اللباب في علوم الكتاب لابن عادل - ابن عادل  
{إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصۡلَحُواْ وَٱعۡتَصَمُواْ بِٱللَّهِ وَأَخۡلَصُواْ دِينَهُمۡ لِلَّهِ فَأُوْلَـٰٓئِكَ مَعَ ٱلۡمُؤۡمِنِينَۖ وَسَوۡفَ يُؤۡتِ ٱللَّهُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ أَجۡرًا عَظِيمٗا} (146)

قوله : { إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ } : فيه ثلاثة أوجه :

أحدها : أنه منصوبٌ على الاستثناء من قوله : " إِنَّ المُنَافِقِينَ " .

الثاني : أنه مستثنًى من الضمير المجْرُورِ في " لَهُمْ " .

الثالث : أنه مبتدأ ، وخبرُه الجملةُ من قوله : { فأولئك مَعَ المُؤمنِينَ } ، قيل : ودَخَلَتِ الفاءُ في الخبرِ ؛ لشبه المبتدأ باسم الشرط ، قال أبو البقاء{[13]} ومكي{[14]} وغيرُهما : " مَعَ المُؤمنينَ " خبرُ " أولَئِكَ " ، والجملةُ خبر " إِلاَّ الَّذِينَ " ، والتقدير : فأولئك مؤمنون مع المُؤمِنِينَ ، وهذا التقديرُ لا تقتضيه الصناعةُ ، بل الذي تقتضيه الصناعةُ : أن يُقَدَّر الخبرُ الذي يتعلَّق به هذا الظرف شيئاً يليقُ به ، وهو " فأولئِكَ مُصَاحِبُونَ أو كائِنونَ أو مستقرُّون " ونحوه ، فتقدِّرُه كوناً مطلقاً ، أو ما يقاربه .

فصل

معنى الآية { إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ } : من النِّفَاقِ وآمَنُوا ، " وأَصْلَحُوا " أعْمَالَهُم ، " واعْتَصَمُوا باللَّهِ " ووثِقُوا باللَّهِ ، { وأخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ } وأراد الإخلاَصِ بالقَلْبِ ؛ لأن النِّفَاقَ كُفْر القَلْبِ ، فَزَوالُهُ يكُونُ بإخلاصِ القَلْبِ ، فإذا حَصَلَت هذه الشُّرُوط ، فِعنْدَها قال : { فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ } ، ولم يَقُلْ : فأولئَك مُؤمِنُون .

قال الفَرَّاء{[15]} : معناه : فَأولَئِك من المُؤمِنِين .

قوله : { وَسَوْفَ يُؤْتِ الله [ المُؤمِنينَ أجْراً عَظِيماً ] } رُسِمَتْ " يُؤتِ " دون " يَاءٍ " وهو مضارعٌ مرفوع ، فحقُّ يائه أن تثبت لفظاً وخَطَّاً ، إلا أنها حذفتْ لفظاً في الوصل ؛ لالتقاء الساكنين [ وهما اليَاءُ في اللفظ واللام في الجلالة ] فجاءُ الرسمُ تابعاً للفظ ، وله نظائرُ تقدَّم بعضها ، والقراءُ يقفون عليه دون ياءٍ اتِّباعاً للرسْمِ ، إلا يعقوب{[16]} ، فإنه يقف بالياء ؛ نظراً إلى الأصل ، ورُوي ذلك أيضاً عن الكسَائيِّ وحمزة ، وقال أبو عَمْرو : " ينبغي ألاَّ يُوقفَ عليها ؛ لأنَّه إنْ وُقِفَ عليها كما في الرسْمِ دون ياء خالَفَ النحويين ، وإن وقف بالياء خالَفَ رسْم المصْحَف " ، ولا بأسَ بما قالَ ؛ لأن الوقْفَ ليس ضروريًّا ، فإن اضْطُرَّ إليه واقفٌ ؛ لقَطْعِ نفس ونحوه ، فينبغي أن يُتابعَ الرسمُ ؛ لأنَّ الأطرافَ قد كَثُر حَذفُهَا ، ومِمَّا يشبه هذا الموضع قوله : { وَمَن تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ } [ غافر : 9 ] فإنه رسم " تَقِ " بقافٍ ، دون هاءِ سكت ، وعند النحويين : أنه إذا حُذِفَ من الفعل شيءٌ ؛ حتى لم يَبْقَ منه إلا حرفٌ واحدٌ ، ووُقِفَ عليه ، وجَبَ الإتيانُ بهاء السكت في آخره ؛ جَبْراً له ؛ نحو : " قِهْ " و " لَمْ يَقِهْ " و " عِهْ " و " لَمْ يَعِهْ " ، ولا يُعْتَدُّ بحرف المضارعة ؛ لزيادته على بنية الكلمة ، فإذا تقرَّر هذا ، فنقول : ينبغي ألاَّ يُوقَفَ عليه ؛ لأنه إن وُقِفَ بغير هاءِ سكتٍ ، خالف الصناعةَ النحويةَ ، وإنْ وُقِفَ بهاء خالف رَسْمَ المُصْحف .

والمراد : " يؤتي الله المؤمنين " في الآخِرَةِ ، " أجْراً عَظِيماً " [ يعني : الجَنَّة ]{[17]} .


[13]:ستأتي في "المؤمنون" 1 وينظر: شرح الطيبة 4/ 145.
[14]:قال سيبويه في الكتاب 3/265 وزعم من يوثق به: أنه سمع من العرب من يقول: "ثلاثة أربعه" طرح همزة أربعه على الهاء ففتحها، ولم يحولها تاء لأنه جعلها ساكتة والساكن لا يتغير في الإدراج، تقول: اضرب، ثم تقول: اضرب زيدا.
[15]:ينظر: الكتاب 4/ 166.
[16]:ينظر: الدر المصون 2/35.
[17]:ينظر: السبعة 200، والكشف 1/334، والحجة، 3/6 والبحر المحيط 2/389، والدر المصون 2/5.