التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{قَالَ يَـٰٓـَٔادَمُ أَنۢبِئۡهُم بِأَسۡمَآئِهِمۡۖ فَلَمَّآ أَنۢبَأَهُم بِأَسۡمَآئِهِمۡ قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكُمۡ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ غَيۡبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَأَعۡلَمُ مَا تُبۡدُونَ وَمَا كُنتُمۡ تَكۡتُمُونَ} (33)

وبعد أن بين القرآن أن الملائكة قد اعترفوا بالعجز عن معرفة ما سئلوا عنه ، وجه - سبحانه - الخطاب إلى آدم ، يأمره فيه بأن يخبر الملائكة بالأسماء التي سئلوا عنها ، ولم يكونوا على علم بها ، فقال - تعالى - :

{ قَالَ يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إني أَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } .

ففي هذه الآية الكريمة أخبرنا الله - تعالى - أنه قد أذن لآدم في أن يخبر الملائكة بالأسماء التي فاتتهم معرفتها ليظهر لهم فضل آدم ، ويزدادوا اطمئنانا إلى أن إسناد الخلافة إليه ، إنما هو تدبير قائم على حكمة بالغة .

وعلم الغيب يختص به واجب الوجود - سبحانه لأنه هو الذي يعلم المغيبات بذاته ، وأما العلم بشيء من المغيبات الحاصل من تعليم الله فلا يقال لصاحبه إنه يعلم الغيب .

وقوله - تعالى - { أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إني أَعْلَمُ . . . } إلخ الآية ، استحضار وتأكيد لمعنى قوله قبل ذلك ، { إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } . وإعادة له على وجه من التفصيل أفاد أن علمه يشمل ما يظهرونه بأقوالهم أو أفعالهم ، وما يضمرونه في أنفسهم .

وفي قوله : { أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ . . . } إلخ تعريض بمعاتبتهم على ترك الأولى ، حيث بادروا بالسؤال عن الحكمة ، وكان الأولى أن يأخذوا بالأدب المناسب لمقام الألوهية ، فيتركوا السؤال عنها إلى أن يستبين لهم أمرها بوجه من وجوه العلم .

ومن الفوائد التي تؤخذ من هذه الآيات ، أن الله - تعالى - قد أظهر فيها فضل آدم - عليه السلام - من جهة أن علمه مستمد من تعليم الله له ، فإن إمداد الله له بالعلم يدل على أنه محاط منه برعاية ضافية ، ثم إن العلم الذي يحصل عن طريق النظر والفكر قد يعتريه الخلل ، ويحوم حوله الخطأ . فيقع صاحبه في الإِفساد من حيث إنه يريد الإِصلاح ، بخلاف العلم الذي يتلقاه الإِنسان من تعليم الله ، فإنه علم مطابق للواقع قطعاً ، ولا يخشى من صاحبه أن يحيد عن سبيل الإِصلاح ، وصاحب هذا العلم هو الذي يصلح للخلافة في الأرض ، ومن هنا ، كانت السياسة الشرعية أرشد من كل سياسة ، والأحكام النازلة من السماء أعدل من القوانين الناشئة في الأرض .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قَالَ يَـٰٓـَٔادَمُ أَنۢبِئۡهُم بِأَسۡمَآئِهِمۡۖ فَلَمَّآ أَنۢبَأَهُم بِأَسۡمَآئِهِمۡ قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكُمۡ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ غَيۡبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَأَعۡلَمُ مَا تُبۡدُونَ وَمَا كُنتُمۡ تَكۡتُمُونَ} (33)

قَالَ يَا آَدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ( 33 )

{ أنبئهم } معناه أخبرهم ، وهو فعل يتعدى إلى مفعولين أحدهما بحرف جر وقد يحذف حرف الجر أحياناً ، تقول نبئت زيداً .

قال سيبويه : معناه نبئت عن زيد . والضمير في { أنبئهم } عائد على الملائكة بإجماع ، والضمير في أسمائهم مختلف فيه حسب الاختلاف في الأسماء التي علمها آدم .

قال أبو علي : «كلهم قرأ » أنبئهُم «بالهمز وضم الهاء ، إلا ما روي عن ابن عامر ، » أنبئِهم «بالهمز وكسر الهاء ، وكذلك روى بعض المكيين عن ابن كثير ، وذلك على إتباع كسرة الهاء لكسرة الباء ، وإن حجز الساكن فحجزه لا يعتد به » .

قال أبو عمرو الداني : «وقرأ الحسن والأعرج : » أنبيهم «بغير همز » .

قال ابن جني : «وقرأ الحسن أنبهِم » ، على وزن «أعطهِم » ، وقد روي عنه ، «انبيهم » بغيرهمز « .

قال أبو عمرو : » وقد روي مثل ذلك عن ابن كثير من طريق القواس « . ( {[450]} )

قال أبو الفتح : أما قراءة الحسن ، » أنبهم « » كأعطهم «فعلى إبدال الهمزة ياء ، على أنك تقول » أنبيت «كأعطيت ، وهذا ضعيف في اللغة ، لأنه بدل لا تخفيف والبدل عندنا لا يجوز إلا في ضرورة شعر . ( {[451]} )

قال بعض العلماء : إن في قوله تعالى : { فلما أنبأهم } نبوة لآدم عليه السلام ، إذ أمره الله أن ينبىء الملائكة بما ليس عندهم من علم الله عز وجل .

ويجوز فتح الياء من » إني «وتسكينها( {[452]} ) .

قال الكسائي : » رأيت العرب إذا لقيت عندهم الياء همزه فتحوها « .

قال أبو علي : » كان أبو عمرو يفتح ياء الإضافة المكسور ما قبلها عند الهمزة المفتوحة والمكسورة ، إذا كانت متصلة باسم ، أو بفعل ، ما لم يطل الحرف فإنه يثقل فتحها ، نحو قوله تعالى : { ولا تفتني ألا } [ التوبة : 49 ] وقوله تعالى : { فاذكروني أذكركم } [ البقرة : 152 ] ، والذي يخف ، { إني أرى } [ الأنفال : 48 ، يوسف : 43 ، الصافات : 102 ] و { أجري إلا على الله } [ يونس : 72 ، هود : 29 ، سبأ : 47 ] .

وقوله تعالى : { أعلم غيب السموات والأرض } معناه : ما غاب عنكم ، لأن الله لا غيب عنده من معلوماته الكل معلوم له( {[453]} ) وما في موضع نصب «بأعلم » .

قال المهدوي : ويجوز أن يكون قوله { أعلم } اسماً بمعنى التفضيل في العلم ، فتكون { ما } في موضع خفض بالإضافة .

قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : فإذا قدر الأول اسماً فلا بد بعده من إضمار فعل ينصب { غيب } ، تقديره إني أعلم من كل أعلم غيب ، وكونها في الموضعين فعلاً مضارعاً أخصر وأبلغ( {[454]} ) .

واختلف المفسرون في قوله تعالى : { ما تبدون وما كنتم تكتمون } فقالت طائفة : ذلك على معنى العموم( {[455]} ) في معرفة أسرارهم وظواهرهم وبواطنهم أجمع .

وحكى مكي أن المراد بقول { ما تبدون } قولهم : { أتجعل فيها } الآية .

وحكى المهدوي أن { ما تبدون } قولهم : ليخلق ربنا ما شاء فلن يخلق أعلم منا ولا أكرم عليه ، فجعل هذا مما أبدوه لما قالوه .

وقال الزهراوي : «ما أبدوه هو بدارهم بالسجود لآدم » .

واختلف في المكتوم فقال ابن عباس وابن مسعود : المراد ما كتمه إبليس في نفسه من الكبر والكفر ، ويتوجه قوله { تكتمون } للجماعة والكاتم واحد في هذا القول على تجوز العرب واتساعها ، كما يقال لقوم قد جنى سفيه منهم : أنتم فعلتم كذا ، أي منكم فاعله .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : وهذا مع قصد تعنيف ، ومنه قوله تعالى : { إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون }( {[456]} ) [ الحجرات : 4 ] وإنما ناداه منهم عيينة ، وقيل الأقرع ، وقال قتادة : المكتوم هو ما أسره بعضهم إلى بعض من قولهم : ليخلق ربنا ما شاء ، فجعل هذا فيما كتموه لما أسروه ، - { وإذ } من قوله : { وإذ قلنا } معطوف على { إذ } المتقدمة .

وقول الله تعالى وخطابه للملائكة متقرر قديم في الأزل ، بشرط وجودهم وفهمهم( {[457]} ) ، وهذا هو الباب كله في أوامر الله سبحانه ونواهيه ومخاطباته .


[450]:- أحمد بن محمد أبو الحسن المعروف بالقواس إمام مكة في القراءة.
[451]:- في هذا مناقشة، قال أبو (ح): وما ذكر من أنه لا يجوز إلا في ضرورة الشعر ليس بصحيح ثم قال: "حكى الأخفش في الأوسط أن العرب تحول من الهمزة موضع اللام ياء فيقولون: قريت، وأخطيت، وتوضيت" وعلّق أبو (ح) على كلام الأخفش فقال: "ودل ذلك على أنه ليس من ضرائر الشعر كما ذكر أبو الفتح" البحر المحيط 1/149.
[452]:- هذا ثاني موضع ذكرت فيه ياء من ياءات الإضافة المختلف فيها في القرآن، وهي ياء المتكلمن فقرأ نافع، وابن كثير، والبصري هنا بفتح الياء، والباقون بتسكينها، واتفق السبعة على السكون في قوله تعالى: [ولا تفتني ألا]، [أرني أنظر]، [فاتبعني أهدك]، [وترحمني أكن]، ولا تظهر علة لاختلافهم واتفاقهم إلا اتباع الرواية، وتلك سنة متبعة في القرآن.
[453]:- فيه أن أحدا لا يعلم من العلم إلا ما علمه الله ولا يعلم من الغيب إلا ما أعلمه الله به، كالأنبياء فإنهم يعلمونه تفصيلا، والأولياء فإنه يعلمونه إجمالا، وكل من حاول ادعاء علم الغيب من كاهن أو عراف أو منجم أو مشعوذ فهو كاذب.
[454]:- نقل أبو (ح) في تفسيره كلام ابن عطية عن المهدوي، ثم قال: "وما نقله ابن عطية عن المهدوي وهم، والذي ذكره المهدوي في تفسيره ما نصه-: [وأعلم ما تبدون] يجوز أن ينتصب [ما] بأعلم على أنه فعل، ويجوز أن يكون بمعنى عالم، أو يكون [ما] جرا بالإضافة، ويجوز أن يقدر التنوين في [أعلم] إذا قدرته بمعنى عالم، وتنصب [ما] به فيكون بمعنى حواج بيت الله –انتهى- ثم علق أبو (ح) فقال: "فأنت ترى أنه لم يذهب إلى أن (أفعل) للتفضيل، وأنه لم يجز الجر في [ما] والنصب وتكون أفعل اسما إلا إذا كان بمعنى فاعل لا أفعل تفضيل، ولا يمكن أن يقال ما نقله ابن عطية عن المهدوي من جواز أن يكون أعلم أفعل بمعنى التفضيل وخفض (ما) بالإضافة البتة". البحر المحيط 1/150.
[455]:- هذا أولى الأقوال وأفضلها، وقوله تعالى: [وأعلم ما تبدون وما كنتم تكتمون] نسق على جملة [ألم أقل لكم] الخ، وليس نسقا على [أعلم]، إذ هو ليس داخلا تحت القول.
[456]:- الآية 4 من سورة الحجرات.
[457]:- نقل (ق) رحمه الله هذه العبارة بالنص عند قوله تعالى: [وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة] إذ قول الله هناك كقوله هنا، وفي (خ) ما ذكره (أي ابن عطية) هو عقيدة أهل السنة. ونحن ننقل هنا من كلام الأئمة إن شاء الله ما يتبين به كلامه ويزداد وضوحا. قال ابن رشد: قوله صلى الله عليه وسلم: "أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق" لا يفهم منه أن لله عز وجل كلمات غير تامات، لأن كلماته هي قوله، وكلامهت هو صفة من صفات ذاته يستحيل عليها النقص. وفي الحديث دليل واضح على أن كلماته عز وجل غير مخلوقة، إذ لا يستعاذ بمخلوق، وهذا هو قول أهل السنة. والحق أن كلام الله عز وجل صفة من صفات ذاته قديم غير مخلوق لأن الكلام هو المعنى القائم في النفس، والنطق به عبارة عنه، قال الله عز وجل: [ويقولون في أنفسهم] فأخبر أن القول معنى يقوم في النفس- وتقول: في نفسي كلام أريد أن أعلمك به، فحقيقة كلام الرجل هو المفهوم من كلامه، وأما الذي تسمعه منه فهو عبارة عنه- وكذلك كلام الله عز وجل القديم الذي هو صفة من صفات ذاته هو المفهوم من قراءة القارئ لا نفس قراءته الت يتسمعها، لأن نفس قراءته التي تسمعها محدثة لم تكن حتى قرأ بها فكانت، وهذا كله بين إلا لمن أعمى الله بصيرته. انتهى بلفظه من البيان. وقال الإمام الغزالي رحمه الله بعد كلام له نحو ما تقدم لابن رشد: "وكما عقل قيام طلب التعلم وإرادته بذات الوالد قبل أن يخلق ولده، حتى إذا خلق ولده وعقل، وخلق الله سبحانه علما بما في قلب أبيه من الطلب صار مأمورا بذلك الطلب الذي قام بذات أبيه، ودام وجوده إلى وقت معرفة ولده- قليعقل قيام الطلب الذي دل عليه قوله عز وجل: [فاخلع نعليك]- بذات الله تعالى ومصير موسى عليه السلام، سامعا لذلك الكلام، مخاطبا به بعد وجوده، إذ خلقت له معرفة بذلك الطلب، ومعرفة بذلك الكلام القديم" انتهى. من الإحياء. "وتلخيص المعتقد: أن الله عز وجل لم يزل آمرا للمعدومات بشر وجودها، قادرا مع تأخر المقدورات، عالما مع تأخر المعلومات فكل ما يقتضي الاستقبال فهو بحسب المأمورات إذ المحدثات تجيء بعد أن لم تكن، وكل ما يُسند إلى الله تعالى من قدرة وعلم وأمر فهو قديم لم يزل" انتهى كلامه رحمه الله. وهذه المسألة من جملة المسائل الثلاث التي تعتبر من أصعب ما في علم الكلام.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قَالَ يَـٰٓـَٔادَمُ أَنۢبِئۡهُم بِأَسۡمَآئِهِمۡۖ فَلَمَّآ أَنۢبَأَهُم بِأَسۡمَآئِهِمۡ قَالَ أَلَمۡ أَقُل لَّكُمۡ إِنِّيٓ أَعۡلَمُ غَيۡبَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَأَعۡلَمُ مَا تُبۡدُونَ وَمَا كُنتُمۡ تَكۡتُمُونَ} (33)

{ قَالَ يَاءَادَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَآئِهِمْ } .

لما دخل هذا القول في جملة المحاورة جردت الجملة من الفاء أيضاً كما تقدم في نظائره لأنه وإن كان إقبالاً بالخطاب على غير المخاطَبين بالأقوال التي قبله فهو بمثابة خطاب لهم لأن المقصود من خطاب آدم بذلك أن يَظهر عقبَه فضلُه عليهم في العلم من هاته الناحية فكانَ الخطاب بمنزلة أن يكون مسوقاً إليهم لقوله عقب ذلك : { قال ألم أقل لكم إني أعلم غيب السماوات والأرض } .

وابتداء خطاب آدم بندائه مع أنه غير بعيد عن سماع الأمر الإلهي للتنويه بشأن آدم وإظهار اسمه في الملأ الأعلى حتى ينال بذلك حسن السمعة مع ما فيه من التكريم عند الآمر لأن شأن الآمر والمخاطِب بالكسر إذا تلطف مع المخاطَب بالفتح أن يذكر اسمه ولا يقتصر على ضمير الخطاب حتى لا يساوي بخطابه كل خطاب ، ومنه ما جاء في حديث الشفاعة بعد ذكر سجود النبيء وحمده الله بمحامد يلهمه إياها فيقول : « يا محمد ارفع رأسك سل تُعْطَ واشفع تشفَّع » وهذه نكتة ذكر الاسم حتى في أثناء المخاطبة كما قال امرؤ القيس :

* أفاطم مهلاً بعضَ هذا التدلل *

وربما جعلوا النداء طريقاً إلى إحضار اسمه الظاهر لأنه لا طريق لإحضاره عند المخاطبة إلا بواسطة النداء فالنداء على كل تقدير مستعمل في معناه المجازي .

{ فَلَمَّآ أَنبَأَهُم بِأَسْمَآئِهِم } .

الإنباء إخبارهم بالأسماء ، وفيه إيماء بأن المخبر به شيء مهم . والضمير المجرور بالإضافة ضمير المسميات مثل ضمير { عرضهم } ، وفي إجرائه على صيغة ضمائر العقلاء ما قرر في قوله : { ثم عرضهم } [ البقرة : 31 ] .

وقوله : { فلما أنبأهم بأسمائهم } الضمير في { أنبأ } لآدم وفي { قال } ضمير اسم الجلالة وإنما لم يؤت بفاعله اسماً ظاهراً مع أنه جرى على غير من هو له أي عقب ضمائر آدم في قوله : { أنبئهم } و { أنبأهم } لأن السياق قرينة على أن هذا القول لا يصدر من مثل آدم .

{ قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إني أَعْلَمُ غَيْبَ السموات والارض } .

جواب { لما } والقائل هو الله تعالى وهو المذكور في قوله : { وإذ قال ربك } [ البقرة : 30 ] وعادت إليه ضمائر { قال إني أعلم } [ البقرة : 30 ] و { علّم } [ البقرة : 31 ] و { عرضهم } وما قبله من الضمائر وهو تذكير لهم بقوله لهم في أول المحاورة : { إني أعلم ما لا تعلمون } وذلك القول وإن لم يكن فيه : { أعلم غيب السموات والأرض } صراحة إلا أنه يتضمنه لأن عموم { ما لا تعلمون } يشمل جميع ذلك فيكون قوله هنا : { إني أعلم غيب السموات والأرض } بياناً لما أجمل في القول الأول لأنه يساويه ما صدقا لأن { ما لا تعلمون } هو غيب السموات والأرض وقد زاد البيان هنا على المبين بقوله :

{ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } .

وإنما جيء بالإجمال قبل ظهور البرهان وجيء بالتفصيل بعد ظهوره على طريقة الحِجاج وهو إجمال الدعوى وتفصيل النتيجة لأن الدعوى قبل البرهان قد يتطرقها شك السامع بأن يحملها على المبالغة ونحوها وبعد البرهان يصح للمدعى أن يوقف المحجوج على غلطه ونحوه وأن يتبجح عليه بسلطان برهانه فإن للحق صولة . ونظيره قول صاحب موسى : { سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبراً أما السفينة } [ الكهف : 78 ، 79 ] إلى قوله : { وما فعلته عن أمري } [ الكهف : 82 ] ثم قال : { ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبراً } [ الكهف : 82 ] . فجاء باسم إشارة البعيد تعظيماً للتأويل بعد ظهوره . وهذه طريقة مسلوكة للكتاب والخطباء وهي ترجع إلى قاعدة أخذ النتائج من المقدمات في صناعة الإنشاء كما بينته في كتاب « أصول الإنشاء والخطابة » وأكثر الخطباء يفضي إلى الغرض من خطبته بعد المقدمات والتمهيدات وقد جاءت الآية على طريقة الخطباء والبلغاء فيما ذكرنا تعليماً للخلق وجرياً على مقتضى الحال المتعارف من غير مراعاة لجانب الألوهية فإن الملائكة لا يمترون في أن قوله تعالى الحق ووعده الصدق فليسوا بحاجة إلى نصب البراهين .

و { كُنتُمْ } في قوله : { وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ } الأظهر أنها زائدة لتأكيد تحقق الكتمان فإن الذي يعلم ما اشتد كتمانه يعلم ما لم يحرص على كتمانه ويعلم ظواهر الأحوال بالأولى .

وصيغة المضارع في { تُبْدُونَ } و{ تَكْتُمُونَ } للدلالة على تجدد ذلك منهم فيقتضي تجدد علم الله بذلك كلما تجدد منهم .

ولبعضهم هنا تكلفات في جعل { كنتم } للدلالة على الزمان الماضي وجعل { تبدون } للاستقبال وتقدير اكتفاء في الجانبين أعني وما كنتم تبدون وما تكتمون واكتفاء في غيب السماوات والأرض يعني وشهادتهما وكل ذلك لا داعي إليه .

وقد جعل الله تعالى علم آدم بالأسماء وعجز الملائكة عن ذلك علامة على أهلية النوع البشري لخلافته في الأرض دون الملائكة لأن الخلافة في الأرض هي خلافة الله تعالى في القيام بما أراده من العُمران بجميع أحواله وشعبه بمعنى أن الله تعالى ناط بالنوع البشري إتمام مراده من العالم فكان تصرف هذا النوع في الأرض قائماً مقام مباشرة قدرة الله تعالى بجميع الأعمال التي يقوم بها البشر ، ولا شك أن هذه الخلافة لا تتقوم إلا بالعلم أعني اكتساب المجهول من المعلوم وتحقيق المناسبة بين الأشياء ومواقعها ومقارناتها وهو العلم الاكتسابي الذي يدرك به الإنسان الخير والشر ويستطيع به فعل الخير وفعل الشر كل في موضعه ولا يصلح لهذا العِلم إلا القوةُ الناطقة وهي قوة التفكير التي أجلَى مظاهرها معرفة أسماء الأشياء وأسماء خصائصها والتي تستطيع أن تصدر الأضداد من الأفعال لأن تلك القوة هي التي لا تنحصر متعلقاتها ولاتقف معلوماتها كما شوهد من أحوال النوع الإنساني منذ النشأة إلى الآن وإلى ما شاء الله تعالى . والملائكة لما لم يخلقوا متهيئين لذلك حتى أَعْجَزَهم وضع الأسماء للمسميات وكانوا مجبولين على سجية واحدة وهي سجية الخير التي لا تختلف ولا تتخلف لم يكونوا مؤهلين لاستفادة المجهولات من المعلومات حتى لا تقف معارفهم .

ولم يكونوا مصادر للشرور التي يتعين صدورها لإصلاح العالم فخيرتهم وإن كانت صالحة لاستقامة عالمهم الطاهر لم تكن صالحة لنظام عالم مخلوط ، وحكمة خلطه ظهور منتهى العلم الإلهي كما قال أبو الطيب :

ووضع الندى في موضع السيف بالعُلا ***مضرٌّ كوضع السيف في موضع الندَى

والآية تقتضي مزية عظمى لهذا النوع في هذا الباب وفي فضل العلم ولكنها لا تدل على أفضلية النوع البشري على الملائكة إذ المزية لا تقتضي الأفضلية كما بينه الشهاب القراقي في الفرق الحادي والتسعين فهذه فضيلة من ناحية واحدة وإنما يعتمد التفضيل المطلق مجموعَ الفضائل كما دل عليه حديث موسى والخضر .

والاستفهام في قوله : { ألم أقل لكم } إلخ تقريري لأن ذلك القول واقع لا محالة والملائكة لا يعلمون وقوعه ولا ينكرونه . وإنما أوقع الاستفهام على نفي القول لأن غالب الاستفهام التقريري يقحم فيه ما يفيد النفي لقصد التوسيع على المقرَّر حتى يُخيَّل إليه أنه يُسأل عن نفي وقوع الشيء فإن أراد أن يزعم نفيه فقد وسَّع المقرِّر عليه ذلك ولكنه يتحقق أنه لا يستطيع إنكاره فلذلك يقرره على نفيه ، فإذا أقر كان إقراره لازماً له لا مناص له منه . فهذا قانون الاستفهام التقريري الغالب عليه وهو الذي تكرر في القرآن وبنى عليه صاحب « الكشاف » معاني آياته التي منها قوله تعالى : { ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير } [ البقرة : 106 ] وتوقف فيه ابن هشام في « مغني اللبيب » ورده عليه شارحه . وقد يقع التقرير بالإثبات على الأصل نحو : { أأنت قلتَ للناس } [ المائدة : 116 ] وهو تقرير مُراد به إبطال دعوى النصارى ، وقوله : { قالوا أأنت فعلتَ هذا بآلهتنا يا إبراهيم } [ الأنبياء : 62 ] .