ثم وصف - سبحانه - الجنات وأهلها بما يحمل العقلاء على العمل الصالح الذى يوصلهم إليها بفضله - تعالى - وكرمه فقال : { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاَماً . . . } .
واللغو : هو فضول الكلام ، وما لا قيمة له منه ، ويدخل فيه الكلام الباطل .
وقوله { إِلاَّ سَلاَماً } الظاهر فيه أنه استثناء منقطع ، لأن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه .
أى : لا يسمعون فيها كلاماً لغوا ، لكنهم يسمعون فيها سلاماً . أى : تسليماً من الملائكة عليهم ، كما قال - تعالى - : { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ . . } أو يسمعون فيها تسليماً وتحية من بعضهم على بعض ، كما قال - تعالى - : { تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } قال الآلوسى : قوله إلا سلاما ، استثناء منقطع ، والسلام إما بمعناه المعروف .
أى : لكن يسمعون تسليم الملائكة عليهم ، أو تسليم بعضهم على بعض ، أو بمعنى الكلام السالم من العيب والنقص ، أى : لكن يسمعون كلاماً سالماً من العيب والنقص .
وجوز أن يكون استثناء متصلاً ، وهو من تأكيد المدح بما يشبه الدم ، كما فة قوله :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم . . . بهن فلول من قراع الكتائب
وهو يفيد نفى سماع اللغو بالطريق البرهانى الأقوى . والاتصال على هذا على طريق الفرض والتقدير ، ولولا ذلك لم يقع موقعه من الحسن والمبالغة " .
وقوله - تعالى - : { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } بيان لدوام رزقهم فيها بدون انقطاع ، إذ ليس فى الجنة نهار ولا ليل ، ولا بكرة ولا عشى . . .
قال القرطبى ما ملخصه قوله { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } أى : لهم ما يشتهون من المطاعم والمشارب بكرة وعشيا ، أى : فى قدر هذين الوقتين ، إذ لا بكرة ثم - أى هناك - ولا عشيا . . . وقيل : رزقهم فيها غير منقطع .
وخرج الحكيم الترمذى فى نوادر الأصول من حديث أبان عن الحسن وأبى قلابة قالا : " قال رجل يا رسول الله ، هل فى الجنة من ليل ؟ قال - صلى الله عليه وسلم - : " وما هيجك على هذا " ؟ قال : سمعت الله - تعالى - يذكر فى الكتاب : { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } فقلت : الليل بين البكرة والعشى . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ليس هناك ليل وإنما هو ضوء ونور ، يرد الغدو على الرواح ، والرواح على الغدو ، وتأتيهم طرف الهدايا من الله لمواقيت الصلاة التى كانوا يصلون فيها فى الدنيا ، وتسلم عليهم الملائكة " " .
ثم قال الإمام القرطبى : " وهذا فى غاية البيان لمعنى الآية . . . " .
و «اللغو » الساقط من القول ، وهو أنواع مختلفة كلها ليست في الجنة ، وقوله { إلا سلاماً } ، استثناء منقطع ، المعنى لكن يسمعون كلاماً هو تحية الملائكة لهم في كل الأوقات . وقوله { بكرة وعشياً } ، يريد في التقدير أي يأتيهم طعامهم مرتين في مقدار اليوم والليلة من الزمن ، ويروى أن أهل الجنة تنسد لهم الأبواب بقدر الليل في الدنيا فهم يعرفون البكرة عند انفتاحها والعشي عند انسدادها ، وقال مجاهد : ليس بكرة ولا عشياً لكن يؤتى به على قدر ما كانوا يشتهون في الدنيا ، وقد ذكر نحوه قتادة ، أن تكون مخاطبة بما تعرفه العرب وتستغربه في رفاهة العيش ، وجعل ذلك عبارة عن أن رزقهم يأتي على أكمل وجوهه . وقال الحسن : خوطبوا على ما كانت العرب تعلم من أفضل العيش وذلك أن كثيراً من العرب إنما كان يجد الطعام المرة في اليوم وهي غايته ، وكان عيش أكثرهم من شجر البرية ومن الحيوان ونحوه ألا ترى قول الشاعر : [ المنسرح ]
عصرته نطفة تضمنها . . . لصب توقى مواقع السبل
أو وجبة من جناة أشكله . . . إن لم يزغها بالقوس لم تنلِ{[7990]}
جملة { لا يسْمعُونَ فيها لغْواً } حال من { عبَادَه } .
واللغو : فضول الكلام وما لا طائل تحته . وإنفاؤه كناية عن انتفاء أقل المكدرات في الجنة ، كما قال تعالى : { لا تسمع فيها لاغية } [ الغاشية : 11 ] ، وكناية عن جعل مجازاة المؤمنين في الجنة بضد ما كانوا يلاقونه في الدنيا من أذى المشركين ولغوهم .
وقوله { إلاَّ سلاما } استثناء منقطع وهو مجاز من تأكيد الشيء بما يشبه ضدّه كقول النّابغة :
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم *** بهن فلول من قراع الكتائب
أي لكن تسمعون سلاماً . قال تعالى : { تحيتهم فيها سلام } [ إبراهيم : 23 ] وقال { لا يسمعون فيها لغواً ولا تأثيماً إلا قيلاً سلاماً سلاماً } [ الواقعة : 25 ، 26 ] .
وجيء بالجملة الاسمية للدلالة على ثبات ذلك ودوامه ، فيفيد التكرر المستمر وهو أخص من التكرر المفاد بالفعل المضارع وأكثر . وتقديم الظرف للاهتمام بشأنهم ، وإضافة رزق إلى ضميرهم لزيادة الاختصاص .
والبُكرة : النصف الأول من النهار ، والعَشي : النصف الأخير ، والجمع بينهما كناية عن استغراق الزمن ، أي لهم رزقهم غير محصور ولا مقدّر بل كلما شاءوا فلذلك لم يذكر اللّيل .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.