القول في تأويل قوله تعالى : { وَنَجّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الأرْضِ الّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ } .
يقول تعالى ذكره : ونجينا إبراهيم ولوطا من أعدائهما نمرودٍ وقومِهِ من أرض العراق ، إلى الأرْضِ التي بارَكْنا فِيها للْعالَمِينَ وهي أرض الشأم ، فارق صلوات الله عليه قومه ودينهم وهاجر إلى الشأم .
وهذه القصة التي قصّ الله من نبأ إبراهيم وقومه تذكير منه بها قوم محمد صلى الله عليه وسلم من قريش أنهم قد سلكوا في عبادتهم الأوثان ، وأذاهم محمدا على نهيه عن عبادتها ، ودعائهم إلى عبادة الله مخلصين له الدين ، مسلك أعداء أبيهم إبراهيم ومخالفتهم دينه ، وأن محمدا في براءته من عبادتها وإخلاصه العبادة لله ، وفي دعائهم إلى البراءة من الأصنام ، وفي الصبر على ما يلقى منهم في ذلك سالك منهاج أبيه إبراهيم ، وأنه مخرجه من بين أظهرهم كما أخرج إبراهيم من بين أظهر قومه حين تمادوا في غيهم إلى مهاجره من أرض الشأم ، ومسلَ بذلك نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عما يَلْقَى من قومه من المكروه والأذى ، ومعلمه أنه منجيه منهم كما نجّى أباه إبراهيم من كفرة قومه .
وقد اختلف أهل التأويل في الأرض التي ذكر الله أنه نجّى إبراهيم ولوطا إليها ووصفه أنه بارك فيها للعالمين . فقال بعضهم بنحو الذي قلنا في ذلك . ذكر من قال ذلك :
حدثنا الحسين بن حريث المروزي أبو عمار ، قال : حدثنا الفضل بن موسى ، عن الحسين بن واقد ، عن الربيع بن أنس ، عن أبي العالية ، عن أبيّ بن كعب : ونَجّيْناهُ وَلُوطا إلى الأرْضِ التي بارَكْنا فِيها للْعالَمِينَ قال : الشأم ، وما من ماء عذب إلا خرج من تلك الصخرة التي ببيت المقدس .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبو أحمد ، قال : حدثنا سفيان ، عن فرات القزاز ، عن الحسن ، في قوله : إلى الأرْضِ التي بارَكْنا فِيها قال : الشام .
حدثنا بِشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : ونَجّيْناهُ وَلُوطا إلى الأرْضِ التي بارَكْنا فِيها للْعالَمِينَ كانا بأرض العراق ، فأنجيا إلى أرض الشام . وكان يُقال للشأم عماد دار الهجرة ، وما نقص من الأرض زيد في الشأم ، وما نقص من الشأم زيد في فلسطين . وكان يقال : هي أرض المحشر والمنشر ، وبها مجمع الناس ، وبها ينزل عيسى ابن مريم ، وبها يهلك الله شيخ الضلالة الكذّاب الدجال . وحدثنا أبو قلابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «رأيْتُ فِيما يَرَى النّائمُ كأنّ المَلائِكَةَ حَمَلَتْ عَمُودَ الكِتابِ فَوَضَعَتْه بالشّأْمِ ، فأوّلْتُه أن الفِتَنَ إذَا وَقَعَتْ فإنّ الإيمَانَ بالشّأْمِ » .
وذُكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذات يوم في خطبه : «إنّهُ كائِنٌ بالشّأْمِ جُنْدٌ ، وبالعِرَاقِ جُنْدٌ ، وباليَمَنِ جُنْدٌ » . فقال رجل : يا رسول الله خِرْ لي فقال : «عَلَيْكَ بالشّأْمِ فإنّ اللّهَ قَدْ تَكَفّلَ لي بالشّامِ وأهْلِهِ ، فَمَنْ أَبى فَلْيَلْحَقْ بأَمْنِهِ وَلْيَسْقِ بِقَدَرِهِ » . وذُكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : يا كعب ألا تحوّل إلى المدينة فأنها مُهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم وموضع قبره ؟ فقال له كعب : يا أمير المؤمنين ، إني أجد في كتاب الله المنزل أن الشام كنز الله من أرضه وبها كنزه من عباده .
حدثنا الحسن ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قَتادة : وَنجّيْناهُ وَلُوطا إلى الأرْضِ التي بارَكْنا فِيها للْعالَمِينَ قال : هاجرا جميعا من كُوْثَىَ إلى الشام .
حدثنا موسى ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، قال : انطلق إبراهيم ولوط قِبَل الشأم ، فلقي إبراهيم سارَة ، وهي بنت ملك حَرّان ، وقد طعنت على قومها في دينهم ، فتزوّجها على أن لا يغيرها .
حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، قال : خرج إبراهيم مهاجرا إلى ربه ، وخرج معه لوط مهاجرا ، وتزوّج سارَة ابنة عمه ، فخرج بها معه يلتمس الفرار بدينه والأمان على عبادة ربه ، حتى نزل حرّان ، فمكث فيها ما شاء الله أن يمكث . ثم خرج منها مهاجرا حتى قدم مصر . ثم خرج من مصر إلى الشام ، فنزل السبع من أرض فلسطين ، وهي برّية الشام ، ونزل لوط بالمؤتَفِكَة ، وهي من السبع على مسيرة يوم وليلة ، أو أقرب من ذلك ، فبعثه الله نبيّا صلى الله عليه وسلم .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جُرَيج ، قوله : وَنجّيْناهُ وَلُوطا إلى الأرْضِ التي بارَكْنا فِيها للْعالَمِينَ قال : نجاه من أرض العِراق إلى أرض الشام .
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن أبي جعفر الرازيّ ، عن الربيع ، عن أبي العالية ، أنه قال في هذه الاَية : بارَكْنا فِيها للْعالَمِينَ قال : ليس ماء عذب إلا يهبط إلى الصخرة التي ببيت المقدس ، قال : ثم يتفرّق في الأرض .
حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : وَنجّيْناهُ وَلُوطا إلى الأرْضِ التي بارَكْنا فِيها للْعالَمِينَ قال : إلى الشأم .
وقال آخرون : بل يعني مكة وهي الأرض التي قال الله تعالى : التي بارَكْنا فِيها للْعالَمِينَ . ذكر من قال ذلك :
حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَنجّيْناهُ وَلُوطا إلى الأرْضِ التي بارَكْنا فِيها للْعالَمِينَ يعني مكة ونزول إسماعيل البيت ألا ترى أنه يقول : إنّ أوّلَ بَيْتٍ وُضِعَ للنّاسِ للّذِي بِبَكّةَ مُبارَكا وَهُدًى للْعالَمِينَ ؟
قال أبو جعفر : وإنما اخترنا ما اخترنا من القول في ذلك لأنه لا خلاف بين جميع أهل العلم أن هجرة إبراهيم من العراق كانت إلى الشام وبها كان مُقامه أيام حياته ، وإن كان قد كان قدم مكة وبنى بها البيت وأسكنها إسماعيل ابنه مع أمه هاجر غير أنه لم يُقِم بها ولم يتخذها وطنا لنفسه ، ولا لوط ، والله إنما أخبر عن إبراهيم ولوط أنهما أنجاهما إلى الأرض التي بارك فيها للعالمين .
هذه نجاة ثانية بعد نجاته من ضر النار ، هي نجاته من الحلول بين قوم عدّو له كافرين بربّه وربهم ، وهي نجاة من دار الشرك وفساد الاعتقاد . وتلك بأن سهل الله له المهاجرة من بلاد ( الكلدان ) إلى أرض ( فلسطين ) وهي بلاد ( كنعان ) .
وهجرة إبراهيم هي أول هجرة في الأرض لأجل الدين . واستصحب إبراهيم معه لوطاً ابنَ أخيه ( هَاران ) لأنه آمن بما جاء به إبراهيم . وكانت سارة امرأةُ إبراهيم معهما ، وقد فهمت معيتها من أن المرء لا يهاجر إلا ومعه امرأته .
وانتصب { لوطاً } على المفعول معه لا على المفعول به لأن لوطاً لم يكن مهدداً من الأعداء لذاته فيتعلّقَ به فعل الإنجاء .
وضمن { نجيْناه } معنى الإخراج فعدّي بحرف ( إلى ) .
والأرض : هي أرض فلسطين . ووصفها الله بأنه باركها للعالَمين ، أي للناس ، يعني الساكنين بها لأن الله خلقها أرض خصب ورخاء عيش وأرض أمن . وورد في التوراة : أن الله قال لإبراهيم : إنها تفيض لبناً وعسلاً .
والبركة : وفرة الخير والنفععِ . وتقدم في قوله تعالى : { إن أول بيت وضع للناس للذي ببكة مباركاً } في [ سورة آل عمران : 96 ] .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: ونجينا إبراهيم ولوطا من أعدائهما نمرودٍ وقومِهِ من أرض العراق، إلى الأرْضِ التي "بارَكْنا فِيها للْعالَمِينَ "وهي أرض الشأم، فارق صلوات الله عليه قومه ودينهم وهاجر إلى الشأم.
وهذه القصة التي قصّ الله من نبأ إبراهيم وقومه تذكير منه بها قوم محمد صلى الله عليه وسلم من قريش أنهم قد سلكوا في عبادتهم الأوثان، وأذاهم محمدا على نهيه عن عبادتها، ودعائهم إلى عبادة الله مخلصين له الدين، مسلك أعداء أبيهم إبراهيم ومخالفتهم دينه، وأن محمدا في براءته من عبادتها وإخلاصه العبادة لله، وفي دعائهم إلى البراءة من الأصنام، وفي الصبر على ما يلقى منهم في ذلك سالك منهاج أبيه إبراهيم، وأنه مخرجه من بين أظهرهم كما أخرج إبراهيم من بين أظهر قومه حين تمادوا في غيهم إلى مهاجره من أرض الشأم، ومسل بذلك نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم عما يَلْقَى من قومه من المكروه والأذى، ومعلمه أنه منجيه منهم كما نجّى أباه إبراهيم من كفرة قومه.
وقد اختلف أهل التأويل في الأرض التي ذكر الله أنه نجّى إبراهيم ولوطا إليها ووصفه أنه بارك فيها للعالمين؛ فقال بعضهم بنحو الذي قلنا في ذلك...
وقال آخرون: بل يعني مكة وهي الأرض التي قال الله تعالى: "التي بارَكْنا فِيها للْعالَمِينَ"...
وإنما اخترنا ما اخترنا من القول في ذلك لأنه لا خلاف بين جميع أهل العلم أن هجرة إبراهيم من العراق كانت إلى الشام وبها كان مُقامه أيام حياته، وإن كان قد كان قدم مكة وبنى بها البيت وأسكنها إسماعيل ابنه مع أمه هاجر، غير أنه لم يُقِم بها ولم يتخذها وطنا لنفسه، ولا لوط، والله إنما أخبر عن إبراهيم ولوط أنهما أنجاهما إلى الأرض التي بارك فيها للعالمين.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{ونجيناه ولوطا} دل هذا أن إبراهيم كان كالمشرف على الهلاك لأن لفظة النجاة لا تقال إلا في ما كان هنالك إشراف على الهلاك. وفيه أن لوطا كان معه، وإن كان إبراهيم هو الممتحن في ذلك، وهم كانوا يقصدون قصد إهلاك الرسل والأتباع جميعا.
{إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين} قال الحسن: بركته لما ذكر في آية أخرى، وهو قوله: {وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين} [المؤمنون: 50] كثيرة المياه والنبت ونحوه. وقال بعضهم: بركته سعته على أهلها. وقال بعضهم: بركته لأنها كانت مكان الأنبياء والرسل، وصارت مباركة بإبراهيم ولوطا، لما بهم ظهر الإسلام هنالك، والله أعلم.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
مَضَتْ سُنَّةُ اللَّهِ في أنبيائه -عليهم السلام- أنه إذا نَجَّى منهم واحداً أشرك معه مَنْ كان مُسَاهِماً له في ضُرِّه ومُقَاساةِ مشقته.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
وبركاته الواصلة إلى العالمين: أن أكثر الأنبياء عليهم السلام بعثوا فيه فانتشرت في العالمين شرائعهم وآثارهم الدينية وهي البركات الحقيقية.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذه نجاة ثانية بعد نجاته من ضر النار، هي نجاته من الحلول بين قوم عدّو له كافرين بربّه وربهم، وهي نجاة من دار الشرك وفساد الاعتقاد. وتلك بأن سهل الله له المهاجرة من بلاد (الكلدان) إلى أرض (فلسطين) وهي بلاد (كنعان). وهجرة إبراهيم هي أول هجرة في الأرض لأجل الدين. واستصحب إبراهيم معه لوطاً ابنَ أخيه (هَاران) لأنه آمن بما جاء به إبراهيم. وكانت سارة امرأةُ إبراهيم معهما.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
لقد هزّت قصّة حريق إبراهيم (عليه السلام) ونجاته الإعجازية من هذه المرحلة الخطيرة أركان حكومة نمرود، بحيث فقد نمرود معنوياته تماماً، لأنّه لم يعد قادراً على أن يُظهر إبراهيم بمظهر الشاب المنافق والمثير للمشاكل. فقد عُرف بين الناس بأنّه مرشد إلهي وبطل شجاع يقدر على مواجهة جبّار ظالم بكلّ إمكانياته وقدرته بمفرده، وأنّه لو بقي في تلك المدينة والبلاد على هذا الحال، ومع ذلك اللسان المتكلّم والمنطق القوي، والشهامة والشجاعة التي لا نظير لها، فمن المحتّم أنّه سيكون خطراً على تلك الحكومة الجبّارة الغاشمة، فلابدّ أن يخرج من تلك الأرض على أي حال. ومن جهة أُخرى، فإنّ إبراهيم كان قد أدّى رسالته في الواقع في تلك البلاد، ووجّه ضربات ماحقة إلى هيكل وبنيان الشرك، وبذر بذور الإيمان والوعي في تلك البلاد،... فلابدّ من الهجرة إلى موطن آخر لإيجاد أرضية لرسالته هناك، ولذلك صمّم على الهجرة إلى الشام بصحبة لوط وكان ابن أخ إبراهيم وزوجته سارة...