صفّا : صافّين أنفسهم ، أو مصفوفين .
بنيان مرصوص : بنيان متلاصق محكم لا فرجة فيه ، قال المبرد : تقول : رصصت البناء ، إذ لاءمت بين أجزائه وقاربت حتى يصير كقطعة واحدة .
4- { إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } .
إن الله تعالى يحب المقاتلين في سبيله أفرادا وجماعات في حالة ائتلاف واتحاد وتوافق ، متراصّين متحدين ، هدف واحد ، وصف واحد ، كأنهم بناء واحد أحكم وضع حلقاته ، حتى كأن البناء قطعة واحدة مترابطة ، وهذه الوحدة تبعث الهمة في النفوس ، والشجاعة في الأفراد والجماعة .
ونلمح عناية الإسلام بتكوين الأفراد ليكونوا لبنة صالحة في مجتمع صالح ، وتكريم القرآن للجهاد والشهادة والتضحية في سبيل الله ، وكذلك السنة المطهرة ، مع الحث على لزوم الجماعة ووحدة الصف .
روى الإمام أحمد ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة يضحك الله إليهم ، رجل يقوم من الليل ، والقوم إذا صفّوا للصلاة ، والقوم إذا صفّوا للقتال " . iii
والبنيان المرصوص : هو البنيان المحكم المتماسك .
قال الفرّاء : المعقود بالرصاص .
وقال المبرد : رصصت البناء : لاءمت بين أجزائه وقاربته حتى يصير كقطعة وحدة ، ومنه : الرصيص ، وهو انضمام الأسنان .
{ 4 }{ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ } هذا حث من الله لعباده على الجهاد في سبيله وتعليم لهم كيف يصنعون وأنه ينبغي [ لهم ] أن يصفوا في الجهاد صفا متراصا متساويا ، من غير خلل يقع{[1070]} في الصفوف ، وتكون صفوفهم على نظام وترتيب به تحصل المساواة بين المجاهدين والتعاضد وإرهاب العدو وتنشيط بعضهم بعضا ، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حضر القتال ، صف أصحابه ، ورتبهم في مواقفهم ، بحيث لا يحصل اتكال بعضهم على بعض ، بل تكون كل طائفة منهم مهتمة بمركزها وقائمة بوظيفتها ، وبهذه الطريقة تتم الأعمال ويحصل الكمال .
الأولى- قوله تعالى : { إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا } أي يصفون صفا : والمفعول مضمر ، أي يصفون أنفسهم صفا . { كأنهم بنيان مرصوص } قال الفراء : مرصوص بالرصاص . وقال المبرد : هو من رصصت البناء إذا لاءمت بينه وقاربت حتى يصير كقطعة واحدة ، وقيل : هو من الرصيص وهو انضمام الأسنان بعضها إلى بعض . والتراص التلاصق ، ومنه وتراصوا في الصف . ومعنى الآية : يحب من يثبت في الجهاد في سبيل الله ويلزم مكانه كثبوت البناء . وقال سعيد بن جبير : هذا تعليم من الله تعالى للمؤمنين كيف يكونون عند قتال عدوهم .
الثانية- وقد استدل بعض أهل التأويل بهذا على أن قتال الراجل أفضل من قتال الفارس ؛ لأن الفرسان لا يصطفون على هذه الصفة . المهدوي : وذلك غير مستقيم ، لما جاء في فضل الفارس في الأجر والغنيمة . ولا يخرج الفرسان من معنى الآية ؛ لأن معناه الثبات .
الثالثة- لا يجوز الخروج عن الصف إلا لحاجة تعرض للإنسان ، أو في رسالة يرسلها الإمام ، أو في منفعة تظهر في المقام ، كفرصة تنتهز ولا خلاف فيها . وفي الخروج عن الصف للمبارزة خلاف على قولين أحدهما : أنه لا بأس بذلك إرهابا للعدو ، وطلبا للشهادة وتحريضا على القتال . وقال أصحابنا : لا يبرز أحد طالبا لذلك ؛ لأن فيه رياء وخروجا إلى ما نهى الله عنه من لقاء العدو . وإنما تكون المبارزة إذا طلبها الكافر ، كما كانت في حروب النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر وفي غزوة خيبر ، وعليه درج السلف . وقد مضى القول مستوفى في هذا في " البقرة " عند قوله تعالى :{ ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة{[14935]} } [ البقرة : 195 ] .
{ إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا } ورود هذه الآية هنا دليل على أن الآية التي قبلها في شأن القتال ، وقال بعض الناس : قتال الرجال أفضل من قتال الفرسان لأن التراص فيه يتمكن أكثر مما يتمكن للفرسان قاله ابن عطية وهذا ضعيف خفي على قائله مقصد الآية ، وليس المراد نفس التراص ، وإنما المراد الثبوت والجد في القتال .
{ كأنهم بنيان مرصوص } المرصوص هو الذي يضم بعضه إلى بعض ، وقيل : هو المعقود بالرصاص ولا يبعد أن يكون هذا أصل اللفظ .
ولما عظم ما يكرهه بعد ما ألهب به من تنزيه غير العاقل ، فكان العاقل جديراً بأن يسأل عما يحبه لينزهه به ، قال {[64835]}ذاكراً الغاية{[64836]} التي هي أم{[64837]} جامعة لكل{[64838]} ما قبلها من المحاسن ، مؤكداً لأن الخطاب مع من قصر أو هو{[64839]} في حكمه : { إن الله } أي الذي له جميع صفات الكمال { يحب } أي يفعل فعل المحب مع { الذين يقاتلون } أي{[64840]} يوقعون القتال { في سبيله } أي بسبب تسهيل طريقه الموصلة إلى رضاه إيقاعاً مظروفاً للسبيل ، لا يكون شيء منه كشيء{[64841]} خارج عنه ، فيقاتلون أعداء الدين من الشيطان بالذكر القلبي واللسان ، والإنسان بالسيف والسنان { صفاً } أي مصطفين حتى كأنهم في اتحاد المراد على قلب واحد كما كانوا في التساوي في الاصطفاف كالبدن الواحد .
ولما كان الاصطفاف يصدق مع التقدم والتأخر اليسير نفى ذلك بقوله حالاً بعد حال : { كأنهم } أي من شدة التراص{[64842]} والمساواة بالصدور والمناكب والثبات في{[64843]} المراكز { بنيان } وزاد في التأكيد بقوله : { مرصوص * } أي عظيم الاتصال شديد الاستحكام كأنما رص بالرصاص فلا فرجة فيه ولا خلل ، فإن من كان هكذا كان جديراً بأن لا يخالف شيء من أفعاله شيئاً من أقواله ، فالرص إشارة إلى اتحاد القلوب والنيات {[64844]}في موالاة{[64845]} الله و{[64846]}معاداة من{[64847]} عاداه المنتج لتسوية الصفوف في الصلاة التي هي محاربة الشيطان ، والحرب {[64848]}التي هي{[64849]} مقارعة حزبه أولى الطغيان ، والأفعال التي هي ثمرات الأبدان .