وبعد بيان هذه الأحكام في الأيمان العامة ، عقب - سبحانه - ذلك ببيان حكم اليمين الخاصة فقال : { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ . وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } . و { يُؤْلُونَ } : من الإِيلاء مصدر آلى يؤالي ويؤلى إيلاء بمعنى حلف . قال الشاعر :
قليل الألايا حافظ ليمينه . . . وإن سبقت منه الألية برت
وقد خص الإِيلاء في الشرع بالحلف على ترك مباشرة الزوجة . وكانوا في الجاهلية يحلفون ألايقربوا نساءهم السنة والأكثر إضراراً بهن .
و ( التربص ) التلبث والانتظار والترقب . قال الشاعر :
تربص بها ريب المنون لعلها . . . تطلق يوما أو يموت حليلها
و { فَآءُو } معناه رجعوا . والفيء في اللغة هو رجوع الشيء إلى ما كان عليه من قبل ، ولذها قيل لما تزيله الشمس من الظل ثم يعود فيء . وقيل لما رده الله على المسلمين من مال المشركين فيء كأنه لهم فرجع إليهم .
ففاءت ولم تقض الذي أقبلت له . . . ومن حاجة الإِنسان ما ليس قاضيا
و { عَزَمُواْ } من العزم وهو عقد القلب على الشيء ، والتصميم عليه . يقال عزم على الشيء يعزم عزما وعزيمة . . إذا عقد نيته عليه .
و { الطلاق } هو حل عقد النكاح الذي بين الرجل والمرأة ، وأصله من الانطلاق ، وهو الذهاب . يقال : طلقت المرأة تطلق - من باب نصر - طلاقاً ، إذا أصبحت مخلاة بدون رجل بعد أن كانت في عصمة رجل معين .
قال الفخر الرازي : كان الرجل في الجاهلية لا يريد المرأة ولا يحب أن يتزوجها غيره ، فيحلف أن لا يقربها ، فكان يتركها بذلك لا أيما ولا ذات يعل والغرض منه مضارة المرأة . ثم إن أهل الإسلام كانوا يفعلون ذلك - أيضاً - فأزال الله ، تعالى - ذلك ، وأمهل الزوج مدة حتى يتروى ويتأمل فإن رأى المصلحة في ترك هذه المضارة فعلها ، وإن رأى المصلحة في المفارقة عن المرأة فارقها " .
ومعنى الآيتين الكريمتين : أن الله - تعالى - جعل للذين يحلفون على ترك مباشرة أزواجهم مدة يرادجعون فيها أنفسهم ، وينتظرون فيها ما يستقر عليه أمرهم ، وهذه المدة هي أربعة أشهر ، فإن رجعوا عما حلفوا عليه من ترك مباشرة الزوجة ، ورأوا أن المصلحة في الرجوع فإن الله - تعالى - يغفر لهم ما فرط منهم . وإن استمروا على ترك مباشرة نسائهم ، وأصروا على ذلك بعد انقضائها فإن شرع الله - تعالى يحكم بالتفريق بينهما ، لأن الحياة الزوجية لا تقوم على البغض والكراهية والهجران ، وإنما تقوم على المحبة والمودة والرحمة وقوله : { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ } متعلق بمحذوف خبر مقدم . وتربص مبتدأ مؤخر ، وقدم الخبر على المبتدأ للاهتمام بهذه التوسعة التي وسع الله بها عليهم ، فهي مدة كافية لأن يراجع المرء فيها نفسه ، ويعود إلى معاشرة زوجه خلالها .
وعدى فعل الإِيلاء بمن مع أن حقه أن يتعدى بعلى ، لأنه تضمن هنا معنى البعد كأنه قال : للذين يؤلون متباعدين من نسائهم .
وأضيف التربص إلى الظرف { أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } على الاتساع إذ الأصل تربصهن في أربعة أشهر . وقوله : { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } دليل الجواب . أي فإن فاؤا إلى زوجاتهم وحنثوا في أيمانهم التي حلفوها بالابتعاد عنهن ، بأن كفروا عنها وتابوا إلى ربهم فحنثهم مغفور لهم لأنه - سبحانه - غفور لمن تاب من بعد ظلمه وأصلح ، رحيم بعباده في كل أوامره وتكاليفه .
استئناف ابتدائي للانتقال إلى تشريع في عمل كان يغلب على الرجال أن يعملوه في الجاهلية ، والإسلام . كان من أشهر الأيمان الحائلة بين البر والتقوى والإصلاح ، أيمان الرجال على مهاجرة نسائهم ، فإنها تجمع الثلاثة ؛ لأن حسن المعاشرة من البر بين المتعاشرين ، وقد أمر الله به في قوله : { وعاشروهن بالمعروف } [ النساء : 19 ] فامتثاله من التقوى ، ولأن دوامه من دوام الإصلاح ، ويحدث بفقده الشقاق ، وهو مناف للتقوى . وقد كان الرجل في الجاهلية يولي من امرأته السنة والسنتين ، ولا تنحل يمينه إلاّ بعد مضي تلك المدة ، ولا كلام للمرأة في ذلك .
وعن سعيد بن المسيب : « كان الرجل في الجاهلية لا يريد المرأة ، ولا يحب أن يطلقها ، لئلا يتزوجها غيره ، فكان يحلف ألاّ يقربها مضارة للمرأة » أي ويقسم على ذلك لكيلا يعود إليها إذا حصل له شيء من الندم . قال : « ثم كان أهل الإسلام يفعلون ذلك ، فأزال الله ذلك ، وأمهل للزوج مدة حتى يتروى » فكان هذا الحكم من أهم المقاصد في أحكام الأيمان ، التي مهد لها بقوله : { ولا تجعلوا الله عرضة } [ البقرة : 224 ] .
والإيلاء : الحلف ، وظاهر كلام أهل اللغة أنه الحلف مطلقاً يقال آلى يولي إيلاء ، وتألى يتألى تألياً ، وائتلى يأتلي ائتلاء ، والاسم الألوَّة والألية ، كلاهما بالتشديد ، وهو واوي فالألوة فعولة والألية فعيلة .
وقال الراغب : « الإيلاء حلف يقتضي التقصير في المحلوف عليه مشتق من الألو وهو التقصير قال تعالى : { لا يألونكم خبالاً } [ آل عمران : 118 ] { ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة } [ النور : 22 ] وصار في الشرع الحلف المخصوص » فيؤخذ من كلام الراغب أن الإيلاء حلف على الامتناع والترك ؛ لأن التقصير لا يتحقق بغير معنى الترك ؛ وهو الذي يشهد به أصل الاشتقاق من الألو ، وتشهد به موارد الاستعمال ، لأنا نجدهم لا يذكرون حرف النفي بعد فعل آلى ونحوه كثيراً ، ويذكرونه كثيراً ، قال المتلمس :
* آلَيْتُ حبَّ العِرَاقِ الدَّهْرَ أَطْعَمُه *
وقال تعالى : { ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا } [ النور : 22 ] أي على أن يؤتوا وقال تعالى هنا : { للذين يؤلون من نسائهم } فَعدَّاه بمِنْ ، ولا حاجة إلى دعوى الحذف والتضمين . وأيَّاً مَّا كان فالإيلاء بعد نزول هذه الآية ، صار حقيقة شرعية في هذا الحَلِف على الوصف المخصوص .
ومجيء اللام في { للذين يؤلون } لبيان أن التربص جعل توسعة عليهم ، فاللام للأَجْل مثل هَذا لَكَ ويعلم منه معنى التخيير فيه ، أي ليس التربص بواجب ، فللمولى أَن يفىء في أقل من الأشهر الأربعة . وعدى فعل الإيلاء بمِن ، مع أن حقه أن يعدَّى بعلى ؛ لأنه ضمن هنا معنى البُعد ، فعدي بالحرف المناسب لفعل البُعد ، كأنه قال : للذين يؤلون متباعدين من نسائهم ، فمِنْ للابتداء المجازي .
والنساء : الزوجات كما تقدم في قوله : { فاعتزلوا النساء في المحيض }
[ البقرة : 222 ] وتعليق الإيلاء باسم النساء من باب إضافة التحليل والتحريم ونحوهما إلى الأعيان ، مثل { حرمت عليكم أمهاتكم } [ النساء : 23 ] وقد تقدم في قوله تعالى : { إنما حرم عليكم الميتة } [ البقرة : 173 ] .
والتربص : انتظار حصول شيء لغير المنتظِر ، وسيأتي الكلام عليه عند قوله تعالى : { والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } [ البقرة : 228 ] ، وإضافة تربص إلى أربعة أشهر إضافة على معنى « في » كقوله تعالى : { بل مكر الليل } [ سبأ : 33 ] .
وتقديم { للذين يؤلون } على المبتدأ المسند إليه ، وهو تربص ، للاهتمام بهذه التوسعة التي وسع الله على الأزواج ، وتشويق لذِكْر المسند إليه . و { فاءوا } رجعوا أي رجعوا إلى قربان النساء ، وحذف متعلق { فاءوا } بالظهور المقصود . والفَيْئة تكون بالتكفير عن اليمين المذكورة في سورة العقود .
وقوله : { فإن الله غفور رحيم } دليل الجواب ، أي فحنثهم في يمين الإيلاء مغفور لهم ؛ لأن الله غفور رحيم . وفيه إيذان بأن الإيلاء حرام ، لأن شأن إيلائهم الوارد فيه القرآن ، قصدُ الإضرار بالمرأة . وقد يكون الإيلاء مباحاً إذا لم يقصد به الإضرار ولم تطل مدته كالذي يكون لقصد التأديب ، أو لقصد آخر معتبر شرعاً ، غير قصد الإضرار المذموم شرعاً . وقد آلى النبي صلى الله عليه وسلم من نسائه شَهْراً ، قيل : لمرض كان برجله ، وقيل : لأجل تأديبهن ؛ لأنهن قد لقين من سعة حلمه ورفقه ما حدا ببعضهن إلى الإفراط في الإدلال ، وحمَل البقية على الاقتداء بالأخريات ، أو على استحسان ذلك . والله ورسوله أعلم ببواطن الأمور .
وأما جواز الإيلاء للمصلحة كالخوف على الولد من الغَيْل ، وكالحُمْية من بعض الأمراض في الرجل والمَرأة ، فإباحته حاصلة من أدلة المصلحة ونفي المضرة ، وإنما يحصل ذلك بالحلف عند بعض الناس ، لما فيهم من ضعف العزم واتهام أنفسهم بالفلتة في الأمرِ ، إن لم يقيدوها بالحلف .
وعَزم الطلاق : التصميم عليه ، واستقرار الرأي فيه بعد التأمل وهو شيء لا يحصل لكل مُولٍ من تلقاء نفسه ، وخاصة إذا كان غالب القصد من الإيلاء المغاضبة والمضارة
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.