القول في تأويل قوله تعالى { إِنّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * وَالّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوّئَنّهُمْ فِي الدّنْيَا حَسَنَةً وَلأجْرُ الاَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } .
يقول تعالى ذكره : إنا إذا أردنا أن نبعث من يموت فلا تعب علينا ولا نصب في إحيائناهم ، ولا في غير ذلك مما نخلق ونكوّن ونحدث لأنا إذا أردنا خلقه وإنشاءه فإنما نقول له كن فيكون ، لا معاناة فيه ولا كُلفة علينا .
واختلفت القرّاء في قراءة قوله : «يكون » فقرأه أكثر قرّاء الحجاز والعراق على الابتداء ، وعلى أن قوله : إنّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إذَا أرَدْناهُ أنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ كلام تامّ مكتف بنفسه عما بعده ، ثم يبتدأ فيقال : «فيكونُ » ، كما قال الشاعر :
*** يُريدُ أنْ يُعْرِبَهُ فيعجِمُهْ ***
وقرأ ذلك بعض قرّاء أهل الشام وبعض المتأخرين من قرّاء الكوفيين : «فَيَكُونَ » نصبا ، عطفا على قوله : أنْ نَقُولَ لَهُ . وكأن معنى الكلام على مذهبهم : ما قولنا لشيء إذا أردناه إلاّ أن نقول له : كن ، فيكون . وقد حُكي عن العرب سماعا : أريد أن آتيك فيَمْنَعَني المطر ، عطفا ب «يَمْنَعَني » على «آتيك » .
وقوله { إنما قولنا } الآية ، «إنما » في كلام العرب هي للمبالغة وتحقيق تخصيص المذكور ، فقد تكون مع هذا حاصرة إذا دل على ذلك المعنى ، كقوله تعالى { إنما الله إله واحد }{[7302]} [ النساء : 171 ] وأما قول النبي صلى الله عليه وسلم «إنما الربا في النسيئة »{[7303]} وقول العرب : إنما الشجاع عنترة ، فبقي فيها معنى المبالغة فقط ، و { إنما } في هذه الآية هي للحصر ، وقاعدة القول في هذه الآية أن تقول ، إن الإرادة والأمر اللذين هما صفتان من صفات الله تعالى القديمة ، هما قديمان أزليان ، وإن ما في ألفاظ هذه الآية من معنى الاستقبال والاستئناف إنما هو راجع إلى المراد ، لا إلى الإرادة ، وذلك أن الأشياء المرادة المكونة في وجودها استئناف واستقبال لا في إرادة ذلك ولا في الأمر به ، لأن ذينك قديمان ، فمن أجل المراد عبر ب { إذا } وب { نقول } ، ويرجع الآن على هذه الألفاظ فتوضح الوجه فيها واحدة واحدة ، أما قوله { لشيء } فيحتمل وجهين : أحدهما أن الأشياء التي هي مرادة وقيل لها { كن } ، معلوم أن للوجود يأتي على جميعها بطول الزمن وتقدير الله تعالى ، فلما كان وجودها حتماً جاز أن تسمى أشياء وهي في حالة عدم ، والوجه الثاني أن يكون قوله { لشيء } تنبيهاً لنا على الأمثلة التي تنظر فيها ، أي إن كل ما تأخذونه من الأشياء الموجودة فإنما سبيله أن يكون مراداً وقيل له { كن } فكان ، ويكون ذلك الشيء المأخوذ من الموجودات مثالاً لما يتأخر من الأمور وما تقدم وفني ، فبهذا يتخلص من تسمية المعدوم شيئاً ، وقوله { أردناه } منزل منزلة مراد ، ولكنه أتى بهذه الألفاظ المستأنفة بحسب أن الموجودات تجيء وتظهر شيئاً بعد شيء ، فكأنه قال إذا ظهر للمراد منه ، وعلى هذا الوجه يخرج قوله تعالى : { فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون }{[7304]} [ التوبة : 105 ] ، وقوله تعالى : { وليعلم اللهُ الذين آمنوا }{[7305]} [ آل عمران : 140 ] ونحو هذا مما معناه ، ويقع منكم ما رآه الله تعالى في الأزل وعلمه ، وقوله { أن نقول } منزل منزلة المصدر ، كأنه قال قولنا ، ولكن { أن } مع الفعل تعطي استئنافاً ليس في المصدر في أغلب أمرها ، وقد تجيء في مواضع لا يلحظ فيها الزمن كهذه الآية ، وكقوله تعالى { ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره }{[7306]} [ الروم : 25 ] وغير ذلك ، وذهب أكثر الناس إلى أن الشيء هو الذي يقال له ، كالمخاطب ، وكأن الله تعالى قال في الأزل لجميع ما خلق : { كن } بشرط الوقت والصفة ، وقال الزجاج { له } بمعنى من أجله ، وهذا يمكن أن يرد بالمعنى إلى الأول ، وذهب قوم إلى أن قوله { أن نقول } مجاز ، كما تقول قال برأسه فرفعه وقال بيده فضرب فلاناً ، ورد على هذا المنزع أبو منصور ، وذهب إلى أن الأولى هو الأولى ، وقرأ الجمهور «فيكونُ » برفع النون ، وقرأ ابن عامر والكسائي هنا وفي يس{[7307]} ، «فيكونَ » بنصبها ، وهي قراءة ابن محيصن{[7308]} .
قال القاضي أبو محمد : والأول أبعد من التعقيب الذي يصحب الفاء في أغلب حالها فتأمله ، وفي هذه النبذة ما يطلع منه على عيون هذه المسألة ، وشرط الإيجاز منع من بسط الاعتراضات والانفصالات ، والمقصود بهذه الآية إعلام منكري البعث بهوان أمره على الله وقربه في قدرته لا رب غيره .
هذه الجملة متّصلة بجملة { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } [ سورة النحل : 38 ] لبيان أنّ جهلهم بمَدى قدرة الله تعالى هو الذي جرّأهم على إنكار البعث واستحالته عندهم ، فهي بيان للجملة التي قبلها ولذلك فُصلت ، ووقعتْ جملة { ليبين لهم الذين يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا } [ سورة النحل : 39 ] إلى آخرها اعتراضاً بين البيان والمبيّن .
والمعنى أنه لا يتوقف تكوين شيء إذا أراده الله إلا على أن تتعلّق قدرته بتكوينه . وليس إحياء الأموات إلا من جملة الأشياء ، وما البعث إلا تكوين ، فما بَعْث الأموات إلا من جملة تكوين الموجودات ، فلا يخرج عن قدرته .
وأفادت { إنّما } قصراً هو قصر وقوع التّكوين على صدور الأمر به ، وهو قصر قلب لإبطال اعتقاد المشركين تعذّر إحياء الموتى ظنّاً منهم أنّه لا يحصل إلا إذا سلمت الأجساد من الفساد كما تقدم آنفاً ، فأريد ب { قولنا لشيء } تكوينُنا شيئاً ، أي تعلّق القدرة بخلق شيء . وأريد بقوله : { إذا أردناه } إذا تعلّقت به الإرادة الإلهية تعلّقاً تنجيزياً ، فإذا كان سبب التكوين ليس زائداً على قول { كن } فقد بطل تعذّر إحياء الموتى . ولذلك كان هذا قصر قلب لإبطال اعتقاد المشركين .
والشيء : أطلق هنا على المعدوم باعتبار إرادة وجوده ، فهو من إطلاق اسم ما يؤول إليه ، أو المرادُ بالشيء مطلق الحقيقة المعلومة وإن كانت معدومة ، وإطلاق الشيء على المعدوم مستعمل .
و { أن نقول له كن } خبر عن { قولنا } .
والمراد بقول { كن } توجّه القدرة إلى إيجاد المقدور . عُبر عن ذلك التوجّه بالقول بالكلام كما عبّر عنه بالأمر في قوله : { إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون } [ سورة يس : 82 ] وشبّه الشيء الممكن حصوله بشخص مأمور ، وشبّه انفعال الممكن لأمْرِ التكوين بامتثال المأمور لأمر الآمر . وكلّ ذلك تقريب للناس بما يعقلون ، وليس هو خطاباً للمعدوم ولا أن للمعدوم سمعاً يعقل به الكلام فيمتثل للآمر .
وقرأ الجمهور { فيكون } بالرفع أي فهو يكون ، عطفاً على الخبر وهو جملة { أن نقول } . وقرأ ابن عامر والكسائي بالنصب عطفاً على { نقول } ، أي أن نقول له كُن وأن يكون .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم قال سبحانه: {إنما قولنا}، يعني أمرنا... {لشيء إذا أردناه أن نقول له} مرة واحدة {كن فيكون} لا يثني قوله مرتين.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
إنا إذا أردنا أن نبعث من يموت فلا تعب علينا ولا نصب في إحيائناهم، ولا في غير ذلك مما نخلق ونكوّن ونحدث، لأنا إذا أردنا خلقه وإنشاءه فإنما نقول له كن فيكون، لا معاناة فيه ولا كُلفة علينا...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون} (يحتمل وجهين:
أحدهما:) يخبر عن سرعة نفاذ أمره وسهولة الأمر عليه أنه يكون أسرع من لحظة بصر أو لمحة عين...
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... {كُنْ فَيَكُونُ} من كان التامة التي بمعنى الحدوث والوجود، أي: إذا أردنا وجود شيء فليس إلا أن نقول له: احدث، فهو يحدث عقيب ذلك لا يتوقف، وهذا مثل لأنّ مراداً لا يمتنع عليه، وأنّ وجوده عند إرادته تعالى غير متوقف، كوجود المأمور به عند أمر الآمر المطاع إذا ورد على المأمور المطيع الممتثل، ولا قول ثم. والمعنى: أنّ إيجاد كل مقدور على الله تعالى بهذه السهولة، فكيف يمتنع عليه البعث الذي هو من شق المقدورات.
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
... كما قال {وَمَا أَمْرُنَا إِلا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} [القمر: 50] وقال: {مَا خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28]، وقال في هذه الآية الكريمة: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل: 40].
أي: أنه تعالى لا يحتاج إلى تأكيد فيما يأمر به، فإنه تعالى لا يمانع ولا يخالف، لأنه [هو] الواحد القهار العظيم، الذي قهر سلطانه وجبروته وعزته كل شيء، فلا إله إلا هو ولا رب سواه.
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
هذه الجملة متّصلة بجملة {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [سورة النحل: 38] لبيان أنّ جهلهم بمَدى قدرة الله تعالى هو الذي جرّأهم على إنكار البعث واستحالته عندهم، فهي بيان للجملة التي قبلها ولذلك فُصلت، ووقعتْ جملة {ليبين لهم الذين يختلفون فيه وليعلم الذين كفروا} [سورة النحل: 39] إلى آخرها اعتراضاً بين البيان والمبيّن.
{إذا أردناه} إذا تعلّقت به الإرادة الإلهية تعلّقاً تنجيزياً، فإذا كان سبب التكوين ليس زائداً على قول {كن} فقد بطل تعذّر إحياء الموتى. ولذلك كان هذا قصر قلب لإبطال اعتقاد المشركين. والشيء: أطلق هنا على المعدوم باعتبار إرادة وجوده، فهو من إطلاق اسم ما يؤول إليه، أو المرادُ بالشيء مطلق الحقيقة المعلومة وإن كانت معدومة، وإطلاق الشيء على المعدوم مستعمل.
والمراد بقول {كن} توجّه القدرة إلى إيجاد المقدور. عُبر عن ذلك التوجّه بالقول بالكلام كما عبّر عنه بالأمر في قوله: {إنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون} [سورة يس: 82] وشبّه الشيء الممكن حصوله بشخص مأمور، وشبّه انفعال الممكن لأمْرِ التكوين بامتثال المأمور لأمر الآمر. وكلّ ذلك تقريب للناس بما يعقلون، وليس هو خطاباً للمعدوم ولا أن للمعدوم سمعاً يعقل به الكلام فيمتثل للآمر.
إذن: أمر البعث ليس علاجاً لجزئيات كل شخص وضم أجزائه وتسويته من آدم حتى قيام الساعة، بل المسألة منضبطة تماماً مع الأمر الإلهي (كن). وبمجرد صدوره، ودون حاجة لوقت ومزاولة يكون الجميع ماثلاً طائعاً، كل واحد منتظر دوره، منتظر الإشارة؛ ولذلك جاء في الخبر:"أمور يبديها ولا يبتديها". فالأمر يتوقف على الإذن: اظهر يظهر. ومثال ذلك ولله المثل الأعلى من يعد القنبلة الزمنية مثلاً، ويضبطها على وقت معين.. تظل القنبلة هذه إلى وقت الانفجار الذي وضع فيها، ثم تنفجر دون تدخل من صناعها.. مجرد الإذن لها بالانفجار تنفجر. وحتى كلمة (كن) نفسها تحتاج لزمن، ولكن ليس هناك أقرب منها في الإذن.. وإن كان الأمر في حقه تعالى لا يحتاج إلى كن ولا غيره.
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
...ولعل المراد بالقول، الإرادة التكوينية لا الكلمة. ولكنها الكناية التي توحي بأن الأشياء حاضرةٌ للوجود أمامه سبحانه خاضعةٌ لإرادته بلسان استعدادها، كما لو كانت موجوداتٍ حيّةً عاقلةً تتلقى الأمر بالكلمة، فتستجيب بالممارسة.
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
ثمّ يشير القرآن إلى الفقرة الثّانية من بيان حقيقة المعاد، للرد على مَنْ يرى عدم إمكان إِعادة الإِنسان من جديد إلى الحياة من بعد موته: (إِنّما قولنا لشيء إِذا أردناه أن نقول له كن فيكون).
فمع هذه القدرة التامّة.. هل ثمّة شك أو ترديد في قدرته عز وجل على إِحياء الموتى؟!
ولعل لا حاجة لتبيان أنَّ «كن» إِنّما ذكرت لضرورة اللفظ، وإِلاّ لا حاجة في أمر اللّه ل «كن» أيضاً، فإرادته سبحانه وتعالى كافية في تحقيق ما يريد. ولو أردنا أن نضرب مثلا صغيراً ناقصاً من حياتنا (و لله المثل الأعلى)، فنستطيع أنْ نشبهه بانطباع صورة الشيء في أذهاننا لمجرد إِرادته، فإِنّنا لا نعاني من أية مشكلة في تصور جبل شامخ أو بحر متلاطم أو روضة غناء، ولا نحتاج في ذلك لجملة أو كلمة نطلقها حتى نتخيل ما نريد، فبمجرّد إِرادة التصور تظهر الصورة في ذهننا.