ثم أمر - سبحانه - رسوله - صلى الله عليه وسلم - أن يعلن للناس هذه الحقيقة : وهى أن محبة الله ورسوله يجب أن تفوق كل محبة لغيرهما فقال - تعالى - : { قُلْ } يا محمد لمن اتبعك من المؤمنين : { إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ } الذين أنتم بضعة منهم ، { وَأَبْنَآؤُكُمْ } الذين هم قطعة منكم { وَإِخْوَانُكُمْ } الذين تربطكم بهم وشيجة الرحم { وَأَزْوَاجُكُمْ } اللائى جعل الله بينكم وبينهن مودة ورحمة { وَعَشِيرَتُكُمْ } أى : أقاربكم الأدنون الذين تربطكم بهم رابطة المعاشرة والعصبة { وَأَمْوَالٌ اقترفتموها } أى : اكتسبتموها فهى عزيزة علكيم .
وأصل القرف والاقتراف قشر اللحاء عن الشجر ، والجلدة عن الجرح ثم استعير الاقتراف للاكتاسب مطلقاً :
{ وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا } أى : تخافون بوارها وعدم رواجها بسبب اشتغالكم بغيرها من متطلبات الايمان .
يقال : كسد الشئ من باب نصر وكرم . كساداً وكسوداً . إذا قل رواجه وربحه . { وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ } أى : ومنازل تعجبكم الإِقامة فيها .
قل لهم يا محمد : إن كان كل ذلك - من الآباء والأبناء والإِخوان والأزواج والعشيرة ، والأموال ، والتجارة ، والمساكن - { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ } .
أى : إن كانت هذه الأشياء أحسن في نفوسكم وأقرب إلى قلوبكم من طاعة الله وطاعة رسوله ومن الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الحق ، فانتظروا حتى يحكم الله فيكم ، وهو العذاب العاجل أو العقاب الآجل .
فالجملة الكريمة تهديد وتخويف لمن آثر محبة الأباء والأبناء . . . على محبة الله ورسوله ، وعلى الجهاد من أجل إعلاء كلمة الدين .
وقوله : { والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين } تذييل قصد به تأكيد التهديد السابق أى : والله - تعالى - قد اقتضت حكمته أن لا يوفق القوم الخارجين عن حدود دينه وشريعته إلى ما فيه مثوبته ورضاه .
هذا ، ومن الأحكام والآداب التي أخذها العلماء من هاتين الآيتين ما يأتى :
( 1 ) تحريم موالاة الكافرين مهما بغلت درجة قرابتهم ، واعتبار - هذه الموالاة من الكبائر ، لوصف فاعلها بالظلم : قال - تعالى - : { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فأولئك هُمُ الظالمون } .
( 2 ) قوة إيمان الصحابة ، وسرعة امتثالهم لأوامر الله ، فإنهم في سبيل عقيدتهم قاطعوا أقرب الناس إليهم ممن خالفوهم في الدين ، بل وحاربوهم وقتلوهم .
قال ابن كثير : روى الحافظ البيهقى من حديث عبد الله بن شوذب قال : جعل أبو أبى عبيدة بن الجراح ينعت له الآلهة يوم بدر وجعل أبو عبيدة يحيد عنه . فلما أكثر الجراح ، قصده ابنه أبو ع بيدة فقتله ، فأنزل الله فيه هذه الآية - التي بآخر سورة المجادلة - { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانوا آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أولئك كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ أولئك حِزْبُ الله أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون } ( 3 ) إن المؤمن لا يتم إيمانه إلا إذا كانت محبته لله ورسوله مقدمة على كل محبوب ، وقد وردت عدة أحاديث في هذه المعنى ، " ومن ذلك ما أخرجه البخارى والإِمام أحمد بن أبى عقيل زهرة بن معبد أنه سمع جده عبد الله بن هشام قال : كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله لأنت أحب إلى من كل شئ إلا من نفسى . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه " فقال عمر : فأنت والله أحب إلى من نفسى . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الآن يا عمر " " .
( 4 ) في الآية الثانية دليل على أنه إذا تعارضت مصلحة من مصالح الدين مع مهمات الدنيا ، وجب ترجيح جانب الدين على الدنيا ليبقى الدين سليماً ، وهذا عمل لا يستطيعه إلا الأتقياء .
. ولذا قال الإِمام الزمخشرى : وهذه آية شديدة لا ترى أشد منها . كأنها تنعى على الناس ما هم عليه من رخاوة عقد الدين واضطراب حبل اليقين . فلينصف أورع الناس وأتقاهم من نفسه ، هل يجد عنده من التصلب في ذات الله والثبات على دينه ، ما يستحب له دينه على الآباء والأبناء والإِخموان والعشائر والمال والمساكن وجميع حظوظ الدنيا ويتجرد منها لأجله ؟ أم يزوى الله عنه أحقر شئ منها لمصلحته ، فلا يدرى أى طرفيه أطول ؟ ويغويه الشيطان عن أجَلِّ حظ من حظوظ الدين ، فلايبالى كأنما وقع على أنفه ذباب فطيره ؟
( 5 ) قال بعض العلماء : وليس المطلوب . من قوله - تعالى { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ . . . } إلخ . أن ينقطع المسلم عن الأهل والعشيرة والزوج والولد والمال والعمل والمتاع واللذة ، ولا أن يترهبن ويزهد في طيبات الحياة . . كلا إنما تريد هذه العقيدة أن يفرغ لها القلب ، ويخلص لها الحب ، وأن تكون هي المسيطرة الحاكمة ، وهى المحركة الدافعة . فإذا تم لها هذا فلا حرج عندئذ أن يستمع المسملم بكل طيبات الحياة ، على أن يكون مستعداً لنبذها كلها في اللحظة التي تتعارض مع مطالب العقيدة .
ومفرق الطريق هو أن تسيطر العقيدة أو يسيطر المتاع ، وأن تكون الكلمة الأولى للعقدية أو لعرض من أعراض هذه الحياة ؟ فإذا اطمأن المسلم إلى أن قلبه خالص لعقيدته فلا عليه بعد هذا أن يستمتع بالأنباء والإِخوة والعشيرة والزوج . . وعليه أن يتخذ الأموال والمتاجر والمساكن . ولا عليه أن يستمع بزينة الله و الطيبات من الرزق . في غير سرف ولا مخيلة .
بل إن المتاع حينئذ لمستحب ، باعتباره لوناً من الوان الشكر لله الذي أنعم بها ليتمتع بها عباده . وهم يذكرون أنه الرازق المنعم الوهاب .
هذه الآية تقوي مذهب من رأى أن هذه والتي قبلها إنما مقصودها الحض على الهجرة ، وفي ضمن قوله : { فتربصوا } وعيد بين ، وقوله { بأمره } قاله الحسن الإشارة إلى عذاب أو عقوبة من الله ، وقال مجاهد{[5576]} : الإشارة إلى فتح مكة ، والمعنى فإذا جاء الله بأمره فلم تسلفوا ما يكون لكم أجراً ومكانة في الإسلام .
قال القاضي أبو محمد : وذكر الأبناء في الآية لما جلبت ذكرهم المحبة ، والأبناء صدر في المحبة وليسوا كذلك في أن تتبع آراؤهم كما في الآية المتقدمة ، وقرأ جهور الناس «وعشيرتكم » ، وقرأ عاصم وحده بخلاف عنه وأبو رجاء وأبو عبد الرحمن وعصمة «وعشيراتكم » ، وحسن هذا الجمع إذ لكل أحد عشيرة تختص به ، ويحسن الإفراد أن أبا الحسن الأخفش قال إنما تجمع العرب عشائر ولا تكاد تقول عشيرات ، و { اقترفتموها } معناه اكتسبتموها ، وأصل الاقتراف والمقارفة مقاربة الشيء{[5577]} ، { وتجارة تخشون كسادها } بيّن في أنواع المال ، وقال ابن المبارك : الإشارة إلى البنات اللواتي لا يتزوجن لا يوجد لهن خاطب{[5578]} { ومساكن } جمع مسكن بفتح الكاف مفعل من السكنى ، وما كان من هذا معتل الفاء فإنما يأتي على مفعل بكسر العين كموعد وموطن ، والمساكن القصور والدور ، و { أحب } خبر كان ، وكان الحجاج بن يوسف يقرؤها «أحبُّ » بالرفع وله في ذلك خبر مع يحيى بن يعمر سأله الحجاج هل تسمعني الجن قال نعم في هذا الحرف ، وذكر له رفع أحب فنفاه .
قال القاضي أبو محمد : وذلك خارج في العربية على أن يضمر في كان الأمر والشأن{[5579]} ولم يقرأ بذلك ، وقوله { والله لا يهدي القوم الفاسقين } عموم لفظ يراد به الخصوص فيمن يوافي على فسقه ، أو عموم مطلق على أنه لا هداية من حيث الفسق .
ارتقاء في التحذير من العلائق التي قد تفضي إلى التقصير في القيام بواجبات الإسلام ، فلذلك جاءت زيادة تفصيل الأصناف من ذوي القرابة وأسباببِ المخالطة التي تكون بين المؤمنين وبين الكافرين ، ومن الأسباب التي تتعلّق بها نفوس الناس فيَحول تعلّقُهم بها بينَهم وبين الوفاء ببعض حقوق الإسلام ، فلذلك ذكر الأبناءُ هنا لأنّ التعلّق بهم أقوى من التعلّق بالإخوان ، وذُكر غيرهم من قريب القرابة أيضاً .
وابتداء الخطاب ب { قُل } يشير إلى غِلَظِه والتوبيخ به .
والمخاطب بضمائر جماعة المخاطبين : المؤمنون الذين قصروا في بعض الواجب أو المتوقّع منهم ذلك ، كما يشعر به اقتران الشرط بحرف الشّكّ وهو { إنْ } ويفهم منه أنّ المسترسلين في ذلك المُلابِسينَ له هم أهل النفاق ، فهم المعرَّض لهم بالتهديد في قوله : { فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين } .
وقد جمعت هذه الآية أصنافاً من العلاقات وذويها ، من شأنها أن تألفها النفوس وترغب في القرب منها وعدم مفارقتها ، فإذا كان الثبات على الإيمان يجرّ إلى هجران بعضها كالآباء والإخوان الكافرين الذين يهجر بعضهم بعضاً إذا اختلفوا في الدين ، وكالأبناء والأزواج والعشيرة الذين يألف المرء البقاء بينهم ، فلعلّ ذلك يقعده عن الغزو ، وكالأموال والتجارة التي تصدّ عن الغزو وعن الإنفاق في سبيل الله . وكذلك المساكن التي يألف المرء الإقامة فيها فيصدّه إلفها عن الغزو . فإذا حصل التعارض والتدافع بين ما أراده الله من المؤمنين وبين ما تَجُرُّ إليه تلك العلائق وجب على المؤمِن دحضها وإرضاء ربّه .
وقد أفاد هذا المعنى التعبير ب { أحب } لأنّ التفضيل في المحبّة يقتضي إرضاء الأقوى من المحبوبين ، ففي هذا التعبير تحذير من التهاون بواجبات الدين مع الكناية عن جعل ذلك التهاون مُسبّباً على تقديم محبّة تلك العلائق على محبّة الله ، ففيه إيقاظ إلى ما يؤول إليه ذلك من مهواة في الدين وهذا من أبلغ التعبير .
وخصّ الجهاد بالذكر من عموم ما يحبّه الله منهم : تنويهاً بشأنه ، ولأنّ ما فيه من الخطر على النفوس ومن إنفاق الأموال ومفارقة الإلف ، جَعله أقوى مظنّة للتقاعس عنه ، لا سيما والسورة نزلت عقب غزوة تبوك التي تخلّف عنها كثير من المنافقين وبعضُ المسلمين .
و ( العَشيرة ) الأقارب الأدْنَوْن ، وكَأنه مشتقّ من العِشْرة وهي الخلطة والصحبة .
وقرأ الجمهور { وعشيرتكم } بصيغة المفرد وقرأه أبو بكر عن عاصم { وعشيراتكم جمع عشيرة ووجهه : أنّ لكلّ واحد من المخاطبين عشيرة ، وعن أبي الحسن الأخفش : إنّما تَجمعَ العرب عشيرة على عشائر ولا تكاد تقول عَشيرات ، وهذه دعوى منه ، والقراءة رواية فهي تَدفَع دَعواه .
والاقتراف : الاكتساب ، وهو مشتقّ من قارف إذا قارَب الشيء .
والكساد ، قلّة التبايع وهو ضدّ الرَّولج والنَّفاق ، وذلك بمقاطعة طوائف من المشركين الذين كانوا يتبايعون معهم ، وبالانقطاع عن الاتّجار أيام الجهاد .
وجُعل التفضيل في المحبّة بين هذه الأصناف وبين محبّة الله ورسوله والجهاد : لأنّ تفضيل محبّة الله ورسوله والجهاد يوجب الانقطاع عن هذه الأصناف ، فإيثار هذه الأشياء على مَحبة الله يفضي موالاة إلى الذين يستحبّون الكفر ، وإلى القعود عن الجهاد .
والتربّص : الانتظار ، وهذا أمر تهديد لأنّ المراد انتظار الشرّ . وهو المراد بقوله : { حتى يأتي الله بأمره } أي الأمر الذي يظهر به سوء عاقبة إيثاركم محبّة الأقارب والأموال والمساكين ، على محبّة الله ورسوله والجهادِ .
والأمر : اسم مبهم بمعنى الشيء والشأن ، والمقصود من هذا الإبهام التهويل لتذهب نفوس المهدَّدين كلّ مذهب محتمل ، فأمر الله : يحتمل أن يكون العذَابَ أو القتل أو نحوهما ، ومن فسّر أمر الله بفتح مكة فقد ذهل لأنّ هذه السورة نزلت بعد الفتح .
وجملة { والله لا يهدي القوم الفاسقين } تذييل ، والواو اعتراضية وهذا تهديد بأنّهم فضلوا قرابتهم وأموالهم على محبّة الله ورسوله وعلى الجهاد فقد تحقّق أنّهم فاسقون والله لا يهدي القوم الفاسقين فحصل بموقع التذييل تعريض بهم بأنّهم من الفاسقين .