ثم حكى - سبحانه - بعد ذلك شبهة ثالثة ، تتعلق بشخصية النبى صلى الله عليه وسلم حيث أنكروا أن يكون الرسول من البشر وأن يكون آكلا للطعام وماشيا فى الأسواق ، فقال - تعالى - : { وَقَالُواْ مَالِ هذا . . . . } .
ذكر بعض المفسرين فى سبب نزول هذه الآيات أن جماعة من قريش قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم إن كنت تريد بما جئت به مالا جمعنا لك المال حتى تكون أغنانا ، وإن كنت تريد ملكا ، جعلناك ملكا علينا . . .
فقال صلى الله عليه وسلم : " ما أريد شيئا مما تقولون ، ولكن الله تعالى بعثنى إليكم رسولا ، وأنزل على كتابا ، وأمرنى أن أكون لكم بشيراً ونذيراً ، فبلغتكم رسالة ربى ، ونصحت لكم . فإن تقبلوا منى ما جئتكم به فهو حظكم فى الدنيا والآخرة ، وإن تردوه علىّ أصبر لأمر الله - تعالى - حتى يحكم بينى وبينكم " .
فقالوا : فإن كنت غير قابل شيئا مما عرضنا عليك ، فسل ربك أن يبعث معك ملكا يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك ، وسله أن يجعل لك جنانا وقصورا . . .
فقال لهم صلى الله عليه وسلم : " ما أنا بفاعل ، وما أنا بالذى يسأل ربه هذا ، وما بعثت إليكم بهذا ، ولكن الله - تعالى - بعثنى بشيرا ونذيرا " فأنزل الله تعالى فى قولهم ذلك . . .
والضمير فى قوله - تعالى : { وَقَالُواْ } يعود إلى مشركى قريش و " ما " استفهامية بمعنى إنكار الوقوع ونفيه ، وهى مبتدأ ، والجار والمجرور وبعدها الخبر . وجملة " يأكل الطعام " حال من الرسول .
أى : أن مشركى قريش لم يكتفوا بقولهم إن محمد صلى الله عليه وسلم قد افترى القرآن ، وإن القرآن أساطير الأولين . بل أضافوا إلى ذلك أنهم قالوا على سبيل السخرية والتهكم والإنكار لرسالته : كيف يكون محمدا صلى الله عليه وسلم رسولا ، وشأنه الذى نشاهده بأعيننا . أنه " يأكل الطعام " كما يأكل سائر الناس " ويمشى فى الأسواق " أى : ويتردد فيها كما نتردد طلبا للرزق . " لولا أنزل إليه ملك " أى : هلا أنزل إليه ملك يعضده ويساعده ويشهد له بالرسالة " فيكون " هذا الملك " معه نذيرا " أى : منذرا من يخالفه بسوء المصير .
الضمير في قوله { قالوا } لقريش ، وذلك أنهم كان لهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلس مشهور ، ذكره ابن إسحاق في السير وغيره ، مضمنة أن سادتهم عتبة بن ربيعة وغيره اجتمعوا معه فقالوا يا محمد إن كنت تحب الرياسة وليناك علينا ، وإن كنت تحب المال جمعنا لك من أموالنا{[8781]} ، فلما أبى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجعوا في باب الاحتجاج عليه فقالوا له ما بالك وأنت رسول الله تأكل الطعام وتقف بالأسواق وتريد التماس الرزق ، أي إن من كان رسول الله مستغن عن جميع ذلك ، ثم قالوا له سل ربك أن ينزل معك ملكاً ينذر معك أو يلقي إليك كنزاً تنفق منه ، أو يرد لك جبال مكة ذهباً أو تزال الجبال ويكون مكانها جنات تطرد فيها المياه ، وأشاعوا هذه المحاجة فنزلت الآية وكتبت اللام مفردة من قولهم { ما ل } هذا إما لأن على المصحف قطع لفظه فاتبعه الكاتب ، وإما لأنهم رأوا أن حروف الجر بابها الانفصال نحو «في ومن وعلى وعن » . وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو وعاصم وابن عامر «يأكل منها » بالياء ، وقرأ حمزة والكسائي «نأكل منها » بالنون وهي قراءة ابن وثاب وابن مصرف وسليمان بن مهران{[8782]} .
انتقال من حكاية مطاعنهم في القرآن وبيان إبطالها إلى حكاية مطاعنهم في الرسول عليه الصلاة والسلام .
والضمير عائد إلى الذين كفروا ، فمدلول الصفة مراعىً كما تقدم .
وقد أوردوا طعنهم في نبوءة النبي صلى الله عليه وسلم بصيغة الاستفهام عن الحالة المختصة به إذ أوردوا اسم الاستفهام ولام الاختصاص والجملة الحالية التي مضمونها مثارُ الاستفهام .
والاستفهام تعجيبي مستعمل في لازمه وهو بطلان كونه رسولاً بناء على أن التعجب من الدعوى يقتضي استحالتها أو بطلانها . وتركيب { ما لهذا } ونحوه يفيد الاستفهام عن أمر ثابت له ، فاسم الاستفهام مبتدأ و { لهذا } خبر عنه فمثار الاستفهام في هذه الآية هو ثبوت حال أكل الطعام والمشي في الأسواق للذي يدعي الرسالة من الله .
فجملة : { يأكل الطعام } جملة حال . وقولهم : { لهذا الرسول } أجروا عليه وصف الرسالة مجاراة منهم لقوله وهم لا يؤمنون به ولكنهم بنوا عليه ليتأتى لهم التعجب والمراد منه الإحالة والإبطال .
والإشارة إلى حاضر في الذهن ، وقد بين الإشارة ما بعدها من اسم معرّف بلام العهد وهو الرسول .
وكنّوا بأكل الطعام والمشي في الأسواق عن مماثلة أحواله لأحوال الناس تذرعاً منهم إلى إبطال كونه رسولاً لزعمهم أن الرسول عن الله تكون أحواله غير مماثلة لأحوال الناس ، وخصّوا أكل الطعام والمشي في الأسواق لأنهما من الأحوال المشاهدة المتكررة ، ورد الله عليهم قولهم هذا بقوله : { وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق } [ الفرقان : 20 ] . ثم انتقلوا إلى اقتراح أشياء تؤيد رسالته فقالوا : { لولا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيراً } . وخصوا من أحوال الرسول حال النذارة لأنها التي أنبتت حقدهم عليه .
و ( لولا ) حرف تحضيض مستعمل في التعجيز ، أي لو أنزل إليه ملك لاتبعناه .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.