القول في تأويل قوله تعالى : { قَدْ خَسِرَ الّذِينَ قَتَلُوَاْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَآءً عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } .
يقول تعالى ذكره : قد هلك هؤلاء المفترون على ربهم الكذب ، العادلون به الأوثان والأصنام ، الذين زيّن لم شركاؤهم قتل أولادهم ، وتحريم ما حرّمت عليهم من أموالهم ، فقتلوا طاعة لها أولادهم ، وحرّموا ما أحلّ الله لهم ، وجعله لهم رزقا من أنعامهم سفها منهم ، يقول : فعلوا ما فعلوا من ذلك جهالة منهم بما لهم وعليهم ، ونقص عقول ، وضعف أحلام منهم ، وقلة فهم بعاجل ضرّه وآجل مكروهه من عظيم عقاب الله عليه لهم . افْتِرَاءً على الله يقول : تكذيبا على الله وتخرّصا عليه الباطل . قَدْ ضَلّوا يقول : قد تركوا محجة الحقّ في فعلهم ذلك ، وزالوا عن سواء السبيل . وَما كانُوا مُهْتَدِينَ يقول : ولم يكن فاعلو ذلك على هدى واستقامة في أفعالهم التي كانوا يفعلون قبل ذلك ، وَلا كانُوا مُهْتَدِينَ للصواب فيها ولا موفقين له . ونزلت هذه الاَية في الذين ذكر الله خبرهم في هذه الاَيات ، من قوله : وَجَعَلُوا لله مِمّا ذَرَأ مِنَ الحَرْثِ والأنْعامِ نَصِيبا الذين كانوا يبحرون البحائر ، ويسيبون السوائب ، ويئدون البنات . كما :
حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال عكرمة ، قوله : الّذِينَ قَتَلُوا أوْلادَهُمْ سَفَها بغيرِ عِلْمٍ قال : نزلت فيمن يئد البنات من ربيعة ومضر ، كان الرجل يشترط على امرأته أن تستحيي جارية وتئد أخرى ، فإذا كانت الجارية التي تُوأد غدا الرجل أو راح من عند امرأته وقال لها : أنت عليّ كظهر أمي إن رجعت إليك ولم تئديها فتخدّ لها في الأرض خَدّا ، وترسل إلى نسائها فيجتمعن عندها ، ثم يتداولنها ، حتى إذا أبصرته راجعا دسّتها في حفرتها ، ثم سوّت عليها التراب .
حدثني محمد بن الحسين ، قال : حدثنا أحمد بن المفضل ، قال : حدثنا أسباط ، عن السديّ ، ثم ذكر ما صنعوا في أولادهم وأموالهم ، فقال : قَدْ خَسِرَ الّذِينَ قَتَلُوا أوْلادَهُمْ سَفَها بغيرِ عِلْمٍ وحَرّموا ما رَزَقَهُمُ اللّهُ .
حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : قَدْ خَسِرَ الّذِينَ قَتَلُوا أوْلادَهُمْ سَفَها بغير عِلْمٍ فقال : هذا صنيع أهل الجاهلية ، كان أحدهم يقتل ابنته مخافة السباء والفاقة ويَغْذُو كلبه . وقوله : وَحَرّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللّهُ . . . الاَية ، وهم أهل الجاهلية جعلوا بحيرة وسائبة ووصيلة وحاميا ، تحكّما من الشياطين في أموالهم .
حدثني الحرث ، قال : حدثنا عبد العزيز ، قال : إذا سرّك أن تعلم جهل العرب ، فاقرأ ما بعد المائة من سورة الأنعام ، قوله : قَدْ خَسِرَ الّذِينَ قَتَلُوا أوْلادَهُمْ سَفَها بغيرِ عِلْمٍ . . . الاَية .
وكان أبو رزين يتأوّل قوله : قَدْ ضَلّوا أنه معنيّ به قد ضلوا قبل هؤلاء الأفعال من قتل الأولاد وتحريم الرزق الذي رزقهم الله بأمور غير ذلك .
حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن سفيان ، عن الأعمش ، عن أبي رزين ، في قوله : قَدْ خَسِرَ الّذِينَ قَتَلُوا أوْلادَهُمْ . . . إلى قوله : قَدْ ضَلّوا قال : قد ضلوا قبل ذلك .
{ قد خسر الذين قتلوا أولادهم } يريد بهم العرب الذين كانوا يقتلون بناتهم مخافة السبي والفقر . وقرأ ابن كثير وابن عامر { قتلوا } بالتشديد بمعنى التكثير . { سفها بغير علم } لخفة عقلهم وجهلهم بأن الله سبحانه وتعالى رازق أولادهم لا هم ، ويجوز نصبه على الحال أو المصدر . { وحرموا ما رزقهم الله } من البحائر ونحوها . { افتراء على الله } يحتمل الوجوه المذكورة في مثله . { قد ضلوا وما كانوا مهتدين } إلى الحق والصواب .
هذا لفظ يتضمن التشنيع بقبح فعلهم والتعجب من سوء حالهم في وأدهم البنات وحجرهم الأنعام والحرث ، وقال عكرمة : وكان الوأد في ربيعة ومضر .
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه : وكان جمهور العرب لا يفعله ، ثم إن فاعليه كان منهم من يفعله خوف العيلة والاقتار ، وكان منهم من يفعله غيرة مخافة السباء ، وقرأ ابن عامر وابن كثير : «قتّلوا » بتشديد التاء على المبالغة وقرأ الباقون : «قتلوا » بتخفيفها و { ما رزقهم الله } : هي تلك الأنعام والغلات التي توقف بغير شرع ولا مثوبة في معاد بل بالافتراء على الله والكذب و { قد ضلوا } إخباراً عنهم بالحيرة وهو من التعجب بمنزلة قوله { قد خسر } ، { وما كانوا } يريد في هذه الفعلة ويحتمل أن يريد : وما كانوا قبل ضلالهم بهذه الفعلة مهتدين لكنهم زادوا بهذه الفعلة ضلالاً .
تذييل جُعل فذلكة للكلام السّابق ، المشتمل على بيان ضلالهم في قتل أولادهم ، وتحجير بعض الحلال على بعض من أحلّ له .
وتحقيق الفعل ب { قد } للتّنبيه على أنّ خسرانهم أمر ثابت ، فيفيد التّحقيق التّعجيب منهم كيف عَمُوا عمَّا هم فيه من خسرانهم . وعن سعيد بن جبير قال ابن عبّاس : إذا سرّك أن تعلم جهلَ العرب فاقرأ ما فوق الثّلاثين ومائة من سورة الأنعام : { قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفاهاً بغير علم } إلى { وما كانوا مهتدين } . أي من قوله تعالى : { وجعلوا لله ممّا ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً } [ الأنعام : 136 ] وجعلها فوق والثّلاثين ومائة تقريباً ، وهي في العدّ السادسة والثلاثون ومائة .
ووصف فعلهم بالخسران لأنّ حقيقة الخسران نقصان مال التّاجر ، والتّاجر قاصد الرّبح وهو الزّيادة ، فإذا خسر فقد باء بعكس ما عَمِل لأجلِه ( ولذلك كثر في القرآن استعارة الخسران لعمل الّذين يعملون طلباً لمرضاة الله وثوابه فيقعون في غضبه وعقابه ، لأنَّهم اتّعبوا أنفسهم فحصلوا عكس ما تعبوا لأجله ) ذلك أنّ هؤلاء الّذين قتلوا أولادهم قد طلبوا نفع أنفسهم بالتخلّص من أضرارٍ في الدّنيا مُحْتَمَلٍ لحَاقُها بهم من جراء بَناتهم ، فوقعوا في أضرار محقّقة في الدّنيا وفي الآخرة ، فإنّ النّسل نعمة من الله على الوالدين يأنسون به ويجدونه لكفاية مهمّاتهم ، ونعمة على القبيلة تكثر وتعتزّ ، وعلى العالَم كلّه بكثرة من يعمره وبما ينتفع به النّاس من مواهب النّسل وصنائعه ، ونعمة على النّسل نفسِه بما يناله من نعيم الحياة وملذاتها . ولتلك الفوائد اقتضت حكمة الله إيجاد نظام التّناسل ، حفظاً للنّوع ، وتعميراً للعالم ، وإظهاراً لما في الإنسان من مواهبَ تنفعه وتنفع قومه ، على ما في عملهم من اعتداء على حقّ البنت الّذي جعله الله لها وهو حقّ الحياة إلى انقضاء الأجل المقدّر لها وهو حقّ فطري لا يملكه الأب فهو ظلم بيّن لرجاء صلاح لغير المظلوم ولا يُضَرّ بأحد ليَنتفع غيره . فلما قتل بعض العرب بناتِهم بالوأْد كانوا قد عطّلوا مصالحَ عظيمة محقّقة ، وارتكبوا به أضراراً حاصلة ، من حيث أرادوا التخلّص من أضرار طفيفة غير محقّقة الوقوع ، فلا جرم أن كانوا في فعلهم كالتّاجر الّذي أراد الرّبح فباء بضياع أصل ماله ، ولأجل ذلك سمَّى الله فعلهم : سفهاً ، لأنّ السّفه هو خفّة العقل واضطرابه ، وفعلهم ذلك سفه محض ، وأيُّ سفه أعظم من إضاعة مصالح جمّة وارتكاب أضرار عظيمة وجناية شنيعة ، لأجل التخلّص من أضرار طفيفة قد تحصُل وقد لا تحصل . وتعريف المسند إليه بالموصولية للإيماء إلى أنّ الصّلة علّة في الخبر فإنّ خسرانهم مسبّب عن قتل أولادهم .
وقوله : { سفهاً } منصوب على المفعول المطلق المبين لنوع القتل : أنّه قتلُ سفه لا رأي لصاحبه ، بخلاف قتل العَدوّ وقتْل القاتل ، ويجوز أن ينتصب على الحال من { الذين قتلوا } ، وصفوا بالمصدر لأنّهم سفهاءُ بالغون أقصى السفه .
والباء في قوله : { بغير علم } للملابسة ، وهي في موضع الحال إمَّا منْ { سفهاً } فتكون حالاً مؤكّدة ، إذ السفه لا يكون إلاّ بغير علم ، وإمَّا من فاعل { قتلوا } ، فإنَّهم لمّا فعلوا القتل كانوا جاهلين بسفاهتهم وبشناعة فعلهم وبعاقبة ما قدّروا حصوله لهم من الضرّ ، إذ قد يحصل خلاف ما قدّروه ولو كانوا يزنون المصالح والمفاسد لما أقدموا على فعلتهم الفظيعة .
والمقصود من الإخبار عن كونه بغير علم ، بعد الإخبار عنه بأنّه سفَه . التّنبيه على أنَّهم فعلوا ذلك ظنّا منهم أنَّهم أصابوا فيما فعلوا ، وأنَّهم علموا كيف يَرأبُون ما في العالم من المفاسد ، وينظمون حياتهم أحسن نظام ، وهم في ذلك مغرورون بأنفسهم ، وجاهلون بأنَّهم يجهلون { الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدّنيا وهم يحسبون أنّهم يُحسنون صُنعا } [ الكهف : 104 ] . وتقدّم الكلام على الوأد آنفاً ، ويأتي في سورة الإسراء عند قوله : { ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق } [ الإسراء : 31 ] .
وقرأ الجمهور : { قَتَلوا أولادهم } بتخفيف التّاء وقرأه ابن عامر بتشديد التّاء لأنّه قتْل بشدّة ، وليست قراءة الجمهور مفيتة هذا المعنى ، لأنّ تسليط فعل القتل على الأولاد يفيد أنَّه قتل فظيع .
وقوله : { وحرموا ما رزقهم الله } نَعَى عليهم خسرانهم في أن حرّموا على أنفسهم بعض ما رزقهم الله ، فحُرِموا الانتفاع به ، وحَرَموا النّاس الانتفاع به ، وهذا شامل لجميع المشركين ، بخلاف الّذين قتلوا أولادهم . والموصول الّذي يراد به الجماعة يصحّ في العطف على صلته أن تكون الجمل المتعاطفة مع الصّلة موزّعة على طوائف تلك الجماعة كقوله تعالى : { إنّ الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النّبيين بغير حقّ ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من النّاس فبشّرهم بعذاب أليم } [ آل عمران : 21 ] .
وانتصب { افتراء } على المفعول المطلق ل { حرّموا } : لبيان نوع التّحريم بأنَّهم نسبوه لله كذباً .
وجملة { قد ضلوا } استئناف ابتدائي لزيادة النّداء على تحقّق ضلالهم .
والضّلال : خطأ الطّريق الموصِّل إلى المقصود ، فهم راموا البلوغ إلى مصالح دنيوية ، والتّقرب إلى الله وإلى شركائهم ، فوقعوا في المفاسد العظيمة ، وأبعدهم الله بذنوبهم ، فلذلك كانوا كمن رام الوصول فسلك طريقاً آخر .
وعَطْف { وما كانوا مهتدين } على { قد ضلوا } لقصد التّأكيد لمضمون جملة { ضلوا } لأنّ مضمون هذه الجملة ينفي ضدّ الجملة الأولى فتؤول إلى تقرير معناها .
والعرب إذا أكّدوا بمثل هذا قد يأتون به غير معطوف نظراً لمآل مُفاد الجملتين ، وأنَّهما باعتباره بمعنى واحد ، وذلك حقّ التّأكيد كما في قوله تعالى : { أموات غيرُ أحياء } [ النحل : 21 ] وقوله : { فذلك يومئذ يوم عسير على الكافرين غير يسير } [ المدثر : 9 ، 10 ] . وقول الأعشى :
إمَّا تَرَيْنَا حُفَاة لا نِعَالَ لنا
وقد يأتون به بالعطف وهو عطف صوري لأنَّه اعتداد بأنّ مفهوم الجملتين مختلف ، ولا اعتداد بمآلهما كما في قوله تعالى : { وأضلّ فرعون قومَه وما هَدى } [ طه : 79 ] وقوله : { قد ضللتُ إذنْ وما أنا من المهتدين } [ الأنعام : 56 ] وقول المتنبّي :
والبَيْنُ جارَ على ضُعفي وما عَدَلا
وكذلك جاء في هذه الآية ليفيد ، بالعطف ، أنَّهما خبران عن مساويهم .
و ( كان ) هنا في حكم الزائدة : لأنَّها زائدة معنى ، وإن كانت عاملة ، والمراد : وما هم بمهتدين ، فزيادة ( كان ) هنا لتحقيق النّفي مثلَ موقعها مع لام الجحود ، وليس المراد أنَّهم ما كانوا مهتدين قبل أن يقتلوا أولادهم ويُحرّموا ما رزقهم الله ، لأنّ هذا لا يتعلّق به غرض بليغ .
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: قد هلك هؤلاء المفترون على ربهم الكذب، العادلون به الأوثان والأصنام، الذين زيّن لم شركاؤهم قتل أولادهم، وتحريم ما حرّمت عليهم من أموالهم، فقتلوا طاعة لها أولادهم، وحرّموا ما أحلّ الله لهم وجعله لهم رزقا من أنعامهم سفها منهم، يقول: فعلوا ما فعلوا من ذلك جهالة منهم بما لهم وعليهم، ونقص عقول، وضعف أحلام منهم، وقلة فهم بعاجل ضرّه وآجل مكروهه من عظيم عقاب الله عليه لهم. "افْتِرَاءً على الله "يقول: تكذيبا على الله وتخرّصا عليه الباطل. "قَدْ ضَلّوا" يقول: قد تركوا محجة الحقّ في فعلهم ذلك، وزالوا عن سواء السبيل. وَما كانُوا مُهْتَدِينَ يقول: ولم يكن فاعلو ذلك على هدى واستقامة في أفعالهم التي كانوا يفعلون قبل ذلك، وَلا كانُوا مُهْتَدِينَ للصواب فيها ولا موفقين له...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
... والسفه: خفة الحلم بالعجلة إلى ما لا ينبغي أن يعجل إليه، وأصله الخفة. وضد السفيه: الحليم...
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
فسدت عليهم طريقة الثقة بالله فحملتهم خشيةُ الفقر على قتل الأولاد، ولذلك قال أهل التحقيق: من أمارات اليقين وحقائقه كثرة العيال على بساط التوكل...
أحكام القرآن لإلكيا الهراسي 504 هـ :
أراد به: قتلوهم سفهاً خوف الإملاق، وحجروا على أنفسهم في أموالهم، ولم يحسوا فيه الإملاق، فأبان عن تناقض آرائهم...
في الآية مسائل: المسألة الأولى: أنه تعالى ذكر فيما تقدم قتلهم أولادهم وتحريمهم ما رزقهم الله. ثم إنه تعالى جمع هذين الأمرين في هذه الآية وبين ما لزمهم على هذا الحكم، وهو الخسران والسفاهة، وعدم العلم، وتحريم ما رزقهم الله، والافتراء على الله، والضلال وعدم الاهتداء، فهذه أمور سبعة وكل واحد منها سبب تام في حصول الذم...
أما الأول: وهو الخسران، وذلك لأن الولد نعمة عظيمة من الله على العبد، فإذا سعى في إبطاله، فقد خسر خسرانا عظيما لا سيما ويستحق على ذلك الإبطال الذم العظيم في الدنيا، والعقاب العظيم في الآخرة؛ أما الذم في الدنيا فلأن الناس يقولون قتل ولده خوفا من أن يأكل طعامه وليس في الدنيا ذم أشد منه، وأما العقاب في الآخرة، فلأن قرابة الولادة أعظم موجبات المحبة فمع حصولها إذا أقدم على إلحاق أعظم المضار به كان ذلك أعظم أنواع الذنوب، فكان موجبا لأعظم أنواع العقاب.
والنوع الثاني: السفاهة وهي عبارة عن الخفة المذمومة، وذلك لأن قتل الولد إنما يكون للخوف من الفقر، والفقر وإن كان ضررا إلا أن القتل أعظم منه ضررا، وأيضا فهذا القتل ناجز وذلك الفقر موهوم فالتزام أعظم المضار على سبيل القطع حذرا من ضرر قليل موهوم، لا شك أنه سفاهة.
والنوع الثالث: قوله: {بغير علم} فالمقصود أن هذه السفاهة إنما تولدت من عدم العلم ولا شك أن الجهل أعظم المنكرات والقبائح. والنوع الرابع: تحريم ما أحل الله لهم، وهو أيضا من أعظم أنواع الحماقة، لأنه يمنع نفسه تلك المنافع والطيبات، ويستوجب بسبب ذلك المنع أعظم أنواع العذاب والعقاب. والنوع الخامس: الافتراء على الله، ومعلوم أن الجراءة على الله، والافتراء عليه أعظم الذنوب وأكبر الكبائر.
والنوع السادس: الضلال عن الرشد في مصالح الدين ومنافع الدنيا. والنوع السابع: أنهم ما كانوا مهتدين، والفائدة فيه أنه قد يضل الإنسان عن الحق إلا أن يعود إلى الاهتداء، فبين تعالى أنهم قد ضلوا ولم يحصل لهم الاهتداء قط.
فثبت أنه تعالى ذم الموصوفين بقتل الأولاد وتحريم ما أحله الله تعالى لهم بهذه الصفات السبعة الموجبة لأعظم أنواع الذم، وذلك نهاية المبالغة...
تفسير القرآن العظيم لابن كثير 774 هـ :
قد خسر الذين فعلوا هذه الأفعال في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فخسروا أولادهم بقتلهم، وضيقوا عليهم في أموالهم، فحرموا أشياء ابتدعوها من تلقاء أنفسهم، وأما في الآخرة فيصيرون إلى شر المنازل بكذبهم على الله وافترائهم،...
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
وإن الإنسان ليعجب، وهو يستعرض مع السياق القرآني هذه الضلالات، وما تحمله أصحابها من أعباء وخسائر وتضحيات.. يعجب لتكاليف الانحراف عن شرع الله ونهجه، تلك التي يتحملها المنحرفون عن صراط الله المستقيم. ولأثقال الخرافة والغموض والوهم التي يتبعها الضالون. ولأغلال العقيدة الفاسدة في المجتمع والضمير.. نعم يعجب للعقيدة المنحرفة تكلف الناس حتى فلذات أكبادهم، فوق ما تكلفهم من تعقيد الحياة واضطرابها، والسير فيها بلا ضابط، سوى الوهم والهوى والتقليد. وأمامهم التوحيد البسيط الواضح؛ يطلق الضمير البشري من أوهام الوهم والخرافة؛ ويطلق العقل البشري من عقال التقليد الأعمى؛ ويطلق المجتمع البشري من الجاهلية وتكاليفها؛ ويطلق "الإنسان "من العبودية للعبيد -سواء فيما يشترعونه من قوانين، وما يصنعونه من قيم وموازين- ويحل محل هذا كله عقيدة واضحة مفهومة مضبوطة، وتصورا واضحا ميسرا مريحا، ورؤية لحقائق الوجود والحياة كاملة عميقة، وانطلاقا من العبودية للعبيد، وارتفاعا إلى مقام العبودية لله وحده.. المقام الذي لا يرتقي إلى أعلى درجاته إلا الأنبياء! ألا إنها الخسارة الفادحة -هنا في الدنيا قبل الآخرة- حين تنحرف البشرية عن صراط الله المستقيم؛ وتتردى في حمأة الجاهلية؛ وترجع إلى العبودية الذليلة لأرباب من العبيد: (قد خسر الذين قتلوا أولادهم -سفها بغير علم- وحرموا ما رزقهم الله -افتراء على الله- قد ضلوا وما كانوا مهتدين).. خسروا الخسارة المطلقة. خسروا في الدنيا والآخرة. خسروا أنفسهم وخسروا أولادهم. خسروا عقولهم وخسروا أرواحهم. خسروا الكرامة التي جعلها الله لهم بإطلاقهم من العبودية لغيره؛ وأسلموا أنفسهم لربوبية العبيد؛ حين أسلموها لحاكمية العبيد! وقبل ذلك كله خسروا الهدى بخسارة العقيدة، خسروا الخسارة المؤكدة، وضلوا الضلال الذي لا هداية فيه: (قد ضلوا وما كانوا مهتدين)...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
ووصف فعلهم بالخسران لأنّ حقيقة الخسران نقصان مال التّاجر، والتّاجر قاصد الرّبح وهو الزّيادة، فإذا خسر فقد باء بعكس ما عَمِل لأجلِه، ولذلك كثر في القرآن استعارة الخسران لعمل الّذين يعملون طلباً لمرضاة الله وثوابه فيقعون في غضبه وعقابه، لأنَّهم اتّعبوا أنفسهم فحصلوا عكس ما تعبوا لأجله، ذلك أنّ هؤلاء الّذين قتلوا أولادهم قد طلبوا نفع أنفسهم بالتخلّص من أضرارٍ في الدّنيا مُحْتَمَلٍ لحَاقُها بهم من جراء بَناتهم، فوقعوا في أضرار محقّقة في الدّنيا وفي الآخرة، فإنّ النّسل نعمة من الله على الوالدين يأنسون به ويجدونه لكفاية مهمّاتهم، ونعمة على القبيلة تكثر وتعتزّ، وعلى العالَم كلّه بكثرة من يعمره وبما ينتفع به النّاس من مواهب النّسل وصنائعه، ونعمة على النّسل نفسِه بما يناله من نعيم الحياة وملذاتها. ولتلك الفوائد اقتضت حكمة الله إيجاد نظام التّناسل، حفظاً للنّوع، وتعميراً للعالم، وإظهاراً لما في الإنسان من مواهبَ تنفعه وتنفع قومه، على ما في عملهم من اعتداء على حقّ البنت الّذي جعله الله لها وهو حقّ الحياة إلى انقضاء الأجل المقدّر لها وهو حقّ فطري لا يملكه الأب فهو ظلم بيّن لرجاء صلاح لغير المظلوم ولا يُضَرّ بأحد ليَنتفع غيره. فلما قتل بعض العرب بناتِهم بالوأْد كانوا قد عطّلوا مصالحَ عظيمة محقّقة، وارتكبوا به أضراراً حاصلة، من حيث أرادوا التخلّص من أضرار طفيفة غير محقّقة الوقوع، فلا جرم أن كانوا في فعلهم كالتّاجر الّذي أراد الرّبح فباء بضياع أصل ماله، ولأجل ذلك سمَّى الله فعلهم: سفهاً، لأنّ السّفه هو خفّة العقل واضطرابه، وفعلهم ذلك سفه محض، وأيُّ سفه أعظم من إضاعة مصالح جمّة وارتكاب أضرار عظيمة وجناية شنيعة، لأجل التخلّص من أضرار طفيفة قد تحصُل وقد لا تحصل. وتعريف المسند إليه بالموصولية للإيماء إلى أنّ الصّلة علّة في الخبر فإنّ خسرانهم مسبّب عن قتل أولادهم...
والمقصود من الإخبار عن كونه بغير علم، بعد الإخبار عنه بأنّه سفَه التّنبيه على أنَّهم فعلوا ذلك ظنّا منهم أنَّهم أصابوا فيما فعلوا، وأنَّهم علموا كيف يَرأبُون ما في العالم من المفاسد، وينظمون حياتهم أحسن نظام، وهم في ذلك مغرورون بأنفسهم، وجاهلون بأنَّهم يجهلون {الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدّنيا وهم يحسبون أنّهم يُحسنون صُنعا} [الكهف: 104]...
والضّلال: خطأ الطّريق الموصِّل إلى المقصود، فهم راموا البلوغ إلى مصالح دنيوية، والتّقرب إلى الله وإلى شركائهم، فوقعوا في المفاسد العظيمة، وأبعدهم الله بذنوبهم، فلذلك كانوا كمن رام الوصول فسلك طريقاً آخر...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
فقد فعلوا ذلك خوفاً من الفقر وهرباً من العار، من دون تفكير بأن الله الذي تكفّل بأرزاقهم قد تكفّل بأرزاق أولادهم، وأنّ العار ليس أمراً حقيقياً، لأن قضية سبي البنات أو الاعتداء عليهن لا يمثل عاراً على الأهل من خلال دراسة مسألة الشرف والعار في ميزانهما الواقعي، لا سيما إذا لم تكن المسألة باختيارهنّ أي البنات بل خضوعاً للقوة القاهرة التي لا يتحمل الإنسان مسؤولية ما يحصل له من خلل في فعله من خلالها، ولهذا كان القتل الذي يمثل رد الفعل على هذا الوهم الكبير الذي يعيشونه، حركة جهل بالميزان الذي لا بد للإنسان من أن يلتزمه في تقدير الأمور، لا سيما في ما يقبلون عليه من عذاب الله...