التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{لَّا يَسۡمَعُونَ فِيهَا لَغۡوًا إِلَّا سَلَٰمٗاۖ وَلَهُمۡ رِزۡقُهُمۡ فِيهَا بُكۡرَةٗ وَعَشِيّٗا} (62)

ثم وصف - سبحانه - الجنات وأهلها بما يحمل العقلاء على العمل الصالح الذى يوصلهم إليها بفضله - تعالى - وكرمه فقال : { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً إِلاَّ سَلاَماً . . . } .

واللغو : هو فضول الكلام ، وما لا قيمة له منه ، ويدخل فيه الكلام الباطل .

وقوله { إِلاَّ سَلاَماً } الظاهر فيه أنه استثناء منقطع ، لأن المستثنى ليس من جنس المستثنى منه .

أى : لا يسمعون فيها كلاماً لغوا ، لكنهم يسمعون فيها سلاماً . أى : تسليماً من الملائكة عليهم ، كما قال - تعالى - : { جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ . . } أو يسمعون فيها تسليماً وتحية من بعضهم على بعض ، كما قال - تعالى - : { تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } قال الآلوسى : قوله إلا سلاما ، استثناء منقطع ، والسلام إما بمعناه المعروف .

أى : لكن يسمعون تسليم الملائكة عليهم ، أو تسليم بعضهم على بعض ، أو بمعنى الكلام السالم من العيب والنقص ، أى : لكن يسمعون كلاماً سالماً من العيب والنقص .

وجوز أن يكون استثناء متصلاً ، وهو من تأكيد المدح بما يشبه الدم ، كما فة قوله :

ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم . . . بهن فلول من قراع الكتائب

وهو يفيد نفى سماع اللغو بالطريق البرهانى الأقوى . والاتصال على هذا على طريق الفرض والتقدير ، ولولا ذلك لم يقع موقعه من الحسن والمبالغة " .

وقوله - تعالى - : { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } بيان لدوام رزقهم فيها بدون انقطاع ، إذ ليس فى الجنة نهار ولا ليل ، ولا بكرة ولا عشى . . .

قال القرطبى ما ملخصه قوله { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } أى : لهم ما يشتهون من المطاعم والمشارب بكرة وعشيا ، أى : فى قدر هذين الوقتين ، إذ لا بكرة ثم - أى هناك - ولا عشيا . . . وقيل : رزقهم فيها غير منقطع .

.

وخرج الحكيم الترمذى فى نوادر الأصول من حديث أبان عن الحسن وأبى قلابة قالا : " قال رجل يا رسول الله ، هل فى الجنة من ليل ؟ قال - صلى الله عليه وسلم - : " وما هيجك على هذا " ؟ قال : سمعت الله - تعالى - يذكر فى الكتاب : { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } فقلت : الليل بين البكرة والعشى . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " ليس هناك ليل وإنما هو ضوء ونور ، يرد الغدو على الرواح ، والرواح على الغدو ، وتأتيهم طرف الهدايا من الله لمواقيت الصلاة التى كانوا يصلون فيها فى الدنيا ، وتسلم عليهم الملائكة " " .

ثم قال الإمام القرطبى : " وهذا فى غاية البيان لمعنى الآية . . . " .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{لَّا يَسۡمَعُونَ فِيهَا لَغۡوًا إِلَّا سَلَٰمٗاۖ وَلَهُمۡ رِزۡقُهُمۡ فِيهَا بُكۡرَةٗ وَعَشِيّٗا} (62)

و «اللغو » الساقط من القول ، وهو أنواع مختلفة كلها ليست في الجنة ، وقوله { إلا سلاماً } ، استثناء منقطع ، المعنى لكن يسمعون كلاماً هو تحية الملائكة لهم في كل الأوقات . وقوله { بكرة وعشياً } ، يريد في التقدير أي يأتيهم طعامهم مرتين في مقدار اليوم والليلة من الزمن ، ويروى أن أهل الجنة تنسد لهم الأبواب بقدر الليل في الدنيا فهم يعرفون البكرة عند انفتاحها والعشي عند انسدادها ، وقال مجاهد : ليس بكرة ولا عشياً لكن يؤتى به على قدر ما كانوا يشتهون في الدنيا ، وقد ذكر نحوه قتادة ، أن تكون مخاطبة بما تعرفه العرب وتستغربه في رفاهة العيش ، وجعل ذلك عبارة عن أن رزقهم يأتي على أكمل وجوهه . وقال الحسن : خوطبوا على ما كانت العرب تعلم من أفضل العيش وذلك أن كثيراً من العرب إنما كان يجد الطعام المرة في اليوم وهي غايته ، وكان عيش أكثرهم من شجر البرية ومن الحيوان ونحوه ألا ترى قول الشاعر : [ المنسرح ]

عصرته نطفة تضمنها . . . لصب توقى مواقع السبل

أو وجبة من جناة أشكله . . . إن لم يزغها بالقوس لم تنلِ{[7990]}

الوجبة الأكلة في اليوم .


[7990]:الوجبة: الأكلة في اليوم والليلة وفي حديث الحسن: "يطعم عشرة مساكين وجبة واحدة"، والأشكلة: واحدة الأشكل وهو السدر الجبلي، وفي اللسان (شكل): "قال أبو حنيفة: أخبرني بعض العرب أن الأشكل شجر مثل شجر العناب في شوكه وعقف أغصانه، غير أنه أصغر ورقا وأكثر أفنانا، وهو صلب جدا، وله نبيقة حامضة شديدة الحموضة، منابته شواهق الجبال، تتخذ منه القسي، وإذا لم تكن شجرته عتيقة متقادمة كان عودها أصفر شديد الصفرة، وإذا تقادمت شجرته جاء عودها نصفين، نصف شديد الصفرة، ونصف شديد السواد". ويرغها: يطلبها ويريدها، من أراغ بمعنى أراد وطلب. والنصف الأول من البيت شاهد في اللسان على أن الأشكلة هي السدرة الجبلية، وهو غير منسوب. والشاعر يصف أكلة العربي في البادية بأنها مرة واحدة في اليوم، وأنها من شجر البرية، ولا يحصل عليها إلا ببحث ومشقة وتعب.