{ وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً } ، قيل : ضرْبُ المثل : صنعُه واعتمالُه ، وقد مرَّ تحقيقُه في سورة البقرة ، ولا يتعدى إلا إلى مفعول واحدٍ ، وإنما عُدّيَ لاثنين لتضمينه معنى الجعْل ، وتأخيرُ قريةً مع كونها مفعولاً أولاً ؛ لئلا يحولَ المفعولُ الثاني بينها وبين صفتِها وما يترتب عليها ، إذ التأخيرُ عن الكل مُخِلٌّ بتجاذب أطرافِ النظم وتجاوبها ؛ ولأن تأخيرَ ما حقُّه التقديمُ مما يورث النفسَ ترقباً لوروده تشوقاً ، لاسيما إذا كان في المقدَّم ما يدعو إليه ، فإن المثلَ مما يدعو إلى المحافظة على تفاصيل أحوالِ ما هو مثلٌ فيتمكن المؤخرُ عند ورودِه لديها فضلَ تمكنٍ ، والقريةُ إما محققةٌ في الغابرين ، وإما مقدرةٌ ، أي : جعلها مثلاً لأهل مكةَ خاصةً ، أو لكل قوم أنعم الله تعالى عليهم فأبطرتهم النعمةُ ، ففعلوا ما فعلوا ، فبدل الله تعالى بنعمتهم نقمةً ، ودخل فيهم أهلُ مكةَ دخولاً أولياً . { كَانَتْ آمِنَةً } ، ذاتَ أمنٍ من كل مَخُوف . { مُّطْمَئِنَّةً } ، لا يُزعج أهلَها مزعجٌ . { يَأْتِيهَا رِزْقُهَا } ، أقواتُ أهلها ، صفةٌ ثانية لقريةً ، وتغييرُ سبكها عن الصفة الأولى لما أن إتيانَ رزقِها متجددٌ ، وكونَها آمنةً مطمئنةً ثابتٌ مستمرٌّ . { رَغَدًا } : واسعاً . { مّن كُلّ مَكَانٍ } : من نواحيها .
{ فَكَفَرَتْ } ، أي : كفرَ أهلُها ، { بِأَنْعُمِ الله } ، أي : بنِعَمه ، جمع نعمة على ترك الاعتداد بالتاء ، كدِرع وأدرُع ، أو جمع نُعْم ، كبؤس وأبؤس ، والمراد بها نعمةُ الرزقِ والأمن المستمرِّ ، وإيثارُ جمعِ القلةِ للإيذان بأن كفرانَ نعمةٍ قليلة حيث أوجب هذا العذابَ فما ظنك بكفران نِعمٍ كثيرة . { فَأَذَاقَهَا الله } ، أي : أذاق أهلها . { لِبَاسَ الجوع والخوف } ، شُبِّه أثرُ الجوعِ والخوف وضررُهما المحيطُ بهم باللباس الغاشي للاّبس ، فاستُعير له اسمُه ، وأُوقِع عليه الإذاقةُ المستعارة لمطلق الإيصالِ المنبئةِ عن شدة الإصابةِ بما فيها من اجتماع إدراكَيْ اللامسةِ والذائقة على نهج التحرير ، فإنها لشيوع استعمالِها في ذلك ، وكثرةِ جرَيانها على الألسنة جرت مجرى الحقيقةِ ، كقول كثيِّر : [ الكامل ]
غمْرُ الرداءِ إذا تبسم ضاحكا *** غلقت لضحكته رقابُ المال{[490]}
فإن الغمْرَ مع كونه في الحقيقة من أحوال الماءِ الكثير لمّا كان كثيرَ الاستعمال في المعروف المشبَّهِ بالماء الكثير ، جرى مجرى الحقيقةِ ، فصارت إضافتُه إلى الرداء المستعارِ للمعروف تجريداً . أو شبّه أثرُهما وضررُهما من حيث الإحاطةُ بهم والكراهةُ لديهم تارة باللباس الغاشي لِلاّبس المناسبِ للخوف بجامع الإحاطةِ واللزوم ، تشبيهَ معقولٍ بمحسوس ، فاستُعير له اسمُه استعارةً تصريحيةً ، وأخرى بطعم المرِّ البشعِ الملائمِ للجوع الناشئ من فقد الرزق بجامع الكراهة ، فأُوميَ إليه بأن أوقع عليه الإذاقةُ المستعارة لإيصال الضارِّ المنبئةُ عن شدة الإصابة بما فيها من اجتماع إدراكَيْ اللامسة والذائقة ، وتقديمُ الجوعِ الناشئ مما ذكر من فقدان الرزقِ على الخوف المترتب على زوال الأمن المقدمِ فيما تقدم على إتيان الرزق لكونه أنسبَ بالإذاقة ، أو لمراعاةٍ بينها وبين إتيان الرزقِ ، وقد قرئ بتقديم الخوفِ وبنصبه أيضاً عطفاً على المضاف ، أو إقامةً له مُقامَ مضافٍ محذوف ، وأصله ولباسَ الخوف . { بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } ، فيما قبلُ ، أو على وجه الاستمرار ، وهو الكفرانُ المذكور ، أسند ذلك إلى أهل القريةِ تحقيقاً للأمر بعد إسنادِ الكفرانِ إليها وإيقاعِ الإذاقة عليها إرادةً للمبالغة ، وفي صيغة الصنعة إيذانٌ بأن كفرانَ النعمة صار صنعةً راسخةً لهم ، وسنةً مسلوكة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.