جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلۡجِنِّ فَفَسَقَ عَنۡ أَمۡرِ رَبِّهِۦٓۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُۥ وَذُرِّيَّتَهُۥٓ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمۡ لَكُمۡ عَدُوُّۢۚ بِئۡسَ لِلظَّـٰلِمِينَ بَدَلٗا} (50)

القول في تأويل قوله تعالى : { وَإِذَا قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لاَدَمَ فَسَجَدُوَاْ إِلاّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ أَفَتَتّخِذُونَهُ وَذُرّيّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوّ بِئْسَ لِلظّالِمِينَ بَدَلاً } .

يقول تعالى ذكره مذكّرا هؤلاء المشركين حسد إبليس أباهم ومعلمهم ما كان منه من كبره واستكباره عليه حين أمره بالسجود له ، وأنه من العداوة والحسد لهم على مثل الذي كان عليه لأبيهم : وَ اذكر يا محمد إذْ قُلْنا للْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لاَدَمَ فَسَجَدُوا إلاّ إبْلِيسَ الذي يطيعه هؤلاء المشركون ويتبعون أمره ، ويخالفون أمر الله ، فإنه لم يسجد له استكبارا على الله ، وحسدا لاَدم كانَ مِنَ الجِنّ .

واختلف أهل التأويل في معنى قوله كانَ مِنَ الجِنّ فقال بعضهم : إنه كان من قبيلة يقال لهم الجنّ . وقال آخرون : بل كان من خزّان الجنة ، فنُسب إلى الجنة . وقال آخرون : بل قيل من الجنّ ، لأنه من الجنّ الذين استجنوا عن أعين بني آدم . ذكر من قال ذلك :

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا سلمة ، عن ابن إسحاق ، عن خلاد بن عطاء ، عن طاوس ، عن ابن عباس قال : كان اسمه قبل أن يركب المعصية عزازيل ، وكان من سكان الأرض ، وكان من أشدّ الملائكة اجتهادا وأكثرهم علما ، فذلك هو الذي دعاه إلى الكبر ، وكان من حيّ يسمى جنا .

حدثنا أبو كريب ، قال : حدثنا عثمان بن سعيد ، عن بشر بن عمارة ، عن أبي روق ، عن الضحاك ، عن ابن عباس ، قال : كان إبليس من حيّ من أحياء الملائكة يقال لهم الجنّ ، خُلقوا من نار السموم من بين الملائكة ، وكان اسمه الحارث . قال : وكان خازنا من خزّان الجنة . قال : وخُلقت الملائكة من نور غير هذ الحيّ . قال : وخُلقت الجنّ الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار ، وهو لسان النار الذي يكون في طرفها إذا التهبت .

حدثنا ابن المثنى ، قال : ثني شيبان ، قال : حدثنا سلام بن مسكين ، عن قتادة ، عن سعيد بن المسيب ، قال : كان إبليس رئيس ملائكة سماء الدنيا .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا أبي عن الأعمش ، عن حبيب بن أبي ثابت ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس ، في قوله : إلاّ إبْلِيسَ كانَ مِنَ الجِن قال : كان إبليس من خزّان الجنة ، وكان يدبر أمر سماء الدنيا .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، قال : قال ابن عباس : كان إبليس من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة . وكان خازنا على الجنان ، وكان له سلطان السماء الدنيا ، وكان له سلطان الأرض ، وكان فيما قضى الله أنه رأى أن له بذلك شرفا وعظمة على أهل السماء ، فوقع من ذلك في قلبه كبر لا يعلمه إلا الله فما كان عند السجود حين أمره أن يسجد لاَدم استخرج الله كبره عند السجود ، فلعنه وأخّره إلى يوم الدين . قال : قال ابن عباس : وقوله : كانَ مِنَ الجِنّ إنما سمي بالجنان أنه كان خازنا عليها ، كما يقال للرجل : مكيّ ، ومدنيّ ، وكوفيّ ، وبصريّ ، قاله ابن جريج .

وقال آخرون : هم سبط من الملائكة قبيلة ، وكان اسم قبيلته الجنّ :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن صالح مولى التوأمة ، وشريك بن أبي نمر أحدهما أو كلاهما ، عن ابن عباس ، قال : إن من الملائكة قبيلة من الجنّ ، وكان إبليس منها ، وكان يسوس ما بين السماء والأرض ، فعصى ، فسخط الله عليه فمسخه شيطانا رجيما ، لعنه الله ممسوخا . قال : وإذا كانت خطيئة الرجل في كبر فلا ترجه ، وإذا كانت خطيئته في معصية فارجه ، وكانت خطيئة آدم في معصية ، وخطيئة إبليس في كبر .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة ، قوله : وَإذْ قُلْنا للْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لاَدَمَ فَسَجَدُوا إلاّ إبْلِيسَ كانَ مِنَ الجِنّ قبيل من الملائكة يقال لهم الجنّ . وقال ابن عباس : لو لم يكن من الملائكة لم يؤمر بالسجود ، وكان على خزانة السماء الدنيا . قال : وكان قتادة يقول : جنّ عن طاعة ربه . وكان الحسن يقول : ألجأه الله إلى نسبه .

حدثنا الحسن بن يحيى ، قال : أخبرنا عبد الرزاق ، قال : أخبرنا معمر ، عن قتادة ، في قوله إلاّ إبْلِيسَ كانَ مِنَ الجِنّ قال : كان من قبيل من الملائكة يقال لهم الجنّ .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن عوف ، عن الحسن ، قال : ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط ، وإنه لأصل الجنّ ، كما أن آدم عليه السلام أصل الإنس .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول : كان إبليس على السماء الدنيا وعلى الأرض وخازن الجنان .

حُدثت عن الحسين بن الفرج ، قال : سمعت أبا معاذ يقول : أخبرنا عبيد ، قال : سمعت الضحاك يقول في قوله : فَسَجَدُوا إلاّ إبْلِيسَ كانَ مِنَ الجِنّ : كان ابن عباس يقول : إن إبليس كان من أشراف الملائكة وأكرمهم قبيلة ، وكان خازنا على الجنان ، وكان له سلطان السماء الدنيا وسلطان الأرض ، وكان مما سوّلت له نفسه من قضاء الله أنه رأى أن له بذلك شرفا على أهل السماء ، فوقع من ذلك في قلبه كبر لا يعلمه إلا الله ، فاستخرج الله ذلك الكبر منه حين أمره بالسجود لاَدم ، فاستكبر وكان من الكافرين ، فذلك قوله للملائكة : إنّي أعْلَمُ غَيْبَ السّمَوَاتِ والأرْضِ وأعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَما كُنْتُم تَكْتُمُونَ يعني : ما أسرّ إبليس في نفسه من الكبر .

وقوله : كانَ مِنَ الجِنّ كان ابن عباس يقول : قال الله كانَ مِنَ الجِنّ لأنه كان خازنا على الجنان ، كما يقال للرجل : مكيّ ، ومدني ، وبصريّ ، وكوفيّ .

وقال آخرون : كان اسم قبيلة إبليس الجنّ ، وهم سبط من الملائكة يقال لهم الجنّ ، فلذلك قال الله عزّ وجلّ كانَ مِنَ الجِنّ فنسبه إلى قبيلته .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يعقوب ، عن جعفر ، عن سعيد ، في قوله كانَ مِنَ الجِنّ قال : من الجنانين الذين يعملون في الجنان .

حدثنا ابن حميد ، قال : حدثنا يحيى بن واضح ، قال : حدثنا أبو سعيد اليحمدي إسماعيل بن إبراهيم ، قال : ثني سوار بن الجعد اليحمدي ، عن شهر بن حوشب ، قوله : مِنَ الجنّ قال : كان إبليس من الجنّ الذين طردتهم الملائكة ، فأسره بعض الملائكة ، فذهب به إلى السماء .

حدثني محمد بن سعد ، قال : ثني أبي ، قال : ثني عمي ، قال : ثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس ، قوله إلاّ إبْليسَ كانَ مِنَ الجِنّ فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبّهِ قال : كان خازن الجنان فسمي بالجنان .

حدثني نصر بن عبد الرحمن الأودي ، قال : حدثنا أحمد بن بشير ، عن سفيان بن أبي المقدام ، عن سعيد بن جبير ، قال : كان إبليس من خزنة الجنة .

وقد بيّنا

القول في ذلك فيما مضى من كتابنا هذا ، وذكرنا اختلاف المختلفين فيه ، فأغنى ذلك عن إعادته في هذا الموضع .

وقوله : فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبّهِ يقول : فخرج عن أمر ربه ، وعدل عنه ومال ، كما قال رؤبة :

يَهْوِينَ فِي نَجْدٍ وغَوْرا غائرَا *** فَوَاسقا عَنْ قَصْدِها جَوَائِرَا

يعني بالفواسق : الإبل المنعدلة عن قصد نجد ، وكذلك الفسق في الدين إنما هو الانعدال عن القصد ، والميل عن الاستقامة . ويُحكى عن العرب سماعا : فسقت الرطبة من قشرها : إذا خرجت منه ، وفسقت الفأرة : إذا خرجت من جحرها . وكان بعض أهل العربية من أهل البصرة يقول : إنما قيل : فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبّهِ لأنه مراد به : ففسق عن ردّه أمر الله ، كما تقول العرب : اتخمت عن الطعام ، بمعنى : اتخمت لما أكلته . وقد بيّنا

القول في ذلك ، وأن معناه : عدل وجار عن أمر الله ، وخرج عنه . وقال بعض أهل العلم بكلام العرب : معنى الفسق : الاتساع . وزعم أن العرب تقول : فسق في النفقة : بمعنى اتسع فيها . قال : وإنما سمى الفاسق فاسقا ، لاتساعه في محارم الله . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى «ح » وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، في قول الله تعالى فَفَسَقَ عَنْ أمْرِ رَبّهِ قال : في السجود لاَدم .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد ، في قوله فَفَسَق عَنْ أمْرِ رَبّهِ قال : عصى في السجود لاَدم .

وقوله : أفَتَتّخِذُونَهُ وَذُرّيّتَهُ أوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوّ يقول تعالى ذكره : أفتوالون يا بني آدم من استكبر على أبيكم وحسده ، وكفر نعمتي عليه ، وغرّه حتى أخرجه من الجنة ونعيم عيشه فيها إلى الأرض وضيق العيش فيها ، وتطيعونه وذرّيته من دون الله مع عدواته لكم قديما وحديثا ، وتتركون طاعة ربكم الذي أنعم عليكم وأكرمكم ، بأن أسجد لوالدكم ملائكته ، وأسكنه جناته ، وآتاكم من فواضل نعمه ما لا يحصى عدده ، وذرّية إبليس : الشياطين الذين يغرّون بني آدم . كما :

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، عن ابن جريج ، عن مجاهد أفَتَتّخِذونَه وَذُرّيّتهُ أوْلِياءَ مِنْ دُونِي قال : ذرّيته : هم الشياطين ، وكان يعدّهم «زلنبوا » صاحب الأسواق ويضع رايته في كلّ سوق ما بين السماء والأرض ، و«ثبر » صاحب المصائب ، و«الأعور » صاحب الزنا و«مسوط » صاحب الأخبار ، يأتي بها فيلقيها في أفواه الناس ، ولا يجدون لها أصلاً ، و«داسم » الذي إذا دخل الرجل بيته ولم يسلم ولم يذكر الله بصره من المتاع ما لم يرفع ، وإذا أكل ولم يذكر اسم الله أكل معه .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني حجاج ، قال : حدثنا حفص بن غياث ، قال : سمعت الأعمش يقول : إذا دخلتُ البيت ولم أسلم ، رأيت مطهرة ، فقلت : ارفعوا ارفعوا ، وخاصمتهم ، ثم أذكر فأقول : داسم داسم .

حدثنا القاسم ، قال : حدثنا الحسين ، قال : ثني أبو معاوية ، عن الأعمش ، عن مجاهد ، قال : هم أربعة ثبر ، وداسم ، وزلنبور ، والأعور ، ومسوط : أحدها .

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة أفَتَتّخِذُونَهُ وَذُرّيّتَهُ أوْلِياءَ مِنْ دُونِي . . . الاَية ، وهم يتوالدون كما تتوالد بنو آدم ، وهم لكم عدوّ .

حدثني يونس ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : قال ابن زيد ، في قوله : أفَتَتّخِذُونَهُ وَذُرّيّتَهُ أوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوّ وهو أبو الجنّ كما آدم أبو الإنس . وقال : قال الله لإبليس : إني لا أذرأ لاَدم ذرّية إلا ذرأت لك مثلها ، فليس من ولد آدم أحد إلا له شيطان قد قرن به .

وقوله : بِئْسَ للظّالِمينَ بَدَلاً يقول عزّ ذكره : بئس البدل للكافرين بالله اتخاذ إبليس وذرّيته أولياء من دون الله ، وهم لكم عدّو من تركهم اتخاذ الله وليا باتباعهم أمره ونهيه ، وهو المنعم عليهم وعلى أبيهم آدم من قبلهم ، المتفضّل عليهم من الفواضل ما لا يحصى بدلاً . وبنحو الذي قلنا في ذلك ، قال أهل التأويل . ذكر من قال ذلك :

حدثنا بشر ، قال : حدثنا يزيد ، قال : حدثنا سعيد ، عن قتادة بِئْسَ للظّالِمِينَ بَدَلاً بئْسما استبدلوا بعبادة ربهم إذ أطاعوا إبليس .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلۡجِنِّ فَفَسَقَ عَنۡ أَمۡرِ رَبِّهِۦٓۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُۥ وَذُرِّيَّتَهُۥٓ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمۡ لَكُمۡ عَدُوُّۢۚ بِئۡسَ لِلظَّـٰلِمِينَ بَدَلٗا} (50)

{ وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس } كرره في مواضع لكونه مقدمة للأمور المقصود بيانها في تلك المحال ، وها هنا لما شنع على المفتخرين واستقبح صنيعهم قرر ذلك بأنه من سنن إبليس ، أو لما بين حال المغرور بالدنيا والمعرض عنها وكان سبب الاغترار بها حب الشهوات وتسويل الشيطان . زهدهم أولا في زخارف الدنيا بأنها عرضة الزوال والأعمال الصالحة خير وأبقى من أنفسها وأعلاها ، ثم نفرهم عن الشيطان بتذكير ما بينهم من العداوة القديمة وهكذا مذهب كل تكرير في القرآن . { كان من الجنّ } حال بإضمار قد أو استئناف للتعليل كأنه قيل : ما له لم يسجد فقيل كان من الجن . { ففسق عن أمر ربه } فخرج عن أمره بترك السجود والفاء للسبب ، وفيه دليل على أن الملك لا يعصى البتة وإنما عصى إبليس لأنه كان جنياً في أصله والكلام المستقصى فيه في سورة " البقرة " . { أفتتخذونه } أعقيب ما وجد منه تتخذونه والهمزة للإنكار والتعجب . { وذرّيته } أولاده أو أتباعه ، وسماهم ذرية مجازاً . { أولياء من دوني } فتستبدلونهم بي فتطيعونهم بدل طاعتي . { وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلاً } من الله تعالى إبليس وذريته .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلۡجِنِّ فَفَسَقَ عَنۡ أَمۡرِ رَبِّهِۦٓۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُۥ وَذُرِّيَّتَهُۥٓ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمۡ لَكُمۡ عَدُوُّۢۚ بِئۡسَ لِلظَّـٰلِمِينَ بَدَلٗا} (50)

وقوله تعالى : { وإذ قلنا للملائكة } الآية ، هذه الآية مضمنها تقريع الكفرة وتوقيفهم على خطاياهم في ولايتهم العدو دون الذي أنعم بكل نعمه على العموم ، صغيرها وكبيرها ، وتقدير الكلام : واذكر إذ قلنا ، وتكررت هذه العبارة حيث تكررت هذه القصة ، إذ هي توطئة النازلة فأما ذكر النازلة هنا فمقدمة للتوبيخ ، وذكرها في البقرة إعلام بمبادىء الأمور ، واختلف المتأولون في السجود لآدم فقالت فرقة هو السجود المعروف ، ووضع الوجه بالأرض ، جعله الله تعالى من الملائكة عبادة له وتكرمة لآدم ، فهذا كالصلاة للكعبة ، وقالت فرقة بل كان إيماء منهم نحو الأرض ، وذلك يسمى سجوداً لأن السجود في كلام العرب عبارة عن غاية التواضع ، ومنه قول الشاعر : [ الطويل ]

ترى الأكم فيه سجداً للحوافر{[7824]} . . . وهذا جائز أن يكلفه قوم ، فمنه قول النبي صلى الله عليه وسلم «قوموا إلى سيدكم »{[7825]} ، ومنه تقبيل أبي عبيدة بن الجراح يد عمر بن الخطاب حين تلقاه في سفرته إلى الشام ، ذكره سعيد بن منصور في مصنفه ، وقوله { إلا إبليس } قالت فرقة هو استثناء منقطع ، لأن { إبليس } ليس من الملائكة ، بل هو من الجن ، وهم الشياطين المخلوقين من مارج من نار ، وجميع الملائكة إنما خلقوا من نور ، واختلفت هذه الفرقة فقال بعضها إبليس من الجن ، وهو أولهم ، وبدءتهم ، كآدم من الإنس ، وقالت فرقة بل كان إبليس وقبيله جناً ، لكن جميع الشياطين اليوم من ذريته ، فهو كنوح في الإنس ، احتجوا بهذه الآية ، وتعنيف { إبليس } على عصيانه يقتضي أنه أمر مع الملائكة ، وقالت فرقة إن الاستثناء متصل ، وإبليس من قبيل الملائكة خلقوا من نار ، فإبليس من الملائكة وعبر عن الملائكة بالجن من حيث هم مستترون ، فهي صفة تعم الملائكة والشياطين ، وقال بعض هذه الفرقة كان في الملائكة صنف يسمى الجن وكانوا في السماء الدنيا وفي الأرض ، وكان إبليس مدبر أمرهم ولا خلاف أن إبليس كان من الملائكة في المعنى ، إذ كان متصرفاً بالأمر والنهي ، مرسلاً ، والملك مشتق من المالكة ، وهي الرسالة{[7826]} ، فهو في عداد الملائكة يتناوله قول { اسجدوا } وفي سورة البقرة وسورة الأعراف استيعاب هذه الأمور ، وقوله { ففسق } معناه فخرج وانتزح ، وقال رؤبة : [ الرجز ]

تهوين في نجد وغوراً غائراً . . . فواسقاً عن قصدها جوائرا{[7827]}

ومنه قال فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرها ، وفسقت النواة إذا خرجت عن الثمرة ، وفسقت الفأرة إذا خرجت من جحرها ، وجميع هذا الخروج المستعمل في هذه الأمثلة ، إنما هو في فساد ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم «خمس فواسق يقتلن في الحرم{[7828]} إنما هن مفسدات » وقوله { عن أمر ربه } يحتمل أن يريد خرج عن أمر ربه إياه ، أي فارقه كما فعل الخارج عن طريق واحد ، أي منه ، ويحتمل أن يريد فخرج عن الطاعة بعد أمر ربه بها ، و { عن } قد تجيء بمعنى بعد في مواضع كثيرة ، كقولك أطعمتني عن جوع ، ونحوه ، فكأن المعنى : فسق بعد أمر ربه بأن يطيع ويحتمل أن يريد فخرج بأمر ربه أي بمشيئته ذلك له ويعبر عن المشيئة ب «الأمر » ، إذ هي أحد الأمور ، وهذا كما تقول فعلت ذلك عن أمرك أي بجدك وبحسب مرادك ، وقال ابن عباس في قصص هذه الآية : كان إبليس من أشرف صنف ، وكان له سلطان السماء وسلطان الأرض ، فلما عصى صارت حاله إلى ما تسمعون ، وقال بعض العلماء إذا كانت خطيئة المرء من الخطأ فلترجه ، كآدم ، وإذا كانت من الكبر ، فلا ترجه ، كإبليس ، ثم وقف عز وجل الكفرة على جهة التوبيخ بقوله { أفتتخذونه } يريد أفتتخذون إبليس ، وقوله { وذريته } ظاهر اللفظ يقتضي الموسوسين من الشياطين الذين يأمرون بالمنكر ويحملون على الأباطيل ، وذكر الطبري أن مجاهداً قال : ذرية إبليس الشيطان ، وكان يعدهم : زلنبور صاحب الأسواق ، يضع رايته في كل سوق ، وتبن{[7829]} صاحب المصائب ، والأعور صاحب الربا ، ومسوط صاحب الأخبار ، يأتي بها فيلقيها في أفواه الناس ، ولا يجدون لها أصلاً ، وداسم الذي إذا دخل الرجل بيته فلم يسلم ولم يذكر اسم الله بصره من المتاع ما لم يرفع .

قال القاضي أبو محمد : وهذا وما جانسه مما لم يأت به سند صحيح فلذلك اختصرته ، وقد طول النقاش في هذا المعنى ، وجلب حكايات تبعد من الصحة ، فتركتها إيجازاً ، ولم يمر بي في هذا صحيح إلا ما في كتاب مسلم من أن للوضوء{[7830]} والوسوسة شيطاناً يسمى خنزت ، وذكر الترمذي أن للوضوء شيطاناً يسمى الولهان والله العليم بتفاصيل هذه الأمور لا رب غيره ، وقوله { وهم لكم عدو } أي أعداء ، فهو اسم جنس ، وقوله { بئس للظالمين بدلاً } أي بدل ولاية لله عز وجل بولاية إبليس وذريته ، وذلك هو التعوض من الجن بالباطل ، وهذا هو نفس الظلم ، لأنه وضع الشيء في غير موضعه .


[7824]:هذا عجز بيت قاله زيد الخيل بن مهلهمل. وهو في اللسان (سجد)، وفي الطبري ، والبيت بتمامه: بجمع تضل البلق في حجراته ترى الأكم فيها سجدا للحوافر والبلق: سواد وبياض في اللون، والحجرات: الجوانب والنواحي، والأكم: جمع أكمة (جمع الجمع) . وهي التل، أو المكان المرتفع، والسجود: الخضوع، وهو موضع الشاهد هنا. هذا وكان زيد الخيل قد أسلم وسماه الرسول صلى الله عليه وسلم "زيد الخير"، ثم مات عقب وفادته على النبي صلى الله عليه وسلم.
[7825]:أخرجه البخاري في العتق والاستئذان، وأبو داود في الأدب، وأحمد في مسنده (3ـ22)، ولفظه كما في المسند: عن أبي سعيد الخدري، قال: نزل أهل قريظة على حكم سعد بن معاذ، قال: فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد فأتاه على حمار، قال: فلما دنا قريبا من المسجد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (قوموا إلى سيدكم أو خيركم)، ثم قال: (إن هؤلاء نزلوا على حكمك)، قال: تقتل مقاتلتهم، وتسبى ذراريهم، قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لقد قضيت بحكم الله)، وربما قال: (قضيت بحكم الملك).
[7826]:قال أبو عبيدة: "هو من لأك إذا أرسل، والألوكة والمألكة والمألكة: الرسالة. قال الشاعرـ عدي بن زيد ـ: أبلغ النعمان عني مألكـــــــــــا إنني قد طال حبسي وانتظاري
[7827]:هذان بيتان من مشطور الرجز من الأبيات المتفرقة المنسوبة إلى رؤبة، وهما في آخر ديوانه، ومعهما بيت ثالث، نصه: يسلكن في نجد وغورا غائرا هكذا كالبيت الأول فيما عدا الكلمة الأولى، والنجد: الأرض المرتفعة، والغور: الأرض المنخفضة، والقصد: الهدف والغرض، وجار عن القصد: مال عنه وحاد وعدل. والفواسق: جمع فاسق، وهو الذي خرج عن قصده السليم، وهو موضع الشاهد هنا.
[7828]:أخرجه البخاري في الصيد وبدء الخلق، ومسلم والترمذي في الحج، والنسائي في المناسك، وأحمد في المسند (1ـ257، 6ـ164، 259)، ولفظه كما في المسند، عن ابن عباس رضي الله عنهما، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: (خمس كلهن فاسقة، يقتلهن المحرم، ويقتلن في الحرم)، وفي رواية من طريق الليث عن طاوس حدد رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الخمسى، وهي (الفأرة، والعقرب، والحية ، والكلب العقور، والغراب).
[7829]:هكذا في الأصول، والذي وجدناه في الطبري والقرطبي هو "ثبر" بالراء، وعلى كل فجميع هذه الأسماء موضع تحريف، وما أصدق ابن عطية حين أعرض عن ذكر الكثير مما نراه عند غيره من المفسرين، وقال: "وهذا وما جانسه مما لم يأت به خبر صحيح".
[7830]:في بعض النسخ: "من أن للصلاة".
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَإِذۡ قُلۡنَا لِلۡمَلَـٰٓئِكَةِ ٱسۡجُدُواْ لِأٓدَمَ فَسَجَدُوٓاْ إِلَّآ إِبۡلِيسَ كَانَ مِنَ ٱلۡجِنِّ فَفَسَقَ عَنۡ أَمۡرِ رَبِّهِۦٓۗ أَفَتَتَّخِذُونَهُۥ وَذُرِّيَّتَهُۥٓ أَوۡلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمۡ لَكُمۡ عَدُوُّۢۚ بِئۡسَ لِلظَّـٰلِمِينَ بَدَلٗا} (50)

عطف على جملة { ويوم نسير الجيال } [ الكهف : 47 ] بتقدير : واذكر إذ قلنا للملائكة ، تفننا لغرض الموعظة الذي سيقت له هذه الجمل ، وهو التذكير بعواقب اتباع الهوى والأعراضُ عن الصالحات ، وبمداحض الكبرياء والعُجب واحتقار الفضيلة والابتهاج بالأعراض التي لا تكسب أصحابها كمالاً نفسياً . وكما وُعظوا بآخر أيام الدنيا ذُكروا هنا بالموعظة بأول أيامها وهو يوم خلق آدم ، وهذا أيضاً تمهيد وتوطئة لقوله : { ويوم يقول نادوا شركائي الذين زعمتم } الآية [ الكهف : 52 ] ، فإن الإشراك كان من غرور الشيطان ببني آدم .

ولها أيضاً مناسبة بما تقدم من الآيات التي أنحت على الذين افتخروا بجاههم وأموالهم واحتقروا فقراء أهل الإسلام ولم يميزوا بين الكمال الحق والغرور الباطل ، كما أشار إليه قوله تعالى : { واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي } [ الكهف : 28 ] ، فكان في قصة إبليس نحو آدم مَثل لهم ، ولأن في هذه القصة تذكيراً بأن الشيطان هو أصل الضلال ، وأن خسران الخاسرين يوم القيامة آيل إلى اتباعهم خُطواتِ الشيطان وأوليائه . ولهذا فرع على الأمرين قوله تعالى : { أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو } .

وهذه القصة تكررت في مواضع كثيرة من القرآن ، وهي في كل موضع تشتمل على شيء لم تشتمل عليه في الآخر ، ولها في كل موضع ذُكرت فيه عبرة تخالف عِبرة غيره ، فذكرها في سورة البقرة ( مَثلاً ) إعلام بمبادىء الأمور ، وذكرها هنا تنظير للحال وتوطئة للإنكار والتوبيخ ، وقس على ذلك .

وفَسق : تجاوز عن طاعته . وأصله قولهم : فسقت الرُّطبَة ، إذا خرجت من قشرها فاستعمل مجازاً في التجاوز . قال أبو عبيدة . والفسق بمعنى التجاوز عن الطاعة . قال أبو عبيدة : « لم نسمع ذلك في شيء من أشعار الجاهلية ولا أحاديثها وإنما تكلم به العرب بعد نزول القرآن » ، أي في هذه الآية ونحوها . ووافقه المبرد وابن الأعرابي . وأطلق الفسق في مواضع من القرآن على العصيان العظيم ، وتقدم في سورة البقرة ( 26 ) عند قوله تعالى : { وما يضل به إلا الفاسقين .

والأمر في قوله : { عن أمر ربه } بمعنى المأمور ، أي ترك وابتعد عما أمره الله به .

والعدول في قوله : { عن أمر ربه } إلى التعريف بطريق الإضافة دون الضمير لتفظيع فسق الشيطان عن أمر الله بأنه فسق عبد عن أمر من تجب عليه طاعته لأنه مالكه .

وفرع على التذكير بفسق الشيطان وعلى تعاظمه على أصل النوع الإنساني إنكار اتخاذه واتخاذ جنده أولياء لأن تكبره على آدم يقتضي عداوته للنوع ، ولأن عصيانه أمر مالكه يقتضي أنه لا يرجى منه خير وليس أهلاً لأن يُتبع .

والاستفهام مستعمل في الإنكار والتوبيخ للمشركين ، إذ كانوا يعبدون الجن ، قال تعالى : { وجعلوا لله شركاء الجن } [ الأنعام : 100 ] . ولذلك علل النهي بجملة الحال وهي جملة { وهم لكم عدو } .

والذرية : النسل ، وذرية الشيطان الشياطين والجن .

والعدو : اسم يصدق على الواحد وعلى الجمع ، قال تعالى : { يأيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة } [ الممتحنة : 1 ] وقال : { هم العدو } [ المنافقون : 4 ] .

عومل هذا الاسم معاملة المصادر لأنه على زنة المصدر مثل القبول والوَلُوع ، وهما مصدران . وتقدم عند قوله تعالى : { فإن كان من قوم عدو لكم } في سورة النساء ( 92 ) .

والولي : من يُتولَّى ، أي يتخذ ذا وَلاية بفتح الواو وهي القرب . والمراد به القرب المعنوي ، وهو الصداقة والنسب والحلف . و ( من ) زايدة للتوكيد ، أي تتخذونهم أولياء مباعدين لي . وذلك هو إشراكهم في العبادة ، فإن كل حالة يعبدون فيها الآلهة هي اتخاذٌ لهم أولياء من دون الله .

والخطاب في { أتتخذونه } وما بعده خطاب للمشركين الذين اتخذوه ولياً ، وتحذير للمسلمين من ذلك .

وجملة { بئس للظالمين بدلاً } مستأنفة لإنشاء ذم إبليس وذريته باعتبار اتخاذ المشركين إياهم أولياء ، أي بئس البَدل للمشركين الشيطان وذريته ، فقوله : { بدلاً } تمييز مفسر لاسم ( بئس ) المحذوف لقصد الاستغناء عنه بالتمييز على طريقة الإجمال ثم التفصيل .

والظالمون هم المشركون . وإظهار الظالمين في موضع الإضمار للتشهير بهم ، ولما في الاسم الظاهر من معنى الظلم الذي هو ذم لهم .