التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{دَرَجَٰتٖ مِّنۡهُ وَمَغۡفِرَةٗ وَرَحۡمَةٗۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمًا} (96)

ثم فصل - سبحانه - هذا الأجر العظيم فقال { دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } .

أى فضل الله - تعالى - المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين عن الجهاد بغير عذر بالأجر العظيم ؛ الذى يرفعهم عند الله - تعالى - درجات عالية ويقربهم من مقامات قدسه ، ويغفر لهم ما فرط منهم ، ويتغمدهم بسابغ رحمته وكان الله كثير الغفران لأوليائه واسع الرحمة بأهل طاعته .

وقوله { دَرَجَاتٍ مِّنْهُ } بدل أو عطف بيان من قوله { أَجْراً عَظِيماً } . وقوله { مِّنْهُ } جار ومجرور متعلق بمحذوف وقع صفة لدرجات .

ونكرت الدرجات للإِشعار بأنها درجات عظيمة لا يحدها الحصر ، ولا يعينها المقدار ، بل هى شرف عظيم لا يناله إلا المقربون الأبرار .

هذا ، وما جرينا عليه من أن المجاهدين يمتازون عن القاعدين بعذر بدرجة ، ويمتازون عن القاعدين بغير عذر بدرجات هو رأى كثير من المفسرين ، وقد عبر عنه صاحب الكشاف بقوله : فإن قلت : قد ذكر الله - تعالى - مفضلين درجة ومفضلين درجات فمن هم ؟ قلت : أما المفضلون درجة واحدة فهم الذين فضلوا على القاعدين الأضراء .

وأما المفضلون درجات فالذين فضلوا على القاعدين الذين أذن لهم فى التخلف اكتفاء بغيرهم ، لأن الغزو فرض كفاية .

ومن المفسرين من يرى أن الذين فضل الله عليهم المجاهدين بدرجة وبدرجات هم صنف واحد ، وهم الذين قعدوا عن الجهاد بدون عذر . أما الذين قعدوا بعذر فهم متساوون فى الأجر مع المجاهدين .

وعلى هذا الرأى سار الآلوسى فى تفسيره فقد قال ما ملخصه : { فَضَّلَ الله المجاهدين } فى سبيله { بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القاعدين } من المؤمنين غير أولى الضرر { دَرَجَةً } لا يقادر قدرها . { وَكُلاًّ } أى : كل واحد من الفريقين المجاهدين والقاعدين { وَعَدَ الله الحسنى } . وقوله { وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين } عطف على ما قبله { أَجْراً عَظِيماً } .

ثم قال : ولعل تكرير التفضيل بطريق العطف المنبئ عن المغايرة . وتقييده تارة بدرجة وتارة بدرجات مع اتحاد المفضل والمفضل عليه . إما لتنزيل الاختلاف العنوانى بين التفضيلين وبين الدرجة والدرجات منزلة الاختلاف الذاتى تمهيداً لسلوك طريق الإِبهام ثم التفسير . . . . وإما للاختلاف بالذات بين التفضيلين والدرجة والدرجات .

وقد حكى الإِمام القرطبى هذين الوجهين فقال : قوله - تعالى - { فَضَّلَ الله المجاهدين بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القاعدين دَرَجَةً } وقد قال بعد هذا : { دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً } فقال قوم : التفضيل بالدرجة ثم بالدرجات إنما هو مبالغى وبيان وتأكيد .

وقيل : فضل الله المجاهدين على القاعدين من أولى الضرر بدرجة واجدة . وفضل الله المجاهدين على القاعدين من غير عذر درجات .

والذى نراه أولى من هذين القولين من قال بأن الله - تعالى - فضل المجاهدين على القاعدين بعذر بدرجة ، وفضل المجاهدين على القاعدين بغير عذر بدرجات ، وذلك لأن هذا التفسير هو المأثور عن ابن عباس وغيره من الصحابة . فقد قال ابن عباس فى قوله - تعالى - { فَضَّلَ الله المجاهدين بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى القاعدين دَرَجَةً } أراد بالقاعدين هنا أولى الضرر ولأن القاعدين بعذر وإن كانوا لهم من حسن النية ما يرفع منزلتهم إلا أن المجاهدين الذين باشروا الجهاد وعرضوا أنفسهم لأخطار القتال يفوقونهم منزلة وأجراً .

وهذا ما يقتضيه منطق العقول البشرية ، أما عطاء الله بعد ذلك لكل فريق فمرجعه إليه وحده على حسب ما تقتضيه حكمته وسعة رحمته .

هذا ، وقد أخذ العلماء من هذه الآية الكريمة أن الجهاد من أفضل الأعمال وأن المجاهدين لهم عند الله - تعالى - منازل عالية . ومن الأحاديث التى وردت فى هذا المعنى ما أخرجه الشيخان عن أبى هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " إن فى الجنة مائة درجة أعدها للمجاهدين فى سبيله . بين كل درجتين كما بين السماء والأرض . فإذا سألتم الله فاسألوه الفردون فإنه أوسط الجنة ومنه تتفجر أنهار الجنة " .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{دَرَجَٰتٖ مِّنۡهُ وَمَغۡفِرَةٗ وَرَحۡمَةٗۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمًا} (96)

وقال ابن محيريز : «الدرجات » هي درجات في الجنة ، سبعون ، ما بين الدرجتين حضر{[4223]} الفرس الجواد المضمر سبعين سنة ، وقال بهذا القول الطبري ورجحه ، وقال ابن زيد : «الدرجات » في الآية هي السبع المذكورات في سورة براءة ، فهي قوله تعالى : { ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأ ولا نصب ولا مخمصة في سبيل الله }{[4224]} الآيات فذكر فيها الموطىء الغائظ للكفار ، والنيل من العدو ، والنفقة الصغيرة والكبيرة ، وقطع الأودية والمسافات .

قال القاضي أبو محمد رحمه الله : ودرجات الجهاد لو حصرت أكثر من هذه ، لكن يجمعها بذل النفس والاعتمال بالبدن والمال في أن تكون كلمة الله هي العليا ، ولا شك أن بحسب مراتب الأعمال ودرجاتها تكون مراتب الجنة ودرجاتها ، فالأقوال كلها متقاربة ، وباقي الآية وعد كريم وتأنيس . ونصب { درجات } إما على البدل من الأجر ، وإما على إضمار فعل على أن تكون تأكيداً للأجر ، كما تقول : لك عليَّ ألف درهم عرفاً ، كأنك قلت أعرفها عرفاً .


[4223]:- يقال: أحضر الفرس أو الرجل: وثب في عدوه، فهو وهي: محضار أو محضير، والجمع محاضير، فالمراد هنا: عدو الفرس، أو وثبه عند العدو بسرعة.
[4224]:- من الآية (120) من سورة (براءة)، والسبع التي يشير إليها ابن زيد مذكورات في الآيتين (120-121).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{دَرَجَٰتٖ مِّنۡهُ وَمَغۡفِرَةٗ وَرَحۡمَةٗۚ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُورٗا رَّحِيمًا} (96)

انتصب درجات على البدل من قوله { أجراً عظيماً } ، أو على الحال باعتبار وصف درجات بأنّها { منه } أي من الله .

وجُمع { درجات } لإفادة تعظيم الدرجة لأنّ الجمع لما فيه من معنى الكثرة تستعار صيغته لمعنى القوّة ، ألا ترى أنّ علقمة لمّا أنشد الحارثَ بنَ جبلة ملِكَ غسان قولَه يستشفع لأخيه شَأس بن عبْدة :

وفي كلّ حي قد خَبَطْتَ بنعمة *** فحقّ لشَأس من نَداك ذَنُوب

قال له الملك « وأذنبة » .

إ