{ إِلاّ الّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للّهِ فَأُوْلََئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً } . .
وهذا استثناء من الله جل ثناؤه ، استثنى التائبين من نفاقهم إذا أصلحوا وأخلصوا الدين لله وحده وتبرّءوا من الاَلهة والأنداد ، وصدّقوا رسوله ، أن يكونوا مع المصرّين على نفاقهم ، حتى يوفيهم مناياهم فِي الاَخرة ، وأن يدخلوا مداخلهم من جهنم . بل وعدهم جلّ ثناؤه أن يُحلهم مع المؤمنين محلّ الكرامة ، ويسكنهم معهم مساكنهم في الجنة ، ووعدهم من الجزاء على توبتهم الجزيل من العطاء ، فقال : وَسَوْفَ يُؤْتِي اللّهُ المُؤمِنِينَ أجْرا عَظِيما } .
فتأويل الاَية : { إلاّ الّذِينَ تَابُوا } أي راجعوا الحقّ ، وأبوا إلا الإقرار بوحدانية الله وتصديق رسوله وما جاء به من عند ربه ، من نفاقهم . { وأَصْلَحُوا } : يعني وأصلحوا أعمالهم ، فعملوا بما أمرهم الله به وأدّوا فرائضه ، وانتهوا عما نهاهم عنه وانزجروا عن معاصيه . { واعْتَصمُوا بالله } يقول : وتمسكوا بعهد الله . وقد دللنا فيما مضى قبل ، على أن الاعتصام : التمسك والتعلق ، فالاعتصام بالله : التمسك بعهده وميثاقه الذي عهد في كتابه إلى خلقه من طاعته وترك معصيته . { وأخْلَصوا دِينَهُمْ لِلّهِ } يقول : وأخلصوا طاعتهم وأعمالهم التي يعملونها لله ، فأرادوه بها ، ولم يعملوها رئاء الناس ولا على شكّ منهم في دينهم وامتراء منهم ، في أن الله محصٍ عليهم ما عملوا ، فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته¹ ولكنهم عملوها على يقين منهم في ثواب المحسن على إحسانه وجزاء المسيء على إساءته ، أو يتفضل عليه ربه فيعفو ، متقرّبين بها إلى الله مريدين بها وجه الله¹ فذلك معنى إخلاصهم لله دينهم . ثم قال جلّ ثناؤه : { فَأُولَئِكَ مَعَ المُؤْمِنِينَ } يقول : فهؤلاء الذين وصف صفتهم من المنافقين بعد توبتهم وإصلاحهم واعتصامهم بالله وإخلاصهم له مع المؤمنين في الجنة ، لا مع المنافقين الذي ماتوا على نفاقهم ، الذي أوعدهم الدّرْكَ الأسفل من النار . ثم قال : { وَسَوْفَ يُؤْتِي اللّهُ المُؤْمِنِينَ أجْرا عَظِيما } يقول : وسوف يعطي الله هؤلاء الذين هذه صفتهم على توبتهم وإصلاحهم واعتصامهم بالله وإخلاصهم دينهم له على إيمانهم ، ثوابا عظيما ، وذلك درجات في الجنة ، كما أعطى الذين ماتوا على النفاق منازل في النار ، وهي السفلى منها¹ لأن الله جلّ ثناؤه وعد عباده المؤمنين أن يؤتيهم على إيمانهم ذلك ، كما أوعد المنافقين على نفاقهم ما ذكر في كتابه . وهذا القول ، هو معنى قول حذيفة بن اليمان الذي :
حدثنا به ابن حميد وابن وكيع ، قالا : حدثنا جرير ، عن مغيرة ، عن إبراهيم ، قال حذيفة : ليدخلنّ الجنة قوم كانوا منافقين ! فقال عبد الله : وما علمك بذلك ؟ فغضب حذيفة ، ثم قام فتنحّى . فلما تفرّقوا مرّ به علقمة فدعاه ، فقال : أما إنّ صاحبك يعلم الذي قلت ! ثم قرأ { إلاّ الّذِينَ تابُوا وأصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا باللّهِ وأخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ المُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤتِي اللّهُ المُؤمِنِينَ أجْرا عَظِيما } .
{ إلا الذين تابوا } عن النفاق . { وأصلحوا } ما أفسدوا من أسرارهم وأحوالهم في حال النفاق . { واعتصموا بالله } وثقوا به أو تمسكوا بدينه . { وأخلصوا دينهم لله } لا يريدون بطاعتهم إلا وجهه سبحانه وتعالى . { فأولئك مع المؤمنين } ومن عدادهم في الدارين . { وسوف يؤت الله المؤمنين أجرا عظيما } فيساهمونهم فيه .
ثم استثنى عز و جل التائبين من المنافقين ، ومن شروط التائب أن يصلح في قوله وفعله ، ويعتصم بالله ، أي يجعله منعته وملجأه ، ويخلص دينه لله تعالى ، وإلا فليس بتائب ، وقال حذيفة بن اليمان بحضرة عبد الله بن مسعود : والله ليدخلن الجنة قوم كانوا منافقين ، فقال له عبد الله بن مسعود : وما علمك بذلك ؟ فغضب حذيفة وتنحى ، فلما تفرقوا مر به علقمة فدعاه وقال : أما إن صاحبكم يعلم الذي قلت ، ثم تلا { إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا } الآية ، وأخبر تعالى أنهم مع المؤمنين في رحمة الله وفي منازل الجنة ، ثم وعد المؤمنين «الأجر العظيم » وحذفت الياء من { يؤت } في المصحف تخفيفاً قال الزجّاج : لسكونها وسكون اللام في { الله } ، كما حذفت من قوله { يوم يناد المناد }{[4349]} وكذلك { سندع الزبانية }{[4350]} وأمثال هذا كثير و «الأجر العظيم » : التخليد في الجنة .
استثنى من هذا الوعيد من آمن من المنافقين ، وأصلح حاله ، واعتصم بالله دون الاعتزاز بالكافرين ، وأخلص دينه لله ، فلم يشبْه بتردّد ولا تربّص بانتظار من ينتصر من الفريقين : المؤمنين والكافرين ، فأخبر أنّ من صارت حاله إلى هذا الخير فهو مع المؤمنين ، وفي لفظ ( مع ) إيماء إلى فضيلة من آمن من أوّل الأمر ولم يَصِم نفسه بالنفاق لأنّ ( مع ) تدخل على المتبوع وهو الأفصل .
وجيء باسم الإشارة في قوله : { فأولئك مع المؤمنين } لزيادة تمييز هؤلاء الذين تابوا ، وللتنبيه على أنّهم أحرياء بما سيرد بعد اسم الإشارة .
وقد علم الناس ما أعدّ الله للمؤمنين بما تكرّر في القرآن ، ولكن زاده هنا تأكيداً بقوله : { وسوف يؤتي الله المؤمنين أجراً عظيماً } . وحرف التنفيس هنا دلّ على أنّ المراد من الأجر أجر الدنيا وهو النصر وحسن العاقبة وأجر الآخرة ، إذ الكلّ مستقبل ، وأن ليس المراد منه الثواب لأنّه حصل من قبل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.