الكشف والبيان في تفسير القرآن للثعلبي - الثعلبي  
{فَٱدۡخُلِي فِي عِبَٰدِي} (29)

{ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ } اختلف العلماء في تأويل هذه الآية ، ووقت هذه المقالة فقال قوم : يقال ذلك لها عند الموت : ارجعي إلى ربّك وهو الله عزّوجلّ .

أخبرني الحسين قال : حدّثنا عبيد الله بن عبد الله بن أبي سمرة البغوي قال : حدّثنا محمّد ابن سهل العسكري قال : حدّثنا العطاردي قال : حدّثنا أبي قال : حدّثنا قيس بن الربيع عن إسماعيل عن أبي صالح في قوله سبحانه : { ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً } قال : هذا عند خروجها من الدنيا ، فإذا كان يوم القيامة قيل : { فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي } .

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا الفراتي قال : حدّثنا أحمد بن خالد قال : حدّثنا روح بن عبادة قال : حدّثنا زهير بن محمد قال : حدّثنا زيد ابن أسلم عن عبد الرحمن بن السيلماني عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : إذا توفّي العبد المؤمن أرسل الله سبحانه ملكين وأرسل إليه تحفة من الجنّة فيقال لها : اخرجي أيّتها النفس المطمئنة ، اخرجي إلى روح وريحان وربّ عنك راض ، فتخرج كأطيب ريح مسك وجده أحد في نفسه قط ، والملائكة على أرجاء السماء .

فيقولون : قد جاء من الأرض روح طيّبة ونسمة طيّبة ، فلا يمرّ بباب إلاّ فتح له ولا ملك إلاّ صلّى عليه ، حتّى يؤتي به الرحمن ، ثمّ تسجد الملائكة ثمّ يقولون : ربّنا هذا عبدك فلان توفيته كان يعبدك لا يشرك بك شيئاً فيقول : مروه فليسجد ، وتسجد النسمة ، ثمّ يدعى ميكائيل فيقول : اذهب بهذه فاجعلها مع أنفس المؤمنين حتّى أسألك عنها يوم القيامة ، ثمّ يؤمر فيوسع عليه قبره سبعون ذراعاً عرضه وسبعون ذراعاً طوله وينبت له فيه الريحان . إن كان معه شيء من القرآن كفاه نوره ، وإن لم يكن معه جعل له مثل الشمس في قبره ، ويكون مثله كمثل العروس ، ينام فلا يوقظه إلاّ أحبّ أهله إليه ، فيقوم من نومته كأنّه لم يشبع منها ، وإذا توفّي الكافر أرسل الله سبحانه وتعالى ملكين وأرسل قطعة من سجّاد أنتن وأخشن من كلّ خشن ، فيقال : أيّها النفس الخبيثة اخرجي إلى حميم وعذاب أليم وربّ عليك غضبان .

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن حمدان قال : حدّثنا المسوحي قال : حدّثنا عمرو بن العلاء الحنفي قال : حدّثنا ابن يمان عن أشعث عن جعفر عن سعيد قال : " قرأ رجل عند النبيّ صلى الله عليه وسلم { يأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ } قال أبو بكر : ما أحسن هذا فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " أمّا أنّ الملك سيقولها لك [ عند الموت ] " .

حدّثنا أحمد بن محمد بن يعقوب القصري بها قال : أخبرنا إسماعيل بن محمد بن إسماعيل ببغداد قال : حدّثنا الحسن بن عرفة قال : أخبرني مروان بن شجاع الجزري ، وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا ابن شنبه قال : حدّثنا محمد بن علي بن سالم قال : حدّثنا أحمد بن منبع قال : حدّثنا مروان عن سالم الأفطس عن سعيد بن جبير قال : مات ابن عبّاس بالطائف فجاء طائر لم ير على خلقه ، فدخل نعشه ثمّ لم يُر خارجاً منه فلمّا دفن تُليت هذه الآية على شفير القبر لا يرى من تلاها : { يأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي } وقال آخرون : انّما يقال ذلك لها عند البعث : ارجعي إلى ربّك ، أي صاحبك وجسدك فيأمر الله سبحانه الأرواح أن ترجع إلى الأجساد ، وإلى هذا القول ذهب عكرمة وعطاء والضحّاك وهي رواية العوفي عن ابن عبّاس .

ودليل هذا التأويل ما أخبرنا محمد بن نعيم قال : أخبرنا الحسين بن أيّوب قال : أخبرنا علي بن عبد العزيز قال : حدّثنا القاسم بن سلام قال : حدّثنا حجّاج عن هارون عن أبان بن أبي عيّاش عن سليمان بن قته عن ابن عبّاس أنّه قراها فأدخلي في عبدي على التوحيد .

وقال الحسن : معناه ارجعي إلى ثواب ربّك وكرامته .

ابن كيسان : ارجعي إلى ربّك أي أمثالك من عباد ربّك الصالحين .

وقال بعض أهل الإشارة { يأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ } إلى الدنيا ارجعي إلى الله بتركها والرجوع إلى الله هو سلوك سبيل الآخرة . { رَاضِيَةً } عن الله بما أعدّ لها { مَّرْضِيَّةً } رضي عنها ربّها . { فَادْخُلِي فِي عِبَادِي } قال بعضهم : يعني مع عبادي جنّتي في معنى الآية تقديم وتأخير ، وإليه ذهب مقاتل والقرظي وأبو عبيدة . { وَادْخُلِي } برحمتك في عبادك الصالحين يعني مع أنبيائنا في الجنّة ، وقال الأخفش : أي في حزبي ، وقال أمر الأرواح بعودها إلى أجسادها والله أعلم .

وأخبرني ابن فنجويه قال : حدّثنا موسى بن محمد قال : حدّثنا ابن علوية قال : حدّثنا إسماعيل قال : حدّثنا المسيّب قال : حدّثنا إبراهيم عن صالح بن حيان عن ابن بريدة في هذه الآية { يأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ } قال : نفس حمزة بن عبد المطّلب نزلت فيه يوم استشهد يوم أحُد ، بل نزلت نفسه عند ربّ العالمين ، مكرمة مشرفة على من عنده حتّى يردها الله سبحانه إلى حمزة في دعة ، وسكون وكرامة .

وقد نزلت في حبيب بن عدي الذي صلبه أهل مكّة وجعلوا وجهه إلى المدينة ، فقال : اللّهمّ إن كان لي عندك خير فحوّل وجهي نحو قبلتك . فحوّل الله سبحانه وجهه نحو القبلة من غير أن يحوّله أحد ، فلم يستطيع أحد أن يحوّله وحكمها عام لجميع المؤمنين المطمئنين .