التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{قُلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ بَدَأَ ٱلۡخَلۡقَۚ ثُمَّ ٱللَّهُ يُنشِئُ ٱلنَّشۡأَةَ ٱلۡأٓخِرَةَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (20)

ثم أمر - سبحانه - رسوله صلى الله عليه وسلم أن يلفت أنظار قومه إلى التأمل والتدبر فى أحوال هذا الكون ، لعل هذا التأمل يديهم إلى الحق فقال : { قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ بَدَأَ الخلق ثُمَّ الله يُنشِىءُ النشأة الآخرة } .

أى : قل - أيها الرسول الكريم - لهؤلاء المنكرين للبعث : سيحوا فى الأرض ، وتتبعوا أحوال الخلق ، وتأملوا كيف خلقهم الله - تعالى - ابتداء على أطوار مختلفة ، وطبائع متمايزة . وأحوال شتى . . ثم قل لهم بعد كل ذلك ، الله الذى خلق الخلق ابتداء على تلك الصور المتنوعة المتكاثرة ، هو وحده الذى { يُنشِىءُ النشأة الآخرة } أى : هو وحده الذى ينشئهم ويخلقهم ويعيدهم إلى الحاية مرة أخرى ، بعد أن أوجهم فى المرة الأولى .

فجملة { ثُمَّ الله يُنشِىءُ النشأة الآخرة } معطوفة على قوله : { سِيرُواْ } وداخلة معها فى حيز القول .

والكيفية في هذه الآية باعتبار بدء الخلق على أطوار شتى ، وصور متعددة . .

وفى الآية السابقة وهى قوله : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ الله الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } باعتبار بدء الخلق من مادة وغيرها .

والمقصود بالأمر بالسير : التدبر والتأمل والاعتبار ، لأن من شأن التنقل فى جنبات الأرض ، أنه يوقظ الحس ، ويبعث على التفكير ، ويفتح العين والقلب على المشاهدة الجديدة التى لم تألفها العين ، ولم يتأملها القلب قبل ذلك .

وجاء الأمير بالسير عاما ، لأن كل إنسان - فى كل زمان ومكان - يأخذ وجوه اعلبرة والعظة - عن طريق هذا السير ما يتناسب مع عقله ، وثقافته ، وبيئته ، وفكره ، ومستواه المادى ، والاجتماعى ، والحضارى .

وقوله - سبحانه - : { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } تعليل لما قبله . أى : هو - سبحانه - قادر على النشأة الأولى ، وعلى النشأة الآخرة ، لأن قدرته لا يعجزنها شئ ولا يحول دون نفاذها حائل .

وهو - سبحانه - { يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } ويرحم من يشاء برحمته ، { وَإِلَيْهِ } وحده لا إلى غيره { تُقْلَبُونَ } أى : ترجعون جميعا فيحاسبكم على أعمالكم .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{قُلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ بَدَأَ ٱلۡخَلۡقَۚ ثُمَّ ٱللَّهُ يُنشِئُ ٱلنَّشۡأَةَ ٱلۡأٓخِرَةَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (20)

ثم أمر تعالى نبيه ، ويحتمل أن يكون إبراهيم ، ويحتمل أن يكون محمداً ، إن كان في قصة إبراهيم اعتراض بين كلامين بأن يأمرهم على جهة الاحتجاج بالسير في الأرض والنظر في كل قطر وفي كل أمة قديماً وحديثاً ، فإن ذلك يوجد أن لا خالق إلا الله تعالى ولا يبتدىء بالخلق سواه ، ثم ساق على جهة الخبر أن الله تعالى يعيد وينشيء نشأة القيام من القبور{[9232]} ، وقرأت فرقة «النشأة » ، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو «النشاءة » على وزن الفعالة وهي قراءة الأعرج ، وهذا كما تقول رأفة ورآفة ، وقرأ الباقون «النشأة » على وزن الفعلة ، وقرأ الزهري «النشّة » بشين مشددة في جميع القرآن ، والبعث من القبور يقوم دليل العقل على جوازه وأخبرت الشرائع وقوعه ووجوده .


[9232]:في قوله تعالى: {أو لم يروا...} الآية صرح الله تعالى باسمه في قوله {كيف يبدىء الله الخلق} ، ثم أضمر في قوله: {ثم يعيده}، وفي الآية التي بعدها عكس، فأضمر في قوله : {كيف بدأ الخلق} ثم أبرزه في قوله: {ثم الله ينشىء} حتى لا تخلو الجملتان من صريح اسمه تبارك وتعالى، ودل إبرازه في الآية الثانية على تفخيم النشأة الآخرة، وتعظيم أمرها، وتقرير وجودها، إذ كان نزاع الكفار فيها، فكأنه قيل: ثم ذلك الذي بدأ الخلق هو الذي ينشىء النشأة الآخرة: فكأن التصريح باسمه أفخم في إسناد النشأة إليه. ذكر ذلك أبو حيان في البحر.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{قُلۡ سِيرُواْ فِي ٱلۡأَرۡضِ فَٱنظُرُواْ كَيۡفَ بَدَأَ ٱلۡخَلۡقَۚ ثُمَّ ٱللَّهُ يُنشِئُ ٱلنَّشۡأَةَ ٱلۡأٓخِرَةَۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيۡءٖ قَدِيرٞ} (20)

اعتراض انتقالي من الإنكار عليهم ترك الاستدلال بما هو بمرأى منهم ، إلى إرشادهم للاستدلال بما هو بعيد عنهم من أحوال إيجاد المخلوقات وتعاقب الأمم وخلف بعضها عن بعض ، فإن تعوُّد الناس بما بين أيديهم يصرف عقولهم عن التأمل فيما وراء ذلك من دلائل دقائقها على ما تدل عليه ، فلذلك أمر الله رسوله أن يدعوهم إلى السير في الأرض ليشاهدوا آثار خلق الله الأشياء من عدم فيوقنوا أن إعادتها بعد زوالها ليس بأعجب من ابتداء صنعها .

وإنما أمر بالسير في الأرض لأن السير يدني إلى الرائي مشاهدات جمّة من مختلف الأرضين بجبالها وأنهارها ومحوِيَّاتها ويمر به على منازل الأمم حاضرها وبائدها فيرى كثيراً من أشياء وأحوال لم يعتد رؤية أمثالها ، فإذا شاهد ذلك جال نظر فكره في تكوينها بعد العدم جَوَلاناً لم يكن يخطر له ببال حينما كان يشاهد أمثال تلك المخلوقات في ديار قومه ، لأنه لما نشأ فيها من زمن الطفولة فما بعده قبل حدوث التفكير في عقله اعتاد أن يمر ببصره عليها دون استنتاج من دلائلها حتى إذا شاهد أمثالها مما كان غائباً عن بصره جالت في نفسه فكرة الاستدلال ، فالسيرُ في الأرض وسيلة جامعة لمختلف الدلائل فلذلك كان الأمر به لهذا الغرض من جوامع الحكمة . وجيء في جانب بدء الخلق بالفعل الماضي لأن السائر ليس له من قرار في طريقه فندر أن يشهد حدوث بدء مخلوقات ، ولكنه يشهد مخلوقات مبدوءة من قبل فيفطن إلى أن الذي أوجدها إنما أوجدها بعد أن لم تكن وأنه قادر على إيجاد أمثالها فهو بالأحرى قادر على إعادتها بعد عدمها .

والاستدلال بالأفعال التي مضت أمكن لأن للشيء المتقرر تحققاً محسوساً .

وجيء في هذا الاستدلال بفعل النظر لأن إدراك ما خلقه الله حاصل بطريق البصر وهو بفعل النظر أولى وأشهر لينتقل منه إلى إدراك أنه ينشىء النشأة الآخرة .

ولذلك أعقب بجملة { ثم الله ينشىء النشأة الآخرة } فهي جملة مستقلة . ( وثم ) للترتيب الرتبي كما تقدم في قوله { ثم يعيده } [ العنكبوت : 19 ] .

وإظهار اسم الجلالة بعد تقدم ضميره في قوله { كيف بدأ الخلق } وكان مقتضى الظاهر أن يقول : ثم ينشىء . قال في « الكشاف » : لأن الكلام كان واقعاً في الإعادة فلما قررهم في الإبداء بأنه من الله احتج عليهم بأن الإعادة إنشاء مثل الإبداء ، فالذي لم يعجزه الإبداء فهو الذي وجب أن لا تُعجزه الإعادة . فكأنه قال : ثم ذاك الذي أنشأ النشأة الأولى هو الذي ينشىء النشأة الآخرة فللتنبيه على هذا المعنى أبرز اسمه وأوقعه مبتدأ اه . يريد أن العدول عن الإضمار إلى الإسم الظاهر لتسجيل وقوع هذا الإنشاء الثاني ، فتكون الجملة مستقلة حتى تكون عنوان اعتقاد بمنزلة المثل لأن في اسم الجلالة إحضاراً لجميع الصفات الذاتية التي بها التكوين ، وليفيد وقوع المسند إليه مخبراً عنه بمسند فعلي معنى التقوي .

وجملة { إن الله على كل شيء قدير } تذييل ، أي قدير على البعث وعلى كل شيء إذا أراده . وإظهار اسم الجلالة لتكون جملة التذييل مستقلة بنفسها فتجري مجرى الأمثال .

و { النشأة } بوزن فعلة : المرة من النّشء وهو الإيجاد ، وكذلك قرأها الجمهور ، عبر عنها بصيغة المرة لأنها نشأة دفعية تخالف النّشء الأول ويقال : النّشاءة بمد بعد الشين بوزن الكآبة ومثلها الرأفة والرءافة .

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو { النشاءة } بالمدّ . ووصفها ب { الآخرة } إيماء بأنها مساوية للنشأة الأولى فلا شبهة لهم في إحالة وقوعها . وأما قوله تعالى { ولقد علمتم النشأة الأولى } [ الواقعة : 62 ] فذلك على سبيل المشاكلة التقديرية لأن قوله قبله { ونُنشئكم فيما لا تعلمون } [ الواقعة : 61 ] يتضمن النشأة الآخرة فعبر عن مقابلتها بالنشأة .