جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ خَلَقۡنَٰكُمۡ ثُمَّ صَوَّرۡنَٰكُمۡ ثُمَّ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ لَمۡ يَكُن مِّنَ ٱلسَّـٰجِدِينَ} (11)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمّ صَوّرْنَاكُمْ ثُمّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لاَدَمَ فَسَجَدُوَاْ إِلاّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مّنَ السّاجِدِينَ } .

اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك ، فقال بعضهم : تأويل ذلك : وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ في ظهر آدم أيها الناس ، ثُمّ صَوّرْناكُمْ في أرحام النساء خلقا مخلوقا ومثالاً ممثّلاً في صورة آدم . ذكر من قال ذلك :

حدثني المثنى ، قال : حدثنا عبد الله بن صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ بن أبي طلحة ، عن ابن عباس ، قوله : وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمّ صَوّرْناكُمْ ، قوله : خَلَقْناكُمْ يعني آدم ، وأما صوّرناكم فذرّيته .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله : وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمّ صَوّرْناكُمْ . . . الاَية ، قال : أما خلقناكم فآدم ، وأما صوّرناكم : فذرّية آدم من بعده .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا حكام ، عن أبي جعفر ، عن الربيع : وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ يعني : آدم ، ثُمّ صَوّرْناكُمْ يعني : في الأرحام .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا إسحاق ، قال : حدثنا عبد الرحمن بن سعد ، قال : أخبرنا أبو جعفر الرازي ، عن الربيع بن أنس ، في قوله : وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمّ صَوّرْناكُمْ يقول : خلقناكم خلق آدم ، ثم صوّرناكم في بطون أمهاتكم .

حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ : وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمّ صَوّرْناكُمْ يقول : خلقنا آدم ثم صوّرنا الذرية في الأرحام .

حدثنا بشر بن معاذ ، قال : حدثنا يزيد بن زريع ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة : وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمّ صَوّرْناكُمْ قال : خلق الله آدم من طين ، ثم صوّرناكم في بطون أمهاتكم خلقا من بعد خلق ، علقة ثم مضغة ثم عظاما ، ثم كسا العظام لحما ، ثم أنشأناه خلقا آخر .

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، قال : خلق الله آدم ثم صوّر ذرّيته من بعده .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا عمر بن هارون ، عن نصر بن مشارس ، عن الضحاك : خَلَقْناكُمْ ثُمّ صَوّرْناكُمْ قال : ذرّيته .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد بن سليمان ، عن الضحاك ، قوله : ولَقَدْ خَلَقْناكُمْ يعني آم ، ثُمّ صَوّرْناكُمْ ، يعني : ذرّيته .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : ولقد خلقناكم في أصلاب آبائكم ثم صوّرناكم في بطون أمهاتكم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي ، عن شريك ، عن سماك ، عن عكرمة : وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُم صَوّرْناكُمْ قال : خلقناكم في أصلاب الرجال ، وصوّرناكم في أرحام النساء .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا الحماني ، قال : حدثنا شريك ، عن سماك ، عن عكرمة ، مثله .

حدثنا محمد بن بشار ، قال : حدثنا مؤمل ، قال : حدثنا سفيان ، قال : سمعت الأعمش يقرأ : وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمّ صَوّرْناكُمْ قال : خلقناكم في أصلاب الرجال ، ثم صوّرناكم في أرحام النساء .

وقال آخرون : بل معنى ذلك : خَلَقْناكُمْ يعني آدم ، ثُمّ صَوّرْناكُمْ يعني في ظهره . ذكر من قال ذلك :

حدثني محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى ، عن ابن نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله : وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ قال : آدم ، ثُمّ صَوّرْناكُمْ قال : في ظهر آدم .

حدثني المثنى ، قال : حدثنا أبو حذيفة ، قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد : وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمّ صَوّرْناكُمْ في ظهر آدم .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج عن مجاهد ، قوله : وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمّ صَوّرْناكُمْ قال : صورّناكم في ظهر آدم .

حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : حدثنا أبو سعد المدني ، قال : سمعت مجاهدا في قوله : ولقَد خَلَقْناكُمْ ثُمّ صَوّرْناكُمْ قال : في ظهر آدم لما تصيرون إليه من الثواب في الاَخرة .

وقال آخرون : معنى ذلك : ولقد خلقناكم في بطون أمهاتكم ، ثم صورناكم فيها . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا محمد بن ثور ، عن معمر ، عمن ذكره ، قال : خَلَقْناكُمْ ثُمّ صَوّرْناكُمْ قال : خلق الله الإنسان في الرحم ، ثم صوّره فشقّ سمعه وبصره وأصابعه .

قال أبو جعفر : وأولى الأقوال بالصواب قول من قال : تأويله : وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ولقد خلقنا آدم ، ثُمّ صَوّرْناكُمْ بتصويرنا آدم ، كما قد بيّنا فيما مضى من خطاب العرب الرجل بالأفعال تضيفها إليه ، والمعنىّ في ذلك سلفه ، وكما قال جلّ ثناؤه لمن بين أظهر المؤمنين من اليهود على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم : وَإذْ أخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَرَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوّةٍ وما أشبه ذلك من الخطاب الموجّه إلى الحيّ الموجود والمراد به السلف المعدوم ، فكذلك ذلك في قوله : وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمّ صَوّرْناكُمْ معناه : ولقد خلقنا أباكم آدم ، ثم صوّرناه .

وإنما قلنا هذا القول أولى الأقوال في ذلك بالصواب ، لأن الذي يتلو ذلك قوله : ثُمّ قُلْنا للمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لاَدَمَ ومعلوم أن الله تبارك وتعالى قد أمر الملائكة بالسجود لاَدم قبل أن يصوّر ذرّيته في بطون أمهاتهم ، بل قبل أن يخلق أمهاتهم ، و«ثم » في كلام العرب لا تأي إلا بإيذان انقطاع ما بعدها عما قبلها ، وذلك كقول القائل : قمت ثم قعدت ، لا يكون القعود إذ عطف به ب«ثم » على قوله : «قمت » إلا بعد القيام ، وكذلك ذلك في جميع الكلام . ولو كان العطف في ذلك بالواو جاز أن يكون الذي بعدها قد كان قبل الذي قبلها ، وذلك كقول القائل : قمت وقعدت ، فجائز أن يكون القعود في هذا الكلام قد كان قبل القيام ، لأن الواو تدخل في الكلام إذا كانت عطفا لتوجب للذي بعدها من المعنى ما وجب للذي قبلها من غير دلالة منها بنفسها ، على أن ذلك كان في وقت واحد أو وقتين مختلفين ، أو إن كانا في وقتين أيهما المتقدّم وأيهما المتأخر . فلما وصفنا قلنا إن قوله : ولَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمّ صَوّرْناكُمْ لا يصحّ تأويله إلا على ما ذكرنا . فإن ظنّ ظانّ أن العرب إذا كانت ربما نطقت ب«ثم » في موضع الواو في ضرورة شعر كما قال بعضهم :

سألْتُ رَبِيَعَةَ مَنْ خَيْرُها ***أبا ثُمّ أمّا فَقالَتْ لِمَهْ

بمعنى : أبا وأما ، فإن ذلك جائز أن يكون نظيره ، فإن ذلك بخلاف ما ظنّ وذلك أن كتاب الله جلّ ثناؤه نزل بأفصح لغات العرب ، وغير جائز توجيه شيء منه إلى الشاذّ من لغاتها وله في الأفصح الأشهر معنى مفهوم ووجه معروف . وقد وجّه بعض من ضعفت معرفته بكلام العرب ذلك إلى أنه من المؤخر الذي معناه التقديم ، وزعم أن معنى ذلك : ولقد خلقناكم ، ثم قلنا للملائكة : اسجدوا لاَدم ، ثم صوّرناكم . وذلك غير جائز في كلام العرب ، لأنها لا تدخل «ثم » في الكلام وهي مراد بها التقديم على ما قبلها من الخبر ، وإن كانوا قد يقدّمونها في الكلام ، إذا كان فيه دليل على أن معناها التأخير ، وذلك كقولهم : قام ثم عبد الله عمرو فأما إذا قيل : قام عبد الله ثم قعد عمرو ، فغير جائز أن يكون قعود عمرو كان إلا بعد قيام عبد الله ، إذا كان الخبر صدقا ، فقول الله تبارك وتعالى : وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمّ صَوّرْناكُمْ ثُمّ قُلْنا للْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا نظير قول القائل : قام عبد الله ثم قعد عمرو في أنه غير جائز أن يكون أمر الله الملائكة بالسجود لاَدم كان إلا بعد الخلق والتصوير لما وصفنا قبل . وأما قوله : للْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لاَدَمَ فإنه يقول جلّ ثناؤه : فلما صوّرنا آدم وجعلناه خلقا سويّا ، ونفخنا فيه من روحنا ، قلنا للملائكة : اسجدوا لاَدم ، ابتلاءً منا واختبارا لهم بالأمر ، ليعلم الطائع منهم من العاصي فَسَجَدُوا يقول : فسجد الملائكة إلاّ إبْلِيسَ فإنه لَمْ يَكُنْ مِنَ السّاجِدِينَ لاَدم حين أمره الله مع من أمر من سائر الملائكة غيره بالسجود . وقد بيّنا فيما مضى المعنى الذي من أجله امتحن جلّ جلاله ملائكته بالسجود لاَدم ، وأمر إبليس وقصصه ، وبما أغنى عن إعادته في هذا الموضع .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ خَلَقۡنَٰكُمۡ ثُمَّ صَوَّرۡنَٰكُمۡ ثُمَّ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ لَمۡ يَكُن مِّنَ ٱلسَّـٰجِدِينَ} (11)

وقوله تعالى : { ولقد خلقناكم ثم صورناكم } الآية ، هذه الآية معناها التنبيه على موضع العبرة والتعجيب من غريب الصنعة وإسداء النعمة ، فبدأ بالخلق الذي هو الإيجاد بعد العدم ثم بالتصوير في هذه البنية المخصوصة للبشر ، وإلا فلم ُيَعَّر المخلوق قط من صورة ، واضطراب الناس في ترتيب هذه الآية لأن ظاهرها يقتضي أن الخلق والتصوير لبني آدم قبل القول للملائكة أن يسجدوا ، وقد صححت الشريعة أن الأمر لم يكن كذلك ، فقالت فرقة : المراد بقوله : { ولقد خلقناكم ثم صورناكم } آدم بنفسه وإن كان الخطاب لبنيه ، وذلك لما كان سبب وجود بنيه بما فعل فيه صح مع تجوز أن يقال إنه فعل في بنيه ، وقال مجاهد : المعنى { ولقد خلقناكم ثم صورناكم } في صلب آدم وفي وقت استخراج ذرية آدم من ظهره أمثال الذر في صورة البشر .

قال القاضي أبو محمد : ويترتب في هذين القولين أن تكون { ثم } على بابها في الترتيب والمهلة ، وقال عكرمة والأعمش : المراد خلقناكم في ظهور الآباء وصورناكم في بطون الأمهات . وقال ابن عباس والربيع بن أنس : أما { خلقناكم } فآدم وأما { صورناكم } فذريته في بطون الأمهات ، وقاله قتادة والضحاك .

وقال معمر بن راشد من بعض أهل العلم : بل ذلك كله في بطون الأمهات ، من خلق وتصوير .

قال القاضي أبو محمد : وقالت هذه الفرقة إن { ثم } لترتيب الأخبار بهذه الجمل لا لترتيب الجمل في أنفسها . وقال الأخفش { ثم } في هذه الآية بمعنى الواو ، ورد عليه نحويو البصرة .

و «ملائكة » وزنه إما مفاعلة وإما معافلة بحسب الاشتقاق الذي قد مضى ذكره في سورة البقرة ، وهنالك ذكرنا هيئة السجود والمراد به ومعنى إبليس وكيف كان قبل المعصية ، وأما قوله في هذه الآية { إلا إبليس } فقال الزجّاج هو استثناء ليس من الأول ولكن إبليس أمر بالسجود بدليل قوله تعالى : { ما منعك ألاَّ تسجد إذ أمرتك } [ الأعراف : 12 ] وقال غير الزجّاج : الاستثناء من الأول لأنّا لو جعلناه منقطعاً على قول من قال إن إبليس لم يكن من الملائكة لوجب أن إبليس لم يؤمر بالسجود ، إلا أن يقول قائل هذه المقالة إن أمر إبليس كان بوجه آخر غير قوله : { اسجدوا } وذلك بيّن الضعف . وقرأ أبو جعفر بن القعقاع «للملائكةُ اسجدوا » بضم الهاء وهي قراءة ضعيفة . ووجهها أنه حذف همزة { اسجدوا } وألقى حركتها عن الهاء ، وذلك لا يتجه لأنها محذوفة مع جر الهاء بحركة ، أي شيء يلغى إنما يكون في الوصل .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَلَقَدۡ خَلَقۡنَٰكُمۡ ثُمَّ صَوَّرۡنَٰكُمۡ ثُمَّ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ لَمۡ يَكُن مِّنَ ٱلسَّـٰجِدِينَ} (11)

عطف على جملة : { ولقد مكناكم في الأرض } [ الأعراف : 10 ] تذكيراً بنعمة إيجاد النّوع ، وهي نعمة عناية ، لأنّ الوجود أشرف من العدم ، بقطع النّظر عما قد يعرض للموجود من الأكدار والمتاعب ، وبنعمة تفضيله على النّوع بأنْ أمَر الملائكة بالسّجود لأصله ، وأُدمج في هذا الامتنان تنبيهٌ وإيقاظ إلى عداوة الشّيطان لنوع الإنسان من القِدم ، ليكون ذلك تمهيداً للتّحذير من وسوسه وتضليله ، وإغراء بالإقلاع عمّا أوقع فيه النّاس من الشّرك والضّلالة ، وهو غرض السورة ، وذلك عند قوله تعالى : { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة } [ الأعراف : 27 ] ومَا تلاه من الآيات ، فلذلك كان هذا بمنزلة الاستدلال وُسِّط في خلال الموعظة .

والخطاب للنّاس كلّهم ، والمقصود منه المشركون ، لأنّهم الغرض في هذه السورة .

وتأكيد الخبر باللاّم و ( قد ) للوجه الذي تقدّم في قوله : { ولقد خلقناكم } ، وتعدية فعلي الخلق والتّصوير إلى ضمير المخاطبين ، لما كان على معنى خلق النّوع الذي هم من أفراد تعيّن أن يكون المعنى : خلقنا أصلكم ثمّ صوّرناه ، وهو آدم ، كما أفصح عنه قوله : { ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } .

والخلق الإيجاد وإبراز الشّيء إلى الوجود ، وهذا الإطلاق هو المراد منه عند إسناده إلى الله تعالى أو وَصْف الله به .

والتّصوير جعل الشّيء صورة ، والصّورة الشّكل الذي يشكّل به الجسم كما يشكّل الطين بصورة نوع من الأنواع .

وعطفت جملة { صورناكم } بحرف ( ثمّ ) الدّالة على تراخي رتبة التّصوير عن رتبة الخلق ، لأنّ التّصوير حالة كمال في الخلق بأن كان الإنسان على الصورة الإنسانيّة المتقنة حسناً وشرفاً ، بما فيها من مشاعر الإدراك والتّدبير ، سواء كان التّصوير مقارناً للخلق كما في خلق آدم ، أم كان بعد الخلق بمدّة ، كما في تصوير الأجنّة من عظام ولحم وعصب وعروق ومشاعر ، كقوله تعالى : { فخلقنا المضغة عظاماً فكسونا العظام لحماً } [ المؤمنون : 14 ] .

وتعدية فعلي ( خلقنا ) و ( صوّرنا ) إلى ضمير الخطاب ينتظم في سلك ما عاد إليه الضّمير قبله في قوله : { ولقد مكناكم في الأرض } [ الأعراف : 10 ] الآية فالخطاب للنّاس كلّهم توطئة لقوله فيما يأتي : { يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة } [ الأعراف : 27 ] والمقصود بالخصوص منه المشركون لأنّهم الذين سوّل لهم الشّيطان كفران هذه النّعم لقوله تعالى عقب ذلك : { وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا } [ الأعراف : 28 ] وقوله فيما تقدّم : { اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون } [ الأعراف : 3 ] .

وأمّا تعلُّق فعلي الخلق والتّصوير بضمير المخاطبين فمراد منه أصل نوعهم الأوّل وهو آدم بقرينة تعقيبه بقوله : ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فنُزل خلق أصل نوعهم منزلةَ خلق أفراد النّوع الذين منهم المخاطبون لأنّ المقصود التّذكير بنعمة الإيجاد ليشكروا موجدهم ونظيره قوله تعالى : { إنا لما طغا الماء حملناكم في الجارية } [ الحاقة : 11 ] أي حملنا أصولكم وهم الذين كانوا مع نوح وتناسل منهم النّاس بعد الطّوفان ، لأنّ المقصود الامتنان على المخاطبين بإنجاء أصولهم الذين تناسلوا منهم ، ويجوز أن يؤول فعلا الخلق والتّصوير بمعنى إرادة حصول ذلك ، كقوله تعالى : حكاية عن كلام الملائكة مع إبراهيم : { فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين } [ الذاريات : 35 ] أي أردنا إخراج من كان فيها ، فإن هذا الكلام وقع قبل أمر لوط ومَن آمن به بالخروج من القرية .

ودلّ قوله : { ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } على أنّ المخلوق والمصوّر هو آدم ، ومعنى الكلام خلقنا أصلكم وصوّرناه فبرز موجوداً معيَّناً مسمّى بآدم ، فإنّ التّسمية طريق لتعيين المسمّى ، ثمّ أظهرنا فضله وبديع صنعنا فيه فقلنا للملائكة اسجدوا له فوقع إيجاز بديع في نسج الكلام .

و ( ثُمّ ) في قوله : { ثم قال للملائكة اسجدوا لآدم } عاطفةٌ الجملةَ على الجملة فهي مقيّدة للتّراخي الرّتبي لا للتّراخي الزّماني وذلك أنّ مضمون الجملة المعطوفة هنا أرقى رتبة من مضمون الجملة المعطوف عليها .

وقوله : { ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم } ، تقدّم تفسيره ، وبيانُ ما تقدّم أمَر الله الملائكةَ بالسّجود لآدم ، من ظهور فضل ما علمه الله من الأسماء ما لم يَعلِّمه الملائكة ، عند قوله تعالى : { وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس } في سورة البقرة ( 34 ) .

وتعريف { الملائكة } للجنس فلا يلزم أن يكون الأمر عاماً لجميع الملائكة ، بل يجوز أن يكون المأمورون هم الملائكة ، الذين كانوا في المكان الذي خُلق فيه آدم ، ونقل ذلك عن ابن عبّاس ، ويحتمل الاستغراق لجميع الملائكة . وطريق أمرهم جميعاً وسجودِهم جميعاً لآدم لا يعلمه إلاّ الله ، لأنّ طرق علمهم بمراد الله عنهم في العالم العلوي لا تقاس على المألوف في عالم الأرض .

واعلم أن أمر الله الملائكة بالسّجود لآدم لا يقتضي أن يكون آدمُ قد خلق في العالم الذي فيه الملائكة بل ذلك محتمل ، ويحتمل أنّ الله لمّا خلق آدم حشر الملائكة ، وأطلعهم على هذا الخلق العجيب ، فإنّ الملائكة ينتقلون من مكان إلى مكان فالآية ليست نصّاً في أنّ آدم خلق في السّماوات ولا أنّه في الجنّة التي هي دار الثّواب والعقاب ، وإن كان ظاهرها يقتضي ذلك ، وبهذا الظاهر أخذ جمهور أهل السنّة ، وتقدّم ذلك في سورة البقرة . واستثناء إبليس من الساجدين في قوله : { إلا إبليس } يدلّ على أنّه كان في عداد الملائكة لأنّه كان مختلطا بهم . وقال السكاكي في « المفتاح » عُدّ إبليس من الملائكة بحكم التّغليب .

وجملة : عغتاة ، { لم يكن من الساجدين } حال من ( إبليس ) ، وهي حال مؤكدة لمضمون عاملها وهو ما دلّت عليه أداة الاستثناء ، لما فيها من معنى : أستثنِي ، لأنّ الاستثناء يقتضي ثبوت نقيض حكم المستثنى منه للمستثنَى ، وهو عين مدلول : لم يكن من الساجدين فكانت الحال تأكيداً . وفي اختيار الاخبار عن نفي سجوده بجعْلِه من غير السّاجدين : إشارة إلى أنّه انتفى عنه السّجود انتفاء شديداً لأنّ قولك لم يكن فلان من المهتدين يفيد من النّفي أشدّ ممّا يفيده قولك لم يكن مُهتدياً كما في قوله تعالى : { قل لا أتبع أهواءكم قد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين } في سورة الأنعام ( 56 ) .

ففِي الآية إشارة إلى أنّ الله تعالى خلق في نفس إبليس جبلة تدفعه إلى العصيان عندما لا يوافق الأمر هواه ، وجعل له هوىً ورأياً ، فكانت جبلته مخالفة لجبلة الملائكة . وإنّما استمرّ في عِداد الملائكة لأنّه لم يَحدث من الأمر ما يخالف هواه ، فلمّا حدث الأمرُ بالسّجود ظَهر خُلق العصيان الكامِنُ فيه ، فكان قوله تعالى : { لم يكن من الساجدين } إشارة إلى أنّه لم يقدّر له أن يكون من الطائفة السّاجدين ، أي انتفى سجوده انتفاء لارجاء في حصوله بعدُ ، وقد عُلِم أنّه أبى السّجود إباء وذلك تمهيداً لحكاية السّؤال والجواب في قوله : { قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك } .