إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{مَن كَفَرَ بِٱللَّهِ مِنۢ بَعۡدِ إِيمَٰنِهِۦٓ إِلَّا مَنۡ أُكۡرِهَ وَقَلۡبُهُۥ مُطۡمَئِنُّۢ بِٱلۡإِيمَٰنِ وَلَٰكِن مَّن شَرَحَ بِٱلۡكُفۡرِ صَدۡرٗا فَعَلَيۡهِمۡ غَضَبٞ مِّنَ ٱللَّهِ وَلَهُمۡ عَذَابٌ عَظِيمٞ} (106)

{ مَن كَفَرَ بالله } ، أي : تلفظ بكلمة الكفر ، { مِن بَعْدِ إيمانه } به تعالى ، وهو ابتداءُ كلامٍ لبيان حالِ من كفر بآيات الله بعدما آمن بها ، بعد بيان حالِ من لم يؤمن بها رأساً ، و " مَنْ " ، موصولةٌ ومحلُّها الرفعُ على الابتداء ، والخبرُ محذوفٌ لدِلالة الخبرِ الآتي عليه أو هو خبرٌ لهما معاً ، أو النصبُ على الذم ، { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ } على ذلك بأمر يخاف على نفسه أو على عضو من أعضائه ، وهو استثناءٌ متّصلٌ من حكم الغضبِ والعذاب أو الذمّ ؛ لأن الكفرَ لغةٌ تتم بالقول كما أشير إليه قوله تعالى : { وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان } ، حالٌ من المستثنى ، والعاملُ هو الكفرُ الواقع بالإكراه ؛ لأن مقارنةَ اطمئنان القلبِ بالإيمان للإكراه لا تجدي نفعاً ، وإنما المجدي مقارنتُه للكفر الواقعِ به ، أي : إلا مَنْ كفر بإكراه وإلا من أُكره فكفر ، والحالُ أن قلبه مطمئنٌّ بالإيمان لم تتغير عقيدتُه ، وإنما لم يصرَّح به إيماءً إلى أنه ليس بكفر حقيقة ، وفيه دليلٌ على أن الإيمانَ هو التصديقُ بالقلب ، { ولكن مَّن } لم يكن كذلك بل { شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا } ، أي : اعتقده وطاب به نفساً ، { فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ } عظيم لا يُكتنه كُنهه ، { مِنَ الله } ، إظهارُ الاسم الجليلِ ؛ لتربية المهابة ، وتقويةٌ لعظيم العذاب ، { وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ } ؛ إذ لا جُرم أعظمُ من جرمهم ، والجمعُ في الضميرين المجرورين لمراعاة جانبِ المعنى ، كما أن الإفراد في المستكنّ في الصلة لرعاية جانبِ اللفظ . روي أن قريشا أكرهوا عمارا وأبويه ياسرا وسمية على الارتداد فأباه أبواه ، فربطوا سمية بين بعيرين ووجئت{[489]} بحربة في قبلها ، وقالوا : إنما أسلمت من أجل الرجال فقتلوها وقتلوا يسارا وهما أول قتيلين في الإسلام ، وأما عمار فأعطاهم بلسانه ما أكرهوا عليه فقيل : يا رسول الله إن عمارا كفر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كلا إن عمارا مليء إيمانا من قرنه إلى قدمه ، واختلط الإيمان بلحمه ودمه " ، فأتى عمار رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يبكي ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح عينيه وقال : " ما لك ، إن عادوا لك فعد لهم بما قلت " ، وهو دليل على جواز التكلم بكلمة الكفر عند الإكراه الملجئ ، وإن كان الأفضل أن يتجنب عنه إعزازا للدين كما فعله أبواه . وروى أن مسيلمة الكذاب أخذ رجلين ، فقال لأحدهما : ما تقول في محمد ؟ قال : رسول الله ، قال : فما تقول فيّ ؟ قال : أنت أيضا فخلاه ، وقال للآخر : ما تقول في محمد ؟ قال : رسول الله . قال : فما تقول فيّ ؟ قال : أنا أصم ، فأعاد ثلاثا فأعاد جوابه ، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : " أما الأول فقد أخذ برخصة ، وأما الثاني فقد صدع بالحق " .


[489]:وجأه: دفعه بجمع كفه في الصدر أو العنق. ويقال: وجأه باليد والسكين.