إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم لأبي السعود - أبو السعود  
{وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلٗا قَرۡيَةٗ كَانَتۡ ءَامِنَةٗ مُّطۡمَئِنَّةٗ يَأۡتِيهَا رِزۡقُهَا رَغَدٗا مِّن كُلِّ مَكَانٖ فَكَفَرَتۡ بِأَنۡعُمِ ٱللَّهِ فَأَذَٰقَهَا ٱللَّهُ لِبَاسَ ٱلۡجُوعِ وَٱلۡخَوۡفِ بِمَا كَانُواْ يَصۡنَعُونَ} (112)

{ وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً } ، قيل : ضرْبُ المثل : صنعُه واعتمالُه ، وقد مرَّ تحقيقُه في سورة البقرة ، ولا يتعدى إلا إلى مفعول واحدٍ ، وإنما عُدّيَ لاثنين لتضمينه معنى الجعْل ، وتأخيرُ قريةً مع كونها مفعولاً أولاً ؛ لئلا يحولَ المفعولُ الثاني بينها وبين صفتِها وما يترتب عليها ، إذ التأخيرُ عن الكل مُخِلٌّ بتجاذب أطرافِ النظم وتجاوبها ؛ ولأن تأخيرَ ما حقُّه التقديمُ مما يورث النفسَ ترقباً لوروده تشوقاً ، لاسيما إذا كان في المقدَّم ما يدعو إليه ، فإن المثلَ مما يدعو إلى المحافظة على تفاصيل أحوالِ ما هو مثلٌ فيتمكن المؤخرُ عند ورودِه لديها فضلَ تمكنٍ ، والقريةُ إما محققةٌ في الغابرين ، وإما مقدرةٌ ، أي : جعلها مثلاً لأهل مكةَ خاصةً ، أو لكل قوم أنعم الله تعالى عليهم فأبطرتهم النعمةُ ، ففعلوا ما فعلوا ، فبدل الله تعالى بنعمتهم نقمةً ، ودخل فيهم أهلُ مكةَ دخولاً أولياً . { كَانَتْ آمِنَةً } ، ذاتَ أمنٍ من كل مَخُوف . { مُّطْمَئِنَّةً } ، لا يُزعج أهلَها مزعجٌ . { يَأْتِيهَا رِزْقُهَا } ، أقواتُ أهلها ، صفةٌ ثانية لقريةً ، وتغييرُ سبكها عن الصفة الأولى لما أن إتيانَ رزقِها متجددٌ ، وكونَها آمنةً مطمئنةً ثابتٌ مستمرٌّ . { رَغَدًا } : واسعاً . { مّن كُلّ مَكَانٍ } : من نواحيها .

{ فَكَفَرَتْ } ، أي : كفرَ أهلُها ، { بِأَنْعُمِ الله } ، أي : بنِعَمه ، جمع نعمة على ترك الاعتداد بالتاء ، كدِرع وأدرُع ، أو جمع نُعْم ، كبؤس وأبؤس ، والمراد بها نعمةُ الرزقِ والأمن المستمرِّ ، وإيثارُ جمعِ القلةِ للإيذان بأن كفرانَ نعمةٍ قليلة حيث أوجب هذا العذابَ فما ظنك بكفران نِعمٍ كثيرة . { فَأَذَاقَهَا الله } ، أي : أذاق أهلها . { لِبَاسَ الجوع والخوف } ، شُبِّه أثرُ الجوعِ والخوف وضررُهما المحيطُ بهم باللباس الغاشي للاّبس ، فاستُعير له اسمُه ، وأُوقِع عليه الإذاقةُ المستعارة لمطلق الإيصالِ المنبئةِ عن شدة الإصابةِ بما فيها من اجتماع إدراكَيْ اللامسةِ والذائقة على نهج التحرير ، فإنها لشيوع استعمالِها في ذلك ، وكثرةِ جرَيانها على الألسنة جرت مجرى الحقيقةِ ، كقول كثيِّر : [ الكامل ]

غمْرُ الرداءِ إذا تبسم ضاحكا *** غلقت لضحكته رقابُ المال{[490]}

فإن الغمْرَ مع كونه في الحقيقة من أحوال الماءِ الكثير لمّا كان كثيرَ الاستعمال في المعروف المشبَّهِ بالماء الكثير ، جرى مجرى الحقيقةِ ، فصارت إضافتُه إلى الرداء المستعارِ للمعروف تجريداً . أو شبّه أثرُهما وضررُهما من حيث الإحاطةُ بهم والكراهةُ لديهم تارة باللباس الغاشي لِلاّبس المناسبِ للخوف بجامع الإحاطةِ واللزوم ، تشبيهَ معقولٍ بمحسوس ، فاستُعير له اسمُه استعارةً تصريحيةً ، وأخرى بطعم المرِّ البشعِ الملائمِ للجوع الناشئ من فقد الرزق بجامع الكراهة ، فأُوميَ إليه بأن أوقع عليه الإذاقةُ المستعارة لإيصال الضارِّ المنبئةُ عن شدة الإصابة بما فيها من اجتماع إدراكَيْ اللامسة والذائقة ، وتقديمُ الجوعِ الناشئ مما ذكر من فقدان الرزقِ على الخوف المترتب على زوال الأمن المقدمِ فيما تقدم على إتيان الرزق لكونه أنسبَ بالإذاقة ، أو لمراعاةٍ بينها وبين إتيان الرزقِ ، وقد قرئ بتقديم الخوفِ وبنصبه أيضاً عطفاً على المضاف ، أو إقامةً له مُقامَ مضافٍ محذوف ، وأصله ولباسَ الخوف . { بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } ، فيما قبلُ ، أو على وجه الاستمرار ، وهو الكفرانُ المذكور ، أسند ذلك إلى أهل القريةِ تحقيقاً للأمر بعد إسنادِ الكفرانِ إليها وإيقاعِ الإذاقة عليها إرادةً للمبالغة ، وفي صيغة الصنعة إيذانٌ بأن كفرانَ النعمة صار صنعةً راسخةً لهم ، وسنةً مسلوكة .


[490]:البيت لكثير في ديوانه ص 288، ولسان العرب (غمر، ضحك، ردي) وتهذيب اللغة 3/302؛ وتاج العروس (غمر، ضحك، ردي) وبلا نسبة في المخصص 3/3.