سورة لقمان سورة مكية وآياتها 34 آية نزلت بعد سورة الصافات وسورة لقمان من أواخر ما نزل بمكة ، فقد نزلت بعد الإسراء وقبل الهجرة وقد سميت بسورة لقمان لورود قصة لقمان فيها وكان من الحكماء الأقدمين ولم يرد اسم حكيم غيره في القرآن .
وسورة لقمان رحلة هائلة بعيدة الآماد والآفاق تطوف بالقلب في جولات متعددة لتأكيد قضية العقيدة وترسيخها في النفوس وهي القضية الي تعالجها السور المكية في أساليب شتى ، ومن زوايا متنوعة تتناول القلب البشري من جميع أقطاره وتلمس جوانبه بشتى المؤثرات التي تخاطب الفطرة وتوقظها .
هذه القضية الواحدة- قضية العقيدة- تتلخص هنا في توحيد الخالق وعبادته وحده ، وشكر آلائه وفي اليقين بالآخرة وما فيها من حساب دقيق وجزاء عادل وفي اتباع ما أنزل الله والتخلي عما عداه من مألوفات ومعتقدات .
والسورة تتولى عرض هذه القضية ثلاث مرات في ثلاث جوانب تطوف كل منها بالقلب البشري فتعرض عليه دعوة الهدى من جانب الوحي ومن جانب الحكمة ، ومن جانب الكون الكبير : سمائه وأرضه وشمسه وقمره وليله ونهاره وأجوائه وبحاره وأمواجه وأمطاره ونباته وأشجاره وأخيرا من جانب القدرة الإلهية المحيطة بكل شيء صاحبة الملك في الأولى والآخرة .
يمكن أن نقسم سورة لقمان على ثلاث فقرات أو جولات :
تبدأ الجولة بعد افتتاح السورة بالأحرف المقطعة فتقرر أن هذه السورة من جنس تلك الأحرف هي آيات الكتاب الحكيم وهي هدى ورحمة للمحسنين وهؤلاء المحسنون هم : { الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون . . . } ( لقمان : 4 ) فتقرر قضية اليقين بالآخرة وقضية العبادة لله ومعهما مؤثر نفسي ملحوظ : { أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } . ( لقمان : 5 ) ومن ذا الذي لا يريد أن يكون من المفلحين ؟
وفي الجانب الآخر فريق من الناس يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله بغير علم ويتخذ تلك الآيات هزؤا وهؤلاء يعاجلهم بمؤثر نفسي مخيف مناسب لاستهزائهم بآيات الله : { أولئك لهم عذاب مهين } . ( لقمان : 6 ) .
ثم يمضي في وصف حركات هذا الفريق : { وإذا تتلى عليه آياتنا ولى مستكبرا كأن لم يسمعها . . . } ( لقمان : 7 ) .
ومع الوصف مؤثر نفسي منفر من هذا الفريق : كأن في أذنيه وقرا . ومؤثر آخر يخيفه مع التهكم الواضح في التعبير { فبشره بعذاب اليم } . ( لقمان : 7 ) والبشارة هنا فيها ما فيها من التهكم الملحوظ .
ثم يعود إلى المؤمنين يفصل شيئا من فلاحهم الذي أجمله في أول السورة ويبين جزاءهم الحسن في الآخرة ثم يعرض صفحة الكون الكبير مجالا للبرهان القاطع الذي يطالع الفطرة من كل جانب ويخاطبها بكل لسان ويواجهها بالحق الهائل الذي يمر عليه الناس غافلين . . وأمام هذه الأدلة الكونية التي تهول الحس وتنبه الشعور يأخذ بتلابيب القلوب الشاردة التي تجعل لله شركاء وهي ترى خلقه العظيم : { هذا خلقه الله فأروني ماذا خلق الذين من دونه بل الظالمون في ضلال مبين } . ( لقمان : 11 ) .
وتستغرق هذه الجولة من أول السورة إلى الآية 11 .
تبدأ الجولة الثانية من خلال نفوس أدمية وتتناول القضية ذاتها بأسلوب جديد ومؤثرات جديدة إنها نصيحة من رجل حكيم يعظ ابنه فيقدم له خلاصة تجاربه وحكمته فيأمره بالتوحيد وينهاه عن الشرك ويحثه على بر الوالدين وطاعتهما فيما يأمران به إلا إذا أمرا بالشرك ونحوه وينبه لقمان ولده إلى إحاطة علم الله بكل شيء إحاطة يرتعش لها الوجدان البشري .
ثم يتابع لقمان وصيته لابنه فيأمره أن يقوم بتكاليف العقيدة من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأن يصبر ويحتمل فإن الصبر من أمهات الفضائل .
ويحث لقمان ولده على مكارم الأخلاق وآداب النفس والسلوك فينهاه عن الكبر والبطر ويأمره أن يعتدل في مشيته وأن يغض من صوته وأن يلزم الرفق والهدوء والاعتدال .
وقد استغرقت هذه الجولة الآيات من ( 12-19 ) .
تستغرق الجولة الثانية بقية السورة : الآيات من ( 20-34 ) وتبدأ بعرض أدلة التوحيد في خلق السماء والأرض وفي تسخير الكون وإسباغ النعم الظاهرة والباطنة وفي ظل هذه النعم الظاهرة والأدلة الملموسة يبدو الجدل في الله مستنكرا من الفطرة تمجه القلوب المستقيمة .
ثم يتابع السياق استنكار موقف الكفر والجمود وتقليد الآباء دون تبصر وروية ، ومن ثم يعرض قضية الجزاء في الآخرة مرتبطة بقضية الكفر والإيمان .
ثم يقف الكافرون وجها لوجه أمام منطق الفطرة وهي تواجه هذا الكون فلا تملك إلا الاعتراف بالخالق الواحد الكبير ، وتعرض الآيات مشهدا كونيا يهز القلب البشري مشهد الليل وهو يطول فيدخل في جسم النهار ويمتد والنهار وهو يطول فيدخل في جسم الليل ويمتد ، ومشهد الشمس والقمر مسخرين في فلكيهما يجريان في حدود مرسومة إلى وقت لا يعلمه إلا خالقهما ويتخذ من هذا المشهد الكوني دليله إلى الفطرة على القضية المعهودة وهي قضية التوحيد .
ثم يلمس القلوب بمؤثر آخر من نعمة الله على الناس في صورة الفلك التي تجري في البحر ، ثم يوقفهم أمام منطق الفطرة حين تواجه هول البحر مجردة من غرور القدرة والعلم الذي يبعدها عن بارئها ويتخذ من هذا المنطق دليلا على قضية التوحيد : { وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر فمنهم مقتصد وما يجحد بآياتنا إلا كل ختار كفور } . ( لقمان : 32 ) .
وبمناسبة موج البحر وهوله يذكرهم بالهول الأكبر وهو يقرر قضية الآخرة الهول الذي يفر فيه الوالد من ولده ، والولد من والده : { إن وعد الله حق فلا تغرنكم الحياة الدنيا . . . . } ( لقمان : 33 ) .
وتختم السورة بآية تقر القضايا التي عالجتها في إيقاع قوى عميق مرهوب فتذكر أن الله قد استأثر بخمس لا يعلمهن سواه : إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب إذا وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير . ( لقمان : 34 ) .
هذه الجولات الثلاث بأساليبها ومؤثراتها ودلائلها وآياتها نموذج من أسلوب القرآن الكريم في معالجة القلوب هذا الأسلوب المختار من خالق هذه القلوب العليم بمداخلها الخبير بما يصلح لها وما تصلح به من الأساليب .
{ آلم( 1 )تلك ءايات الكتاب الحكيم( 2 )هدى ورحمة للمحسنين( 3 ) الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون( 4 ) أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون( 5 ) }
حروف للتنبيه كالجرس الذي يقرع فينتبه التلاميذ لدخول المدرسة ، أو هي للتحدي والإعجاز وبيان أن الخلائق عاجزون عن الإتيان بمثل القرآن الكريم مع أنه مؤلف من حروف عربية ، ينطقون بها فدل ذلك على أنه ليس من صنع بشر ولكنه تنزيل من حكيم حميد .
وهي مكية ، غير آيتين قال قتادة : أولهما " ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام " [ لقمان :27 ] إلى آخر الآيتين{[1]} . وقال ابن عباس : ثلاث آيات ، أولهن " ولو أنما في الأرض " [ لقمان :27 ] . وهي أربع وثلاثون آية .
سورة لقمان عليه الصلاة والسلام{[1]}
مقصودها إثبات الحكمة للكتاب اللازم منه حكمة منزله سبحانه في أقواله وأفعاله ، وقصة لقمان المسمى به{[2]} السورة دليل واضح على ذلك كأنه{[3]} سبحانه لما أكمل ما أراد من أول القرآن إلى آخر براءة التي هي سورة غزو الروم ، وكان سبحانه قد ابتدأ القرآن [ بعد أم القرآن {[4]} ] بنفي الريب عن هذا الكتاب ، وأنه هدى للمتقين ، واستدل على ذلك فيما تبعها من السور ، ثم ابتدأ سورة{[5]} يونس بعد سورة غزو{[6]} الروم بإثبات حكمته ، وأتبع ذلك دليله إلى ختم سورة الروم ، ابتدأ دورا جديدا على وجه أضخم من الأول ، فوصفه في أول هذه التالية للروم بما وصفه به في يونس التالية لغزو الروم ، وذلك الوصف هو الحكمة وزاد أنه هدى وهداية للمحسنين ، فهؤلاء أصحاب النهايات ، والمتقون أصحاب البدايات .
ولما أثبت في آل عمران أنه أنزل بالحق ، أثبتت في السجدة تنزيله ونفي الريب عن أنه من عنده ، وأثبت أنه الحق ، واستمر فيما بعد هذا من السور مناظراً في الأغلب لما مضى كما يعرف ذلك بالإمعان في التذكر والتأمل والتدبر : { بسم الله } الذي وسع كل شيء رحمة وعلماً { الرحمن } الذي بث{[7]} بعموم حكمته{[8]} شامل نعمته في سائر بريته { الرحيم * } الذي أنار لخاصته طريق جنته ، فداموا {[9]}وهاموا{[10]} في محبته .
لما ختمت الروم بالحث على العلم ، وهو ما تضمنه هذا الكتاب العظيم ، والأمر بالصبر والتمسك بما فيه من وعد ، والنهي{[53589]} عن الإطماع لأهل الاستخفاف في المقاربة لهم في شيء من الأوصاف ، وكان ذلك هو الحكمة ، قال أول هذه : { آلم } مشيراً بها إلى أن الله الملك الأعلى القيوم أرسل - لأنه الظاهر مع أنه الباطن - جبرائيل عليه السلام إلى محمد عليه الصلاة والسلام بوحي ناطق من الحكم والأحكام بما لم ينطق به من قبله إمام ، ولا يلحقه في ذلك شيء مدى الأيام ، فهو المبدأ وهو الختام ، وإلى ذلك أو ما تعبيره بأداة البعد {[53590]}في قوله{[53591]} :