جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري - الطبري [إخفاء]  
{فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرٗا يَرَهُۥ} (7)

وقوله : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرّةٍ خَيْرا يَرَهُ } يقول : فمن عمل في الدنيا وزن ذرّة من خير ، يرى ثوابه هنالك { وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرّةٍ شَرّا يَرَهُ } يقول : ومن كان عمل في الدنيا وزن ذرّة من شرّ يرى جزاءه هنالك ، وقيل : ومَنْ يعمل ، والخبر عنها في الآخرة ، لفهم السامع معنى ذلك ، لما قد تقدّم من الدليل قبلُ ، على أن معناه : فمن عمل ذلك دلالة قوله : { يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النّاسُ أشْتاتا لِيُرَوْا أعمالَهُمْ } على ذلك . ولكن لما كان مفهوما معنى الكلام عند السامعين . وكان في قوله{ يَعْمَلْ } حثّ لأهل الدنيا على العمل بطاعة الله ، والزجر عن معاصيه ، مع الذي ذكرت من دلالة الكلام قبل ذلك ، على أن ذلك مراد به الخبر عن ماضي فعله ، وما لهم على ذلك ، أخرج الخبر على وجه الخبر عن مستقبل الفعل . وبنحو الذي قلنا من أن جميعهم يرون أعمالهم ، قال أهل التأويل ، ذكر من قال ذلك :

حدثني عليّ ، قال : حدثنا بو صالح ، قال : ثني معاوية ، عن عليّ ، عن ابن عباس ، في قوله : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرّةٍ خَيْرا يَرَهُ } قال : ليس مؤمن ولا كافر عمِل خيرا ولا شرّا في الدنيا ، إلا أتاه الله إياه . فأما المؤمن فيريه حسناته وسيئاته ، فيغفر الله له سيئاته . وأما الكافر فيردّ حسناته ، ويعذّبه بسيئاته .

وقيل في ذلك غير هذا القول ، فقال بعضهم : أما المؤمن ، فيعجل له عقوبة سيئاته في الدنيا ، ويؤخّر له ثواب حسناته ، والكافر يعجّل له ثواب حسناته ، ويؤخر له عقوبة سيئاته . ذكر من قال ذلك :

حدثني موسى بن عبد الرحمن المسروقيّ ، قال : حدثنا محمد بن بشر ، قال : حدثنيه محمد بن مسلم الطائفيّ ، عن عمرو بن قتادة ، قال : سمعت محمد بن كعب القُرَظِيّ ، وهو يفسّر هذه الآية : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرّةٍ } قال : من يعمل مثقال ذرّة من خير مِنْ كافر يَرَ ثوابه في الدنيا في نفسه وأهله وماله وولده ، حتى يخرج من الدنيا ، وليس له عنده خير { وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرّةٍ شَرّا يَرَهُ } مِنْ مؤمن ير عقوبته في الدنيا في نفسه وأهله وماله وولده ، حتى يخرج من الدنيا وليس عنده شيء .

حدثني محمود بن خِداش ، قال : حدثنا محمد بن يزيد الواسطي ، قال : حدثنا محمد بن مسلم الطائفيّ ، عن عمرو بن دينار ، قال : سألت محمد بن كعب القُرَظِيّ ، عن هذه الآية : { فَمَنْ يَعْمَلْ مثْقالَ ذَرّةٍ خَيْرا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرّةٍ شَرّا يَرَهُ } قال : من يعمل مثقال ذرّة من خير من كافر ، ير ثوابها في نفسه وأهله وماله ، حتى يخرج من الدنيا وليس له خير ، ومن يعمل مثقال ذرّة من شرّ من مؤمن ، ير عقوبتها في نفسه وأهله وماله ، حتى يخرج وليس له شرّ .

حدثني أبو الخطاب الحَسّاني ، قال : حدثنا الهيثم بن الربيع ، قال : حدثنا سماك بن عطية ، عن أيوب ، عن أبي قلابة ، عن أنس ، قال : كان أبو بكر رضي الله عنه يأكل مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرّةٍ خَيْرا يَرَهُ وَمَنْ يَعمْلْ مثْقالَ ذَرّةٍ شَرّا يَرَهُ } فرفع أبو بكر يده من الطعام ، وقال : يا رسول الله إني أُجزَى بما عملت من مثقال ذرّة من شرّ ؟ فقال : «يا أبا بَكْرٍ ، ما رأيْتَ فِي الدنْيا مِمّا تَكْرَهُ فَمَثاقِيلُ ذَرّ الشّرّ ، وَيَدّخِرُ لَكَ اللّهُ مَثاقِيلَ الخَيْرِ حتى تَوَفّاهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ » .

حدثنا ابن بشار ، قال : حدثنا أبوب ، قال : وجدنا في كتاب أبي قِلابة ، عن أبي إدريس : أن أبا بكر كان يأكل مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأنزلت هذه الآية : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرّةٍ خَيْرا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرّةٍ شَرّا يَرَهُ } فرفع أبو بكر يده من الطعام ، وقال : إني لراءٍ ما عملت ، قال : لا أعلمه إلا قال : ما عملت من خير وشرّ ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : «إنّ ما تَرَى مِمّا تَكْرَهُ فَهُوَ مَثاقِيلُ ذرّ شَر كَبيرٍ ، وَيَدّخِرُ اللّهُ لكَ مَثاقِيلَ ذَرّ الخَيْرِ حتى تُعْطاهُ يَومْ الْقِيامَةِ » ، وتصديق ذلك في كتاب الله : وَما أصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ .

حدثني يعقوب ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، قال : حدثنا أيوب ، قال : قرأت في كتاب أبي قلابة قال : نزلت { فَمَنْ يَعْمَل مثْقالَ ذَرّةٍ خَيْرا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرّةٍ شَرّا يَرَهُ } وأبو بكر يأكل مع النبيّ صلى الله عليه وسلم ، فأمسك وقال : يا رسول الله ، إني لراءٍ ما عملتُ من خير وشرّ ؟ فقال : «أرأيْتَ ما رأيْتَ مِمّا تَكْرَهُ ، فَهُوَ مِنْ مَثاقِيلِ ذَرّ الشّرّ ، وَيَدّخِرُ مَثاقِيلَ ذَرّ الخَيْرِ ، حتى تُعْطَوْهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ » قال أبو إدريس : فأرَى مصداقها في كتاب الله ، قال : { وَما أصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ } .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن عُلَية ، عن داود ، عن الشعبيّ ، قال : قالت عائشة : يا رسول الله ، إن عبد الله بن جُدْعان كان يصل الرحم ، ويفعل ويفعل ، هل ذاك نافعه ؟ قال : «لا ، إنه لم يقل يوما : رَبّ اغْفِرْ لي خَطِيئَتي يَوْمَ الدّينِ » .

حدثنا ابن وكيع ، قال : حدثنا حفص ، عن داود ، عن الشعبيّ ، عن مسروق ، عن عائشة ، قالت : قلت : يا رسول الله ، ابن جدعان كان في الجاهلية يصل الرحم ، ويُطعم المسكين ، فهل ذاك نافعه ؟ قال : «لا يَنْفَعُهُ ، إنّهُ لم يَقُلْ يَوْما : رَبّ اغْفِرْ لي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدّينِ » .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن داود ، عن عامر الشعبيّ ، أن عائشة أمّ المؤمنين قالت : يا رسول الله ، إن عبد الله بن جُدْعان ، كان يصل الرحم ، ويَقْرِي الضيف ، ويفُكّ العاني ، فهل ذلك نافعه شيئا ؟ قال : «لا ، إنّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْما : رَبّ اغْفِرْ لي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدّينِ » .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا ابن أبي عديّ ، عن داود ، عن عامر ، عن علقمة ، أن سلمة بن يزيد الجُعفيّ ، قال : يا رسول الله ، إن أمنّا هلَكت في الجاهلية ، كانت تصِل الرحم ، وتَقْرِي الضيف ، وتفعل وتفعل ، فهل ذلك نافعها شيئا ؟ قال : «لا » .

حدثنا ابن المثنى ، قال : حدثنا الحجاج بن المنهال ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : حدثنا داود ، عن الشعبيّ ، عن علقمة بن قيس ، عن سلمة بن يزيد الجعفي ، قال : ذهبت أنا وأخي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : يا رسول الله ، إن أمنّا كانت في الجاهلية تقري الضيف ، وتصل الرحم ، هل ينفعها عملها ذلك شيئا ؟ قال : «لا » .

حدثني محمد بن إبراهيم بن صَدْران وابن عبد الأعلى ، قالا : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : حدثنا داود بن أبي هند ، عن الشعبيّ ، عن علقمة ، عن سلمة بن يزيد ، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم ، بنحوه .

حدثنا ابن عبد الأعلى ، قال : حدثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة ، عن محمد بن كعب ، أنه قال : أما المؤمن فيرى حسناته في الآخرة ، وأما الكافر فيرى حسناته في الدنيا .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا أبو نعامة ، قال : حدثنا عبد العزيز بن بشير الضبي جدّه سلمان بن عامر أن سلمان بن عامر جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن أبي كان يصل الرحم ، ويفي بالذمة ، ويُكرم الضيف ، قال : «ماتَ قَبْلَ الإسْلامِ » ؟ قال : نعم ، قال : «لَنْ يَنْفَعَهُ ذَلكَ » ، فوّلى ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «عَليّ بالشّيْخِ » ، فجاء ، فَقالَ رسُول اللّهَ صلى الله عليه وسلم : «إنّها لَنْ تَنْفَعُهُ ، وَلَكِنّها تَكُونُ فِي عَقِبِهِ ، فَلنْ تَخْزَوْا أبَدا ، وَلَنْ تَذِلّوا أبَدا ، وَلَنْ تَفْتَقِرُوا أبَدا » .

حدثنا ابن المثنى وابن بشار ، قالا : حدثنا أبو داود ، قال : حدثنا عمران ، عن قتادة ، عن أنس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إنّ اللّهَ لا يَظْلِمُ المُؤْمِنَ حَسَنَةً يُثابُ عَلَيْها الرّزْقَ فِي الدّنْيا ، ويُجْزَى بِها في الآخِرَةِ ، وأمّا الكافِرُ فَيُعْطِيهِ بِها فِي الدّنْيا ، فإذَا كانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ ، لَم تَكُنْ لَهُ حَسَنَةٌ » .

حدثني يعقوب بن إبراهيم ، قال : حدثنا ابن علية ، قال : حدثنا ليث ، قال : ثني المعلّي ، عن محمد بن كعب القْرَظيّ ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما أحْسَنَ مِنْ مُحْسِنٍ مُؤْمِنٍ أوْ كافِرٍ إلاّ وَقَعَ ثَوَابُهُ عَلى اللّهِ في عاجِلِ دُنْياهُ ، أوْ آجِلِ آخِرَتِهِ » .

حدثني يونس بن عبد الأعلى ، قال : أخبرنا ابن وهب ، قال : أخبرني يحيى بن عبد الله ، عن أبي عبد الرحمن الحُبُليّ ، عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال : أنزلت : { إذَا زُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلْزَالَهَا } وأبو بكر الصدّيق قاعد ، فبكى حين أُنزلت ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما يُبْكِيكَ يا أبا بَكْرٍ ؟ »قال : يُبكيني هذه السورة ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : «لَوْلا أنّكُمْ تُخْطِئونَ وَتُذْنِبُونَ فَيَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ ، لَخَلَقَ اللّهُ أُمةً يُخْطِئُونَ وَيُذْنِبُونَ فَيْغْفِرُ لَهُمْ » .

فهذه الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تُنبىء عن أن المؤمن إنما يَرَى عقوبة سيّئاته في الدنيا ، وثواب حسناته في الآخرة ، وأن الكافر يرى ثواب حسناته في الدنيا ، وعقوبة سيئاته في الآخرة ، وأن الكافر لا ينفعه في الآخرة ما سلف له من إحسان في الدنيا مع كُفره .

حدثنا أبو كُرَيب ، قال : حدثنا ابن عليّ ، عن الأعمش ، عن إبراهيم التيميّ ، قال : أدركت سبعين من أصحاب عبد الله ، أصغرهم الحارث بن سُوَيد ، فسمعته يقرأ : { إذَا زُلْزِلَت الأرْضُ زِلْزَالَهَا } حتى بلغ إلى : { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرّةٍ شَرّا يَرَه } قال : إن هذا إحصاء شديد .

وقيل : إن الذّرّةَ دُودة حمراء ليس لها وزن . ذكر من قال ذلك :

حدثني إسحاق بن وهب العلاف ومحمد بن سنان القزّاز ، قالا : حدثنا أبو عاصم ، قال : حدثنا شبيب بن بشر ، عن عكرِمة ، عن ابن عباس ، في قوله : { مِثْقالَ ذَرّةٍ } قال ابن سنان في حديثه : مثقال ذرّة حمراء . وقال ابن وهب في حديثه : نملة حمراء . قال إسحاق ، قال يزيد بن هارون : وزعموا أن هذه الدودة الحمراء ليس لها وزن .

 
أنوار التنزيل وأسرار التأويل للبيضاوي - البيضاوي [إخفاء]  
{فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرٗا يَرَهُۥ} (7)

{ فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره * ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره } تفصيل ليروا ، ولذلك قرئ ( يره ) بالضم ، وقرأ هشام بإسكان الهاء ، ولعل حسنة الكافر وسيئة المجتنب عن الكبائر تؤثران في نقص الثواب والعقاب . وقيل : الآية مشروطة بعدم الإحباط والمغفرة ، أو من الأولى مخصوصة بالسعداء ، والثانية بالأشقياء ، لقوله : أشتاتا ، والذرة النملة الصغيرة ، أو الهباء .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرٗا يَرَهُۥ} (7)

ثم أخبر تعالى أنه من عمل عملاً رآه قليلاً كان أو كثيراً ، فخرجت العبارة عن ذلك بمثال التقليل ، وهذا هو الذي يسميه أهل الكلام مفهوم الخطاب ، وهو أن يكون المذكور والمسكوت عنه في حكم واحد ، ومنه قوله تعالى : { فلا تقل لهما أف }{[11938]} [ الإسراء : 23 ] ، وهذا كثير ، وقال ابن عباس وبعض المفسرين : رؤية هذه الأعمال هي في الآخرة ، وذلك لازم من لفظ السورة وسردها ، فيرى الخير كله من كان مؤمناً ، والكافر لا يرى في الآخرة خيراً ؛ لأن خيره قد عجل له في الدنيا ، وكذلك المؤمن أيضاً تعجل له سيئاته الصغار في دنياه في المصائب والأمراض ونحوها فيجيء من مجموع هذا أن من عمل من المؤمنين { مثقال ذرة } من خير أو شر رآه ، ويخرج من ذلك أن لا يرى الكافر خيراً في الآخرة ، ومنه حديث عائشة رضي الله عنها ، قالت : قلت يا رسول الله : أرأيت ما كان عبد الله بن جدعان يفعله من البر وصلة الرحم وإطعام الطعام ، ألَهُ في ذلك أجر ؟ قال : «لا ؛ لأنه لم يقل قط : رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين{[11939]} » ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يسمي هذه الآية الجامعة الفادة ، وقد نص على ذلك حين سئل عن الحمر ، الحديث{[11940]} ، وأعطى سعد بن أبي وقاص سائلاً ثمرتين ، فقبض السائل يده ، فقال له سعد : ما هذا ؟ إن الله تعالى قبل منا مثاقيل الذر ، وفعلت نحو هذا عائشة في حبة عنب ، وسمع هذه الآية صعصعة بن عقال التيمي عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : حسبي ، لا أبالي أن لا أسمع غيرها{[11941]} ، وسمعها رجل عند الحسن ، فقال : انتهت الموعظة ، فقال الحسن : فقه الرجل . وقرأ هشام عن ابن عامر وأبو بكر عن عاصم : «يره » ، بسكون الهاء في الأولى والأخيرة ، وقرأ ابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي ونافع فيما روى عنه ورش والحلواني عن قالون عنه في الأولى «يرهو » وأما الآخرة فإنه سكون وقف ، وأما من أسكن الأولى فهي على لغة من يخفف أمثال هذا ومنه قول الشاعر :

ومطواي مشتاقان له أرقان{[11942]}

وهذه لغة لم يحكها سيبويه ؛ لكن حكاها الأخفش ، وقرأ أبو عمرو وحده بضم الهاء فيهما مشبعتان ، وقرأ أبان عن عاصم ، وابن عباس ، وأبو حيوة ، وحميد بن الربيع عن الكسائي : ( يره ) بضم الياء ، وهي رؤية بصر ، بمعنى : يجعله يدركه ببصره ، والمعنى : يرى ثوابه وجزاءه ؛ لأن الأعمال الماضية لا ترى بعين أبدا ، وهذا الفعل كله من " رأيت " بمعنى أدركت ببصري ، فتعديه إنما هو إلى مفعول واحد . وقرأ عكرمة : ( خيرا يراه ) و ( شرا يراه ) ، وقال النقاش : ليست برؤية بصر ، وإنما المعنى : يصيبه ويناله .

ويروى أن هذه السورة نزلت وأبو بكر رضي الله عنه يأكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فترك أبو بكر رضي الله عنه الأكل وبكى ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا بكر ، ما يبكيك ؟ قال : يا رسول الله أو أسأل عن مثاقيل الذر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أبا بكر ما رأيت في الدنيا مما تكره فمثاقيل ذر الشر ، ويدخر الله لك مثاقيل ذر الخير " {[11943]} .

و ( الذرة ) نملة صغيرة حمراء رقيقة لا يرجح بها ميزان ، ويقال : إنها تجري إذا مضى لها حول ، وقد تؤول ذلك في قول امرىء القيس :

من القاصرات الطرف لو دب محول** من الذر فوق الإتب منها لأثرا{[11944]}

وحكى النقاش أنهم قالوا : كان بالمدينة رجلان أحدهما لا يبالي عن الصغائر يرتكبها ، وكان الآخر يريد أن يتصدق فلا يجد إلا اليسير فيستحيي من الصدقة ، فنزلت الآية فيهما ، كأنه يقال لأحدهما : تصدق باليسير فإن مثقال ذرة الخير ترى ، وقيل للآخر : كف عن الصغائر فإن مقادير ذر الشر ترى .


[11938]:من الآية 23 من سورة الإسراء والآية عامة فهي تنهي عن القليل والكثير، ولكن اكتفت بذكر القليل.
[11939]:أخرجه الإمام أحمد في مسنده، ومسلم في صحيحه، كما أخرجه البغوي، وجدعان بضم الجيم، وهو ابن عم والد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ومعنى الحديث أن ما كان يفعله من الصلة والإطعام وغيرهما لا ينفعه في الآخرة لكونه كافرا.
[11940]:روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الخيل لثلاثة، لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال لها في مرج أو روضة، فما أصابت في ِطَيِلها ذلك في المرج والروضة كان له حسنات، ولو أنها قطعت ِطَيَلها فاستنت شرفا أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقى به كان ذلك حسنات له، فهي لذلك الرجل أجر، ورجل ربطها تغنيا وتعففا ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي له ستر، ورجل ربطها فخرا ورئاء ونواء فهي على ذلك وزر، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر، فقال: (ما أنزل الله فيها شيئا إلا هذه الآية الفاذة الجامعة (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره). ورواه مسلم من حديث زيد بن أسلم، وذكره السيوطي في الدر المنثور، وزاد نسبته إلى مالك، وأحمد، والنسائي، وابن ماجه. ومعنى (الفاذة): المنفردة. هذا والطيل: الحبل الطويل، واستنت : عدت وجرت، والشرف: الشوط ، والنواء: العداء لأهل الإسلام.
[11941]:أخرجه ابن المبارك في الزهد، وأحمد في مسنده، وعبد بن حميد، والنسائي، والطبراني، وابن مردويه، عن صعصعة بن معاوية عم الفرزدق.
[11942]:هذا عجز بيت ذكره النحويون شاهدا على أن بعض العرب يجوزون تسكين الهاء، كما في قوله هنا: (له)، والبيت بتمامه مع بيت قبله: أرقت لبرق دونه شدوان يمان وأهوى البرق كل يمان فظلت لدى البيت العتيق أريغه ومطواي مشتاقان له أرقان وهما من قصيدة قالها رجل من أزد السراة، قيل: اسمه يعلى الأحول الأزدي، وقيل: بل هو عمرو بن أبي عمارة الأزدي، وقيل: بل هو جواس بن حيان، من أزد عمان. والبيت العتيق: مكة، وظلت: قضيت يومي، ويروى بدلا منها: فبت، ولدى بمعنى: عند، وأريغه: أطلبه، ويروى بدلا منها: أخيله، بمعنى : أظنه وأتخيله، ويروى : أشيمه، ومطواي: مثنى مطو، وهو الصاحب والرفيق في السفر. ومشتاقان: خبر مطواي، وكذلك أرقان خبر ثان. ويروي صاحب الأغاني البيت: (ومطواي في شوق له أرقان)، وعلى هذا فلا شاهد فيه، والضمير في (له) يعود على (البرق) في البيت السابق. هذا والبيت في اللسان، وخزانة الأدب، والأغاني، والمحتسب، والخصائص، والمنصف.
[11943]:أخرجه ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، والحاكم في تاريخه، وابن مردويه ، والبيهقي في (شعب الإيمان)، عن أنس رضي الله عنه، وأخرج مثله ابن أبي الدنيا في كتاب البكاء، وابن جرير، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في (شعب الإيمان)، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، كذلك أخرجه ابن مردويه عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، كما أخرجه عن أبي إدريس الخولاني رضي الله عنه.
[11944]:هذا البيت من قصيدة امرىء القيس التي نظمها وهو في طريقه إلى بلاد الروم، "والقاصرات الطرف" : اللواتي يقصرن طرفهن على أزواجهن ولا ينظرن إلى غيرهن، ويريد حبيبته التي ذكرها في البيت السابق حين قال: إن كل ما يراه من برق ومطر لا ينسيه هذه الحبيبة، وهو يتمنى أن يسقط المطر على ديارها دون سواها: نشيم بروق المزن، أين مصابه ولا شيء يشفي منك يابنة عفزرا والمحول: الذي مضى عليه حول: أي سنة، والذر: النمل الصغير، والإتب: ثوب غير مخيط على الجانبين.