ثم بين - سبحانه - وظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم ورد على شبهات المشركين فقال : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً . . . وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ } .
قال الآلوسى : المتبادر أن { كَآفَّةً } حال من الناس ، قدم " إلا " عليه للاهتمام ؛ وأصله من الكف بمعنى المنع ، وأريد به العموم لما فيه من المنع من الخروج ، واشتهر فى ذلك حتى قطع فيه النظر عن معنى المنع بالكلية . فمعنى جاء الناس كافة : جاءوا جميعا :
قال ابن عباس : أرسل الله - تعالى - محمدا صلى الله عليه وسلم إلى العرب والعجم ، فأكرمهم على الله - تعالى - أطوعهم له . .
أى : وما أرسلناك - أيها الرسول الكريم - إلا إلى الناس جميعا ، لتبشر المؤمن منهم بحسن الثواب ، وتنذر من أعرض عن الحق الذى جئت به بسوء العقاب . { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } هذه الحقيقة ، وهى عموم رسالتك وكونك بشيرا ونذيرا .
هذا إعلام من الله تعالى بأنه بعث محمداً صلى الله عليه وسلم إلى جميع العالم ، و «الكافة » الجمع الأكمل من الناس ، و { كافة } نصب على الحال وقدمها للاهتمام ، وهذه إحدى الخصال التي خص بها محمد صلى الله عليه وسلم من بين الأنبياء التي حصرها في قوله «أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي نصرت بالرعب مسيرة شهر وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي وأوتيت جوامع الكلم وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً وبعث كل نبي إلى خاص من الناس وبعثت إلى الأسود والأحمر » ، وفي هذه الخصال زيادة في كتاب مسلم{[9664]} .
وقوله تعالى : { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } يريد بها العموم في الكفرة ، والمؤمنون هم الأقل .
انتقال من إبطال ضلال المشركين في أمر الربوبية إلى إبطال ضلالهم في شأن صدق الرسول صلى الله عليه وسلم .
وغيّر أسلوب الكلام من الأمر بمحاجة المشركين إلى الإِخبار برسالة النبي صلى الله عليه وسلم تشريفاً له بتوجيه هذا الإِخبار بالنعمة العظيمة إليه ، ويحصل إبطال مزاعم المشركين بطريق التعريض .
وفي هذه الآية إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم على منكريها من العرب وإثبات عمومها على منكريها من اليهود .
فإن { كافَّة } من ألفاظ العموم ووقعت هنا حالاً من « الناس » مستثنى من عموم الأحوال وهي حال مقدمة على صاحبها المجرور بالحرف ، وقد مضى الكلام عليها عند قوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة } في سورة البقرة ( 208 ) ، وعند قوله : { وقاتلوا المشركين كافة } في سورة براءة ( 36 ) . وذكرنا أن التحقيق : أن كافة } يوصف به العاقلُ وغيرُه وأنه تعتوره وجوهُ الإِعراب كما هو مختار الزمخشري وشهد له القرآن والاستعمال خلافاً لابن هشام في « مغني اللبيب » ، وأن ما شدد به التّنكير على الزمخشري تهويل وتضييق في الجواز . والتقدير في هذه الآية : وما أرسلناك للناس إلاّ كافّة . وقدّم الحال على صاحبه للاهتمام بها لأنها تجمع الذين كفروا برسالته كلهم .
وتقديم الحال على المجرور جائز على رأي المحققين من أهل العربية وإن أباه الزمخشري هنا وجعله بمنزلة تقديم المجرور على حرف الجر فجعل { كافة } نعتاً لمحذوف ، أي إرساله كافة ، أي عامة . وقد ردّ عليه ابن مالك في « التسهيل » وقال : قد جوزه في هذه الآية أبو علي الفارسي وابن كَيسان . وقلت : وجوّزه ابن عطية والرضيّ . وجعل الزجاج { كافة } هنا حالاً من الكاف في { أرسلناك } وفسره بمعنى جامع للناس في الإِنذار والإِبلاغ ، وتبعه أبو البقاء . قال الزمخشري : وحق التاء على هذا التفسير أن تكون للمبالغة كتاء العلاّمة والراوية وكذلك تقديم المستثنى للغرض أيضاً .
وقد اشترك الزجاج والزمخشري هنا في إخراج { كافة } عن معنى الوصف بإفادة الشمول الذي هو شمول جزئي في غرض معيّن إلى معنى الجمع الكلّي المستفاد من وراء ذلك . وهذا كمن يعمد إلى ( كل ) فيقول : إنك كلٌ للناس ، أي جامع للناس ؛ أو يعمد إلى ( على ) الدالة على الاستعلاء الجزئي فيستعملها بمعنى الاستعلاء الكلي فيقول : إياك وعلى ، يريد إياك والاستعلاءَ .
والبشير النذير تقدم في قوله تعالى : { إنا أرسلناك بالحق بشيراً ونذيراً } في سورة البقرة ( 119 ) .
وأفاد تركيب وما أرسلناك إلا كافة للناس } قصر حالة عموم الرسالة على كاف الخطاب في قوله : { أرسلناك } وهو قصر إضافي ، أي دون تخصيص إرسالك بأهل مكة أو بالعرب أو بمن يجيئك يطلب الإِيمان والإِرشاد كما قال عبد الله بن أُبَيّ ابن سلول للنبيء صلى الله عليه وسلم حين جاء مجلساً هو فيه وقرأ عليهم القرآن فقال ابن أُبي : « لا أحسنَ مما تقول أيها المرء ولكن اقعُد في رحلك فمن جاء فاقرأ عليه » ويقتضي ذلك إثبات رسالته بدلالة الاقتضاء إذ لا يصدق ذلك القصر إلا إذا ثبت أصل رسالته فاقتضى ذلك الردَّ على المنكرين كلهم سواء من أنكر رسالته من أصلها ومن أنكر عمومها وزعم تخصيصها .
وموقع الاستدراك بقوله : { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } رفع ما يتوهم من اغترار المغترين بكثرة عدد المنكرين رسالته بأن كثرتهم تغرّ المتأمل لأنهم لا يعلمون .
ومفعول { يعلمون } محذوف لدلالة ما قبله عليه ، أي لا يعلمون ما بشرتَ به المؤمنين وما أنذرتَ به الكافرين ، أي يحسبون البشارة والنذارة غير صادقتين .
ويجوز أن يكون فعل { يعلمون } منزَّل منزلة اللام مقصوداً منه نفي صفة العلم عنهم على حدّ قوله تعالى : { قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون } [ الزمر : 9 ] أي ولكن أكثر الناس جاهلون قدر البشارة والنذارة .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وما أرسلناك} يعني يا محمد {إلا كافة للناس} عامة للناس {بشيرا} بالجنة لمن أجابه {ونذيرا} من النار {ولكن أكثر الناس} يعني أهل مكة {لا يعلمون}.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره: وما أرسلناك يا محمد إلى هؤلاء المشركين بالله من قومك خاصة، ولكنا أرسلناك كافة للناس أجمعين، العرب منهم والعجم، والأحمر والأسود، بشيرا من أطاعك، ونذيرا من كذّبك.
"وَلَكِنّ أكْثَرَ النّاسِ لا يَعْلَمُونَ" أن الله أرسلك كذلك إلى جميع البشر...
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{كافة للناس} قال بعضهم: أي ما أرسلناك إلا جامعا للناس على الهدى داعيا إليه، ومنهم من يقول: {وما أرسلناك إلا كافة للناس} أي ما أرسلناك إلا إلى الناس جميعا: إلى العرب والعَجَم وإلى الإنس والجن، ليس كسائر الأنبياء، إنما أرسلوا إلى قوم دون قوم وإلى بلدة دون بلدة، وكذلك روي عن نبي الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (أعطيت أربعا لم يعطهن نبيّ قبلي: أحدها: ما ذكرنا (بُعثت إلى الناس جميعا) عامة (إلى الأحمر والأسود والعرب والعجَم. والثاني: جُعلت لي الأرض مسجدا طهورا. [والثالث: نُصرت بالرعب] مسيرة شهرين. [والرابع: أُحلّت لي] الغنائم) [بنحوه البخاري: 335].
{ولكن أكثر الناس لا يعلمون} قال بعضهم: لا يصدّقون، ويحتمل {لا يعلمون} أي لا ينتفعون بما يعملون أو لا يعلمون حقيقة لما لم ينظروا إلى الحجج والآيات، وقد مُكّن لهم لو نظروا، وأُعلموا.
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
أَرسلناكَ مُؤيَّداً بالمعجزات، مُشرَّفاً بجميع الصفات، سيداً في الأرضين والسماوات، ظاهراً لأهل الإيمان، مستوراً عن بصائر أهل الكفران -وإِن كنتَ ظاهراً لهم من حيث العيان، قال تعالى: {وَتَرَاهُمْ يَنُظُرونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [الأعراف: 198.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{إِلاَّ كَافَّةً لّلنَّاسِ} إلا إرسالة عامة لهم محيطة بهم؛ لأنها إذا شملتهم فقد كفتهم أن يخرج منها أحد منهم. وقال الزجاج المعنى أرسلناك جامعاً للناس في الإنذار والإبلاغ، فجعله حالاً من الكاف، وحق التاء على هذا أن تكون للمبالغة كتاء الراوية والعلامة، ومن جعله حالاً من المجرور متقدماً عليه فقد أخطأ؛ لأنّ تقدم حال المجرور عليه في الإحالة بمنزلة تقدم المجرور على الجار.
{بشيرا} أي تحثهم بالوعد {ونذيرا} تزجرهم بالوعيد {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} ذلك لا لخفائه ولكن لغفلتهم.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ختم بوصف الحكمة فتم برهان القدرة التي كان أوجب اعتقادهم لعدم البعث ما يقتضي نقصاً فيها، ولزم عن ذلك التوحيد وبطل الشرك، لم يبق إلا إثبات الرسالة التي أوجب ترديدهم أخباره صلى الله عليه وسلم بين الكذب والجنون الطعن فيها، فعلم أن التقدير: أرسل إليكم رسوله بعزته، مؤيداً له بإعجاز هذا القرآن بحكمته، دليلاً على صدقه وكماله في جبلته، وتأهله لبدائع نعمته ومعالي رحمته، وكان في ذلك دليل الصدق في الرسالة؛ فنسق به قوله معلياً لشأنه بالخطاب في مظهر العظمة، إشارة إلى أنه ينبغي أن يتدرع جلابيب الصبر على جميع المكاره الصادرة من أنواع الخلق في أداء الرسالة بقوله عاطفاً على {ولقد آتينا داود منا فضلاً} مؤكداً تكذيباً لمن يدعي الخصوص: {وما أرسلناك} أي بعظمتنا {إلا كآفة} أي إرسالاً عاماً شاملاً لكل ما شمله إيجادنا، تكفهم عما لعلهم أن ينتشروا إليه من متابعة الأهوية...
{للناس} أي كل من فيه قابلية لأن ينوس من الجن والإنس وغيرهم من جميع ما سوى الله وإن آذوك بكل أذى من النسبة إلى الافتراء أو الجنون أو غيرهما، فحال الإرسال محصور في العموم للغرض الذي ذكر من التدرع لحمل المشاق، لا في الناس، فإنه لو أريد ذلك لقدموا فقيل: إلا للناس كافة، وقد مضى في أوائل الأنعام عن السبكي ما ينفع هنا، والمعنى أن داود عليه السلام فضل بطاعة الجبال له والطير والحديد، وسليمان عليه السلام بما ذكر له، ففضيلتك أنت بالإرسال إلى كل من يمكن نوسه، فالحصى سبحت في كفك، والجبال أمرت بالسير معك ذهباً وفضة،... إلى غير ذلك من كل من ينوس بالفعل أو القابلية -وأما الجن فحالهم مشهور، وأما الملائكة فالدلائل على الإرسال إليهم في غاية الظهور.
ولما كانت البشارة هي الخبر الأول الصدق السار، وكان في ذكرها رد قولهم في الكذب والجنون، قال: {بشيراً ونذيراً} أي لمن أهل للبشارة أو النذارة. ولما كان هذا الإرسال مقروناً بدليله من الإتيان بالمعجز من نفسه من جهة البلاغة في نظمه وبالمعاني المحكمة في البشارة والنذارة وغير ذلك، قلب عليهم قولهم الذي لا دليل عليه ولا شبهة تصوب إليه في حقه صلى الله عليه وسلم بقوله الذي هو أوضح من الشمس دليلاً، وأقوم كل قيل قيلاً:
{ولكن} ولما كان الناس الأولين كل من فيه قابلية النوس وهم جميع الخلائق وأكثرهم غير عاص، أظهر مريداً الثقلين من الجن والإنس فقال (أكثر الناس لا يعلمون) أي ليس لهم قابلية العلم فيعلموا أنك رسول الله فضلاً عن أن إرسالك عام، بل هم كالأنعام، فهم لذلك لا يتأملون فيقولون "افترى أم به جنة "ونحو هذا من غير تدبر لما في هذا الكتاب من الحكمة والصواب مع الإعجاز في حالي الإطناب والإيجاز، والإضمار والإبراز، فيحملهم جهلهم على المخالفة والإعراض.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
يجيء هذا البيان بعد الجولة الماضية، وما فيها من تقرير فردية التبعة؛ وأنه ليس بين أصحاب الحق وأصحاب الباطل إلا الدعوة والبيان، وأمرهم بعد ذلك إلى الله. ويتبعه هنا بيان وظيفة النبي [صلى الله عليه وسلم] وجهلهم بحقيقتها، واستعجالهم له بما يعدهم ويوعدهم من الجزاء؛ وتقرير أن ذلك موكول إلى موعده المقدور له في غيب الله: (وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً).. هذه هي حدود الرسالة العامة للناس جميعاً.. التبشير والإنذار. وعند هذا الحد تنتهي؛ أما تحقيق هذا التبشير وهذا الإنذار فهو من أمر الله: (ولكن أكثر الناس لا يعلمون...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
انتقال من إبطال ضلال المشركين في أمر الربوبية إلى إبطال ضلالهم في شأن صدق الرسول صلى الله عليه وسلم. وغيّر أسلوب الكلام من الأمر بمحاجة المشركين إلى الإِخبار برسالة النبي صلى الله عليه وسلم تشريفاً له بتوجيه هذا الإِخبار بالنعمة العظيمة إليه، ويحصل إبطال مزاعم المشركين بطريق التعريض.
وفي هذه الآية إثبات رسالة محمد صلى الله عليه وسلم على منكريها من العرب وإثبات عمومها على منكريها من اليهود؛ فإن {كافَّة}... وذكرنا أن التحقيق: أن "كافة "يوصف به العاقلُ وغيرُه، وأنه تعتوره وجوهُ الإِعراب كما هو مختار الزمخشري وشهد له القرآن والاستعمال خلافاً لابن هشام في « مغني اللبيب»، وأن ما شدد به التّنكير على الزمخشري تهويل وتضييق في الجواز، والتقدير في هذه الآية: وما أرسلناك للناس إلاّ كافّة، وقدّم الحال على صاحبه للاهتمام بها لأنها تجمع الذين كفروا برسالته كلهم، وتقديم الحال على المجرور جائز على رأي المحققين من أهل العربية وإن أباه الزمخشري هنا وجعله بمنزلة تقديم المجرور على حرف الجر فجعل {كافة} نعتاً لمحذوف، أي إرساله كافة، أي عامة، وقد ردّ عليه ابن مالك في « التسهيل» وقال: قد جوزه في هذه الآية أبو علي الفارسي وابن كَيسان. وقلت: وجوّزه ابن عطية والرضيّ. وجعل الزجاج {كافة} هنا حالاً من الكاف في {أرسلناك} وفسره بمعنى جامع للناس في الإِنذار والإِبلاغ، وتبعه أبو البقاء. قال الزمخشري: وحق التاء على هذا التفسير أن تكون للمبالغة كتاء العلاّمة والراوية وكذلك تقديم المستثنى للغرض أيضاً. وقد اشترك الزجاج والزمخشري هنا في إخراج {كافة} عن معنى الوصف بإفادة الشمول الذي هو شمول جزئي في غرض معيّن إلى معنى الجمع الكلّي المستفاد من وراء ذلك. وهذا كمن يعمد إلى (كل) فيقول: إنك كلٌ للناس، أي جامع للناس؛ أو يعمد إلى (على) الدالة على الاستعلاء الجزئي فيستعملها بمعنى الاستعلاء الكلي فيقول: إياك وعلى، يريد إياك والاستعلاءَ.
وأفاد تركيب وما أرسلناك إلا كافة للناس} قصر حالة عموم الرسالة على كاف الخطاب في قوله: {أرسلناك} وهو قصر إضافي، أي دون تخصيص إرسالك بأهل مكة أو بالعرب أو بمن يجيئك يطلب الإِيمان والإِرشاد كما قال عبد الله بن أُبَيّ ابن سلول للنبيء صلى الله عليه وسلم حين جاء مجلساً هو فيه، وقرأ عليهم القرآن فقال ابن أُبي: « لا أحسنَ مما تقول أيها المرء، ولكن اقعُد في رحلك فمن جاء فاقرأ عليه» ويقتضي ذلك إثبات رسالته بدلالة الاقتضاء إذ لا يصدق ذلك القصر إلا إذا ثبت أصل رسالته فاقتضى ذلك الردَّ على المنكرين كلهم سواء من أنكر رسالته من أصلها ومن أنكر عمومها وزعم تخصيصها.
وموقع الاستدراك بقوله: {ولكن أكثر الناس لا يعلمون} رفع ما يتوهم من اغترار المغترين بكثرة عدد المنكرين رسالته بأن كثرتهم تغرّ المتأمل لأنهم لا يعلمون. ومفعول {يعلمون} محذوف لدلالة ما قبله عليه، أي لا يعلمون ما بشرتَ به المؤمنين وما أنذرتَ به الكافرين، أي يحسبون البشارة والنذارة غير صادقتين. ويجوز أن يكون فعل {يعلمون} منزَّل منزلة اللام مقصوداً منه نفي صفة العلم عنهم على حدّ قوله تعالى: {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [الزمر: 9] أي ولكن أكثر الناس جاهلون قدر البشارة والنذارة...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
«كافّة» من مادّة «كفّ» وتعني الكفّ من يد الإنسان، وبما أنّ الإنسان يقبض على الأشياء بكفّه تارةً ويدفعها عنه بكفّه تارةً اُخرى، فلذا تستخدم هذه الكلمة للقبض أحياناً، وللمنع اُخرى، وقد احتمل المفسّرون الاحتمالين هنا:
الأوّل بمعنى «الجمع» وفي هذه الحالة يكون مفهوم الآية «إنّنا لم نرسلك إلاّ لجميع الناس» أي عالمية دعوة الرّسول (صلى الله عليه وآله).
وذُكر للآية تفسير آخر مأخوذ من المعنى الثّاني لكلمة «كفّ» وهو (المنع)، وطبقاً لهذا التّفسير تكون «كافّة» صفة للرسول (صلى الله عليه وآله) ويكون المقصود أنّ الله سبحانه وتعالى أرسل الرّسول (صلى الله عليه وآله) كمانع ورادع وكافّ للناس عن الكفر والمعصية والذنوب،... ولكن يبدو أنّ التّفسير الأوّل أقرب.
على كلّ حال، كما أنّ لكلّ الناس غريزة جلب النفع ودفع الضرر فقد كان للرسل أيضاً مقام «البشارة» و «الإنذار»؛ لكي يوظّفوا هاتين الغريزتين ويحرّكوهما، ولكن أكثر المغفّلين الجهّال بدون الالتفات إلى مصيرهم ينهضون للوقوف في وجههم ويتنكّرون تلك المواهب الإلهية العظيمة...