة لا ثبات لها ولا استقرار أمر مذهل مزلزل ، من شأنه أن يذهل الإنسان .
وفي آيات أخرى ذكر القرآن أن السماء تنشق على غلظها ، وتتعلق الملائكة بأطرافها ، كما ذكر اضطراب الكون وسائر الموجودات في يوم القيامة .
إن قلوب أهل مكة التي جحدت الآخرة ، وأنكرت البعث والجزاء تحتاج إلى حملة عنيفة يُقسم الله فيها بمقدسات في الأرض والسماء – بعضها مكشوف معلوم ، وبعضها مغيب مجهول – على وقوع العذاب يوم القيامة وسط مشهد هائل ترتج له الأرض والسماء : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ . } ( إبراهيم : 48 ) .
وفي وسط هذا المشهد المفزع نرى ونسمع ما يزلزل ويرعب من ويل وهول وتقريع وتفزيع .
إن المجرمين يساقون سوقا إلى جهنم ، ويدفعون في ظهورهم دفعا حتى إذا وصل بهم الدفع إلى حافة النار قيل لهم : هذه هي النار ، فهل هي سحر كما زعمتم أن القرآن سحر وأن محمدا ساحر ، أم أنها الحق الهائل الرهيب ؟ أم أنكم لا تبصرون النار كما كنتم لا تبصرون الحق في القرآن ؟
من شأن القرآن أن يقابل بين عذاب الكافرين ونعيم المتقين ، وفي الآيات ( 17-28 ) نجد حديثا عن ألوان التكريم التي يتمتع بها المتقون ، فهم في الجنات يتمتعون بألوان اللذائذ الحسية والمعنوية ، وقد ألحق الله الذرية بالآباء إذ اشتركوا معهم في الإيمان وقصروا عنهم في العبادة والطاعة .
وفي الجزء الأخير من السورة نجد الآيات لها وقع خاص ، ورنين يأخذ على النفس البشرية كل أنحائها . ويجبه المنكرين بالعديد من الحجج ، ويستفهم منهم بطريقة لاذعة ساخرة لا يملك أي منصف معها غير التسليم .
والآيات تبدأ بتوحيد الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبلغ الدعوة . فهو أمين على وحي السماء ، بعيد عن الاتهام بالكذب والجنون ، وتسرد الآيات اتهام الكفار له بأنه شاعر أو متقول ، ادعى القرآن من عند نفسه ونسبه إلى الله ، فتطلب منهم أن يأتوا بمثل هذا القرآن إن كانوا صادقين في دعواهم .
وتعرض أمامهم أدلة القدرة ، فهل خُلقوا من غير خالق ، أم خَلَقوا أنفسهم ؟ وإذا انتفى ذلك لم يبق إلا احتمال ثالث وهو أنهم خلَق الله .
ويتوالى هذا الاستفهام الإنكاري يقرعهم بالحجة بعد الحجة ، وبالدليل تلو الدليل :
فهذه السماء العالية من خلقها ؟ هل هم خلقوها ؟
وهل تطلب منهم يا محمد أجرا على تبليغ الرسالة ؟
وهل يملكون أمر الغيب ، وأمر الغيب لا يطلع عليه إلا الله ؟
وهل لهم إله آخر غير الله يتولاهم ؟ تنزه الله عن شركهم .
وعندما وصل جحودهم وعنادهم إلى هذا الحد من الغلو في الباطل أمر الله رسوله أن يعرض عنهم ويتركهم حتى يلاقوا مصيرهم ، وفي هذا اليوم لا ينفعهم كيدهم ، ولا تنجيهم مؤامراتهم التي بيتوها بليل ، إن لهم عذابا شديدا في الدنيا فضلا عن عذاب الآخرة .
وفي ختام السورة إيناس رخّي رضيّ للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم فهو في عناية الله ، وتحت عينه ورعايته ، ومن وجد الله وجد كل شيء .
وإذا العناية لاحظتك عيونها *** نَم فالمخاوف كلهن أمان
قال تعالى : { وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا . . . }( الطور : 48 ) .
أي : في رعايتنا وجميل عنايتنا .
من الملامح الرئيسية لسورة الطور ما يلي :
1- أقسم الله بمخلوقات لبيان شرفها وفضلها ، وأكد بهذا القسم مجيء القيامة ووقوع العذاب .
2- وصفت السورة حال المتقين وما ينالهم من نعيم حسي ومعنوي .
3- ساقت حشدا من الأدلة على وجود الله وعظيم قدرته .
4- فندت حجج المشركين ، ودحضت مزاعمهم بأقوى الأدلة ، حيث إن الكون العظيم لابد له من خالق عظيم ، أما هم وآلهتهم العاجزة عن نفعهم وضرهم فلم يخلقوا شيئا .
5- في ختام السورة أمرت الرسول صلى الله عليه وسلم بالصبر ، وبينت أنه في رعاية الله وعنايته .
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
{ وَالطُّورِ ( 1 ) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ ( 2 ) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ ( 3 ) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ( 4 ) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ ( 5 ) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ ( 6 ) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ ( 7 ) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ ( 8 ) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا ( 9 ) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا ( 10 ) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ( 11 ) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ ( 12 ) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا ( 13 ) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ( 14 ) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ ( 15 ) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لاَ تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }
الطور : هو طور سينين ، وهو الجبل الذي كلّم الله عليه موسى عليه السلام .
أقسم الله في صدر السورة بعدة أشياء ، وجواب القسم : { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ *مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ . } ( الطور : 7-8 ) .
والطور هو الجبل الذي كلّم الله عليه موسى ، { من شاطئ الواد الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة . . . } ( القصص : 30 )
وقال عز شأنه : { وما كنت بجانب الطور إذ نادينا . . . } ( القصص : 46 )
{ 1-16 } { بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ * وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ * وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ * وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ * إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ * يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا * وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا * فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ * يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ * اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ }
يقسم تعالى بهذه الأمور العظيمة ، المشتملة على الحكم الجليلة ، على البعث والجزاء للمتقين والمكذبين ، فأقسم بالطور الذي هو الجبل الذي كلم الله عليه نبيه موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام ، وأوحى إليه ما أوحى من الأحكام ، وفي ذلك من المنة عليه وعلى أمته ، ما هو من آيات الله العظيمة ،