جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{إِنَّمَا يَأۡمُرُكُم بِٱلسُّوٓءِ وَٱلۡفَحۡشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (169)

القول في تأويل قوله تعالى : { إِنّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسّوَءِ وَالْفَحْشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }

يعني تعالى ذكره بقوله : ( إنّمَا يَأمُرُكُمْ الشيطان بالسّوء والفَحْشاءِ وأنْ تَقُولُوا على اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ ) والسوء : الإثم مثل الضرّ من قول القائل : ساءك هذا الأمر يسوءك سُوءا وهو ما يسوء الفاعل . وأما الفحشاء فهي مصدر مثل السرّاء والضرّاء ، وهي كل ما استفحش ذكره وقبح مسموعه . وقيل إن السوء الذي ذكره الله هو معاصي الله فإن كان ذلك كذلك ، فإنما سماها الله سوءا لأنها تسوء صاحبها بسوء عاقبتها له عند الله . وقيل إن الفحشاء : الزنا فإن كان ذلك كذلك ، فإنما يسمى لقبح مسموعه ، ومكروه ما يذكر به فاعله . ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى بن هارون ، قال : حدثنا عمرو ، قال : حدثنا أسباط ، عن السدي : إنّمَا يَأمُرُكُمْ بالسّوءِ وَالفَحْشاءِ أما السوء فالمعصية ، وأما الفحشاء فالزنا .

وأما قوله : وأنْ تَقُولُوا على اللّهِ ما لا تَعْلَمُونَ فهو ما كانوا يحرّمون من البحائر والسوائب والوصائل والحوامي ، ويزعمون أن الله حرم ذلك ، فقال تعالى ذكره لهم : ما جَعَلَ اللّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حامٍ وَلكِنّ الّذِينَ كَفَرُوا يَفْترُونَ على اللّهِ الكَذِبَ وأكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ، وأخبرهم تعالى ذكره في هذه الآية أن قيلهم إن الله حرم هذا من الكذب الذي يأمرهم به الشيطان ، وأنه قد أحله لهم وطيبه ، ولم يحرّم أكله عليهم ، ولكنهم يقولون على الله ما لا يعلمون حقيقته طاعة منهم للشيطان ، واتباعا منهم خطواته ، واقتفاءً منهم آثار أسلافهم الضلاّل وآبائهم الجهال ، الذين كانوا بالله وبما أنزل على رسوله جهالاً ، وعن الحق ومنهاجه ضلالاً وإسرافا منهم ، كما أنزل الله في كتابه على رسوله صلى الله عليه وسلم ، فقال تعالى ذكره : وَإذَا قيلَ لَهُمُ اتّبعُوا ما أنْزلَ اللّهُ قالُوا بَلْ نَتّبِعُ ما ألفْيَنْا عَلَيْهِ آباءَنا أوْ لَوْ كانَ آباؤهمْ لا يَعْقلُونَ شَيْئا وَلا يَهْتَدُون .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{إِنَّمَا يَأۡمُرُكُم بِٱلسُّوٓءِ وَٱلۡفَحۡشَآءِ وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (169)

قوله : { إنما يأمركم بالسوء والفحشاء } استئناف بياني لقوله : { إنه لكم عدو مبين } فيئول إلى كونه علة للعلة إذ يسأل السامع عن ثبوت العداوة مع عدم سبق المعرفة ومع بُعد ما بيننا وبينه فقيل { إنما يأمركم } أي لأنه لا يأمركم إلاّ بالسوء الخ أي يحسِّن لكم ما فيه مضرتكم لأن عداوته أمر خفي عرفناه من آثار أفعاله .

والأمر في الآية مجاز عن الوسوسة والتزيين إذ لا يسمع أحد صيغ أمرٍ من الشيطان . ولك أن تجعل جملة : { إنما يأمركم } تمثيلية بتشبيه حاله وحالهم في التسويل والوسوسة وفي تلقيهم ما يوسوس لهم بحال الآمِر والمأمور ويكون لفظ يأمر مستعملاً في حقيقته مفيداً مع ذلك الرمزَ إلى أنهم لا إرادة لهم ولا يملكون أمر أنفسهم وفي هذا زيادة تشنيع لحالهم وإثارة للعداوة بين الشيطان وبينهم .

والسوء الضُّرّ من ساءه سَوْءاً ، فالمصدر بفتح السين وأما السُّوء بضم السين فاسم للمصدر .

والفحشاء اسم مشتق من فحُش إذا تجاوز الحد المعروف في فعله أو قوله واختص في كلام العرب بما تجاوز حد الآداب وعظُم إنكاره ، لأن وساوس النفس تئول إلى مضرة كشرب الخمر والقتل المفضي للثأر أو إلى سَوْأَة وعار كالزنا والكذب ، فالعطف هنا عطف لمتغايرين بالمفهوم والذات لا محالة بشهادة اللغة وإن كانا متحدين في الحكم الشرعي لدخول كليهما تحت وصف الحرام أو الكبيرة وأما تصادقهما معاً في بعض الذنوب كالسرقة فلا التفات إليه كسائر الكليات المتصادقة .

وقوله : { وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون } يشير إلى ما اختلقه المشركون وأهلُ الضلال من رسوم العبادات ونسبة أشياء لدين الله ما أَمَر الله بها . وخصه بالعطف مع أنه بعض السوء والفحشاء لاشتماله على أكبر الكبائر وهو الشرك والافتراء على الله .

ومفعولُ { تعلمون } محذوف وهو ضمير عائد إلى ( ما ) وهو رابط الصلة ، ومعنى { ما لا تعلمون } لا تعلمون أنه من عند الله بقرينة قوله : { على الله } أي لا تعلمون أنه يرضيه ويأمر به ، وطريق معرفة رضا الله وأمرِه هو الرجوع إلى الوحي وإلى ما يتفرع عنه من القياس وأدلة الشريعة المستقرَاةِ من أدلتها ، ولذلك قال الأصوليون : يجوز للمجتهد أن يقول فيما أداه إليه اجتهاده بطريق القياس : إنه دينُ الله ولا يجوز أن يقول قاله الله ، لأن المجتهد قد حصلت له مقدمة قطعية مستقرَاةٌ من الشريعة انعقد الإِجماع عليها وهي وجوب عمله بما أداه إليه اجتهاده بأن يعمل به في الفتوى والقضاء وخاصةِ نفسه فهو إذا أفتى به وأخبر فقد قال على الله ما يعلم أنه يُرضي الله تعالى بحسب ما كُلف به من الظن .