وقوله : وَالّذِي قَدّرَ فَهَدَى يقول تعالى ذكره : والذي قدّر خلقه فهدى .
واختلف أهل التأويل في المعنى الذي عُني بقوله : فَهَدَى ، فقال بعضهم : هدى الإنسان لسبيل الخير والشرّ ، والبهائم للمراتع . ذكر من قال ذلك :
حدثنا محمد بن عمرو ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا عيسى وحدثني الحرث ، قال : حدثنا الحسن ، قال : حدثنا ورقاء ، جميعا عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، قوله : قَدّرَ فَهَدَى قال : هدى الإنسان للشّقوة والسعادة ، وهَدى الأنعام لمراتعها .
وقال آخرون : بل معنى ذلك : هدى الذكور لمأتى الإناث . وقد ذكرنا الرواية بذلك فيما مضى .
والصواب من القول في ذلك عندنا : أن الله عمّ بقوله فَهَدَى الخبر عن هدايته خلقه ، ولم يخصص من ذلك معنى دون معنى ، وقد هداهم لسبيل الخير والشرّ ، وهدى الذكور لمأتى الإناث ، فالخبر على عمومه ، حتى يأتي خبر تقوم به الحجة ، دالّ على خصوصه . واجتمعت قرّاء الأمصار على تشديد الدال من قَدّر ، غير الكسائي فإنه خفّفها . والصواب في ذلك التشديد ، لإجماع الحجة عليه .
وقرأ جمهور القراء «قدّر » بشد الدال فيحتمل أن يكون من القدر والقضاء ، ويحتمل أن يكون من التقدير والموازنة ، وقوله تعالى : { فهدى } عام لوجوه الهدايات فقال الفراء : معناه هدى وأضل ، واكتفى بالواحدة لدلالتها على الأخرى ، وقال مقاتل والكلبي : هدى الحيوان إلى وطء الذكور الإناث ، وقيل هدى المولود عند وضعه إلى مص الثدي ، وقال مجاهد : هدى الناس للخير والشر ، والبهائم ، للمراتع . .
قال القاضي أبو محمد : وهذه الأقوال مثالات ، والعموم في الآية أصوب في كل تقدير وفي كل هداية .
وإعادة اسم الموصول في قوله : { والذي قدر } وقوله : { والذي أخرج المرعى } مع إغناء حرف العطف عن تكريره ، للاهتمام بكل صلة من هذه الصلات وإثباتها لمدلول الموصول وهذا من مقتضيات الإطناب .
وعطْفُ قوله : { فهدى } بالفاء مثل عطف { فسوى } ، فإن حمل { خلق } و { قدّر } على عموم المفعول كانت الهداية عامة . والقول في وجه عطف { فهدى } بالفاء مثل القول في عطف { فسوى } .
وعطف { فهدى } على { قدر } عطفُ المسبَّب على السبب أي فهدى كلَّ مقدر إلى ما قدر له فهداية الإنسان وأنواع جنسه من الحيوان الذي له الإِدراك والإِرادة هي هداية الإِلهام إلى كيفية استعمال ما قدَّر فيه من المقادير والقوى فيما يناسب استعماله فيه فكلما حصل شيء من آثار ذلك التقدير حصل بأثره الاهتداء إلى تنفيذه .
والمعنى : قَدّر الأشياءَ كلها فهداها إلى أداء وظائفها كما قدّرها لها ، فالله لما قدّر للإِنسان أن يكون قابلاً للنطق والعِلم والصناعة بما وَهَبَه من العقل وآلات الجسد هداهُ لاستعمال فكره لما يُحصِّل له ما خُلق له ، ولمَّا قَدر البقرةَ للدَّر ألهمها الرَعْي ورِثْمَانَ ولدها لِتَدرَّ بذلك للحالب ، ولمّا قدر النحل لإنتاج العسَل ألهمها أن ترعى النَّور والثمار وألهمها بناء الجِبْح وخلاياه المسدسة التي تضع فيها العسل .
ومن أجلِّ مظاهر التقدير والهداية تقدير قوى التناسل للحيوان لبقاء النوع . فمفعول « هدى » محذوف لإفادة العموم وهو عام مخصوص بما فيه قابلية الهَدْي فهو مخصوص بذوات الإِدراك والإِرادة وهي أنواع الحيوان فإن الأنواع التي خلقها الله وقدَّر نظامها ولم يقدِّر لها الإِدراك مثل تقدير الإِثمار للشجر ، وإنتاج الزريعة لتجدد الإِنبات ، فذلك غير مراد من قوله : { فهدى } لأنها مخلوقة ومقدّرة ولكنها غير مهدية لعدم صلاحها للاهتداء ، وإن جعل مفعول { خلق } خاصاً ، وهو الإنسان كان مفعول { قدر } على وزانه ، أي تقدير كمال قوى الإِنسان ، وكانت الهداية هداية خاصة وهي دلالة الإِدراك والعقل .
وأوثر وصفا التسوية والهداية من بين صفات الأفعال التي هي نِعم على الناس ودالة على استحقاق الله تعالى للتنزيه لأن هذين الوصفين مناسبة بما اشتملت عليه من السورة فإن الذي يسوي خَلق النبي صلى الله عليه وسلم تسوية تلائم ما خلَقه لأجله من تحمل أعباء الرسالة لا يفوته أن يهيئه لحفظ ما يوحيه إليه وتيسيره عليه وإعطائه شريعة مناسبة لذلك التيسير قال تعالى : { سنقرئك فلا تنسى } [ الأعلى : 6 ] وقال : { ونيسرك لليسرى } [ الأعلى : 8 ] .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.