جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{مَّا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٖ وَلَا لِأٓبَآئِهِمۡۚ كَبُرَتۡ كَلِمَةٗ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبٗا} (5)

وقوله : ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ يقول : ما لقائلي هذا القول ، يعني قولهم اتّخَذَ اللّهُ وَلَدا بِهِ : يعني بالله من علم ، والهاء في قوله بِهِ من ذكر الله . وإنما معنى الكلام : ما لهؤلاء القائلين هذا القول بالله ، إنه لا يجوز أن يكون له ولد من علم ، فلجهلهم بالله وعظمته قالوا ذلك .

وقوله : ولاَ لاَبائِهِمْ يقول : ولا لأسلافهم الذين مضوا قبلهم على مثل الذي هم عليه اليوم ، كان لهم بالله وبعظمته علم . وقوله : كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ اختلفت القرّاء في قراءة ذلك ، فقرأته عامة قرّاء المدنيين والكوفيين والبصريين : كَبُرَتْ كَلِمَةً بنصب كلمةً بمعنى : كبُرت كلمتهم التي قالوها كلمةً على التفسير ، كما يقال : نعم رجلاً عمرو ، ونعم الرجل رجلاً قام ، ونعم رجلاً قام . وكان بعض نحويّي أهل البصرة يقول : نُبت كلمةً لأنها في معنى : أكْبِر بها كلمة ، كما قال جلّ ثناؤه وَسَاءتْ مُرْتَفَقا وقال : هي في النصب مثل قول الشاعر :

ولقدْ عَلِمْتُ إذَا اللّقاحُ تَرَوّحتْ *** هَدَجَ الرّئالِ تَكُبّهُنّ شَمالا

أي تكبهنّ الرياح شمالاً . فكأنه قال : كبرت تلك الكلمة . وذُكِر عن بعض المكيين أنه كان يقرأ ذلك : «كَبُرَتْ كَلِمَةٌ » رفعا ، كما يقال : عَظُم قولُك وكَبُر شأنُك . وإذا قرىء ذلك كذلك لم يكن في قوله كَبُرَتْ كَلِمَةً مُضمر ، وكان صفة للكلمة .

والصواب من القراءة في ذلك عندي ، قراءة من قرأ : كَبُرَتْ كَلِمَةً نصبا لإجماع الحجة من القرّاء عليها ، فتأويل الكلام : عَظُمت الكلمة كلمة تخرج من أفواه هؤلاء القوم الذين قالوا : اتخذ الله ولدا ، والملائكة بنات الله ، كما :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أفْوَاهِهِمْ قولهم : إن الملائكة بنات الله .

وقوله : إنْ يَقُولُونَ إلاّ كَذِبا يقول عزّ ذكره : ما يقول هؤلاء القائلون اتخذ الله ولدا بقيلهم ذلك إلا كذبا وفرية افتروها على الله .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{مَّا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٖ وَلَا لِأٓبَآئِهِمۡۚ كَبُرَتۡ كَلِمَةٗ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبٗا} (5)

{ ما لهم به من علم } أي بالولد أو باتخاذه أو بالقول ، والمعنى أنهم يقولونه عن جهل مفرط وتوهم كاذب ، أو تقليد لما سمعوه من أوائلهم من غير علم بالمعنى الذي أرادوا به ، فإنهم كانوا يطلقون الأب والابن بمعنى المؤثر والأثر . أو بالله إذ لو علموه لما جوزوا نسبة الاتخاذ إليه . { ولا لآبائهم } الذين تقولوه بمعنى التبني . { كبُرت كلمة } عظمت مقالتهم هذه في الكفر لما فيها من التشبيه والتشريك ، وإيهام احتياجه تعالى إلى ولد يعينه ويخلفه إلى غير ذلك من الزيغ ، و{ كلمة } نصب على التمييز وقرئ بالرفع على الفاعلية والأول أبلغ وأدل على المقصود . { تخرج من أفواههم } صفة لها تفيد استعظام اجترائهم على إخراجها من أفواهم ، والخارج بالذات هو الهواء الحامل لها . وقيل صفة محذوف هو المخصوص بالذم لأن كبرها هنا بمعنى بئس وقرئ { كبرت } بالسكون مع الإشمام . { إن يقولون إلا كذبا } .

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{مَّا لَهُم بِهِۦ مِنۡ عِلۡمٖ وَلَا لِأٓبَآئِهِمۡۚ كَبُرَتۡ كَلِمَةٗ تَخۡرُجُ مِنۡ أَفۡوَٰهِهِمۡۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبٗا} (5)

{ ما لهم به من علم ولا لآبائهم }

جملة { ما لهم به من علم } حال من { الذين قالوا } . والضمير المجرور بالباء عائد إلى القول المفهوم من { قالوا } .

و ( من ) لتوكيد النفي . وفائدة ذكر هذه الحال أنها أشنع في كفرهم وهي أن يقولوا كذباً ليست لهم فيه شبهة ، فأطلق العلم على سبب العلم كما دل عليه قوله تعالى : { ومن يدع مع الله إلهاً آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه } [ المؤمنون : 117 ] .

وضمير { به } عائد على مصدر مأخوذ من فعل { قالوا } ، أي ما لهم بذلك القول من علم .

وعطف { ولا لآبائهم } لقطع حجتهم لأنهم كانوا يقولون { إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون } [ الزخرف : 23 ] ، فإذا لم يكن لآبائهم حجة على ما يقولون فليسوا جديرين بأن يُقلدوهم .

{ كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولوا إلا كذبا }

استئناف بالتشاؤم بذلك القول الشنيع .

ووجه فصل الجملة أنها مخالفة للتي قبلها بالإنشائية المخالفة للخبرية .

وفعل { كبرت } بضم الباء . أصله : الإخبار عن الشيء بضخامة جسمه ، ويستعمل مجازاً في الشدة والقوة في وصف من الصفات المحمودة والمذمومة على وجه الاستعارة ، وهو هنا مستعمل في التعجيب من كِبر هذه الكلمة في الشناعة بقرينة المقام . ودل على قصد التعجيب منها انتصاب { كلمة } على التمييز إذ لا يحتمل التمييز هنا معنى غير أنه تمييز نسبة التعجيب ، ومن أجل هذا مثلوا بهذه الآية لورود فَعُل الأصلي والمحول لمعنى المدح والذم في معنى نِعم وبئس بحسب المقام .

والضمير في قوله : { كبرت } يرجع إلى الكلمة التي دل عليها التمييز .

وأطلقت الكلمة على الكلام وهو إطلاق شائع ، ومنه قوله تعالى : { إنها كلمة هو قائلها } [ المؤمنون : 100 ] ، وقول النبي : أصدقُ كلمةٍ قالها شاعر كلمة لبيد :

ألا كل شيء ما خلا اللّهَ باطل

وجملة { تخرج من أفواههم } صفة ل { كلمة } مقصود بها من جُرْأتِهم على النطق بها ووقاحتهم في قولها .

والتعبير بالفعل المضارع لاستحضار صورة خروجها من أفواههم تخييلاً لفظاعتها . وفيه إيماء إلى أن مثل ذلك الكلام ليس له مصدر غير الأفواه ، لأنه لاستحالته تتلقاه وتنطق به أفواههم وتسمعه أسماعهم ولا تتعقله عقولهم لأن المحال لا يعتقده العقل ولكنه يتلقاه المقلد دون تأمل .

والأفواه : جمع فَم وهو بوزن أفعال ، لأن أصل فم فَوَه بفتحتين بوزن جَمل ، أو فيهٍ بوزن ريح ، فحذفت الهاء من آخره لثقلها مع قلة حروف الكلمة بحيث لا يجد الناطق حرفاً يعتمد عليه لسانه ، ولأن ما قبلها حرف ثقيل وهو الواو المتحركة فلما بقيت الكلمة مختومة بواو متحركة أبدلت ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها فصار « فاً » ولا يكون اسم على حرفين أحدهما تنوين ، فأبدلت الألف المنونة بحرف صحيح وهو الميم لأنها تشابه الواو التي هي الأصل في الكلمة لأنهما شفهيتان فصار « فم » ، ولما جمعوه ردوه إلى أصله .

وجملة { إن يقولون إلا كذباً } مؤكدة لمضمون جملة { تخرج من أفواههم } لأن الشيء الذي تنطق به الألسن ولا تحقق له في الخارج ونفسسِ الأمر هو الكذب ، أي تخرج من أفواههم خروج الكذب ، فما قولهم ذلك إلا كذب ، أي ليست له صفة إلا صفة الكذب .

هذا إذا جعل القول المأخوذ من { يقولون } خصوص قولهم : { اتخذ الله ولداً } [ الكهف : 4 ] . ولك أن تحمل { يقولون } على العموم في سياق النفي ، أي لا يصدر منهم قول إلا الكذب ، فيكون قصراً إضافياً ، أي ما يقولونه في القرآن والإسلام ، أو ما يقولونه من معتقداتهم المخالف لما جاء به الإسلام فتكون جملة إن { يقولون } تذييلاً .