التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{قَالَ إِنَّمَآ أَشۡكُواْ بَثِّي وَحُزۡنِيٓ إِلَى ٱللَّهِ وَأَعۡلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (86)

وهنا يرد عليهم الأب الذي يشعر بغير ما يشعرون به من ألم وأمل . . . { قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ }

و { البث } ما ينزل بالإِنسان من مصائب يعظم حزن صاحبها بسببها . حتى أنه لا يستطيع إخفاء هذا الحزن ، وأصله التفريق وإثارة الشئ ومنه قولهم : بثت الريح التراب إذا فرقته .

قالوا : والإِنسان إذا قدر على كتم ما نزل به من المصائب كان حزناً ، وإذا لم يقدر على كتمه كان بثاً . . .

والمعنى : قال يعقوب لأولاده الذن لاموه على شدة حزنه على يوسف : إنما أشكو ، { بثى } أى : همى الذي انطوى عليه صدريى { إلى الله } - تعالى - وحده ، لا إلى غيره ، فهو العليم بحالى ، وهو القادر على تفريج كربى ، فاتركونى وشأنى مع ربى وخالقى . فإنى { وَأَعْلَمُ مِنَ الله } أى : من لطفه وإحسانه وثوابه على الصبر على المصيبة { مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أنتم ، وإنى لأرجو أن يرحمنى وأن يلطف بى ، وأن يجمع شملى بمن فارقنى من أولادى ، فإن حسن ظنى به - سبحانه - عظيم .

قال صاحب الظلال : " وفى هذه الكلمات - التي حكاها القرآن عن يعقوب - عليه السلام - يتجلى الشعور بحقيقة الألوهية في هذا القلب الموصول ، كما تتجلى هذه الحقيقة ذاتها بجلالها الغامر ، ولألائها الباهر .

إن هذا الواقع الظاهر الميئس من يوسف ، وهذا المدى الطويل الذي يقطع الرجاء من حياته فضلاً عن عودته إلى أبيه . . . إن هذا كله لا يؤثر شيئاً في شعور الرجل الصالح بربه ، فهو يعلم من حقيقة ربه ومن شأنه ما لا يعلمه هؤلاء المحجوبون عن تلك الحقيقة . . .

وهذه قيمة الإِيمان بالله . . .

إن هذه الكلمات { وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } تجلو هذه الحقيقة بما لا تملك كلماتنا نحن أن تجلوها ، وتعرض مذاقا يعرفه من ذاق مثله ، فيدرك ماذا تعنى هذه الكلمات في نفس العبد الصالح يعقوب . . . والقلب الذي ذاق هذا المذاق ، لا تبليغ الشدائد منه - مهما - بلغت إلا أن يتعمق اللمس والمشاهدة والمذاق . . . "

 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قَالَ إِنَّمَآ أَشۡكُواْ بَثِّي وَحُزۡنِيٓ إِلَى ٱللَّهِ وَأَعۡلَمُ مِنَ ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ} (86)

البَثّ : الهمّ الشديد ، وهو التفكير في الشيء المُسيء . والحزن : الأسف على فائت . فبينَ الهمّ والحزنِ العمومُ والخصوص الوجهي ، وقد اجتمعا ليعقوب عليه السلام لأنه كان مهتماً بالتفكير في مصير يوسف عليه السلام وما يعترضه من الكرب في غربته وكان آسفاً على فراقه .

وقد أعقب كلامه بقوله : { وأعلم من الله ما لا تعلمون } لينبّههم إلى قصور عقولهم عن إدراك المقاصد العَالية ليعلموا أنهم دون مرتبة أن يعلّموه أو يلوموه ، أي أنا أعلم علماً من عند الله علّمنيه لا تعلمونه وهو علم النبوءة . وقد تقدم نظير هذه الجملة في قصة نوح عليه السلام من سورة الأعراف فهي من كلام النبوءة الأولى . وحكي مثلها عن شعيب عليه السلام في سورة الشعراء .

وفي هذا تعريض برد تعرضهم بأنه يطمع في المحال بأن ما يحسبونه محالاً سيقع .