التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرٗا يَرَهُۥ} (7)

ثم فصل - سبحانه - ما يترتب على هذه الرؤية من جزاء فقال : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ . وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ }

و " المثقال " مفعال من الثقل ، ويطلق على الشيء القليل الذى يحتمل الوزن ، و " الذرة " تطلق على أصغر النمل ، وعلى الغبار الدقيق الذى يتطاير من التراب عند النفخ فيه . والمقصود المبالغة فى الجزاء على الأعمال مهما بلغ صغرها ، وحقر وزنها .

والفاء : للتفريع على ما تقدم . أي : فى هذا اليوم يخرج الناس من قبورهم متفرقين لا يلوي أحد على أحد ، متجهين إلى موقف الحساب ليطلعوا على جزاء أعاملهم الدنيوية ، فمن كان منهم قد عمل فى دنياه عملا صالحا رأى ثماره الطيبة ، حتى ولو كان هذا العمل فى نهاية القلة ، ومن كان منهم قد عمل عملا سيئا فى دنياه رأى ثماره السيئة ، حتى ولو كان هذا العمل - أيضا - فى أدنى درجات القلة .

فأنت ترى أن هاتين الآيتين قد جمعتا أسمى وأحكم ألوان الترغيب والترهيب ، ولذا قال كعب الأحبار : لقد أنزل الله - تعالى - على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم آيتين ، أحصتا ما فى التوراة والإِنجيل والزبور والصحف ، ثم قرأ هاتين الآيتين .

وقد ساق الإِمام ابن كثير عند تفسيره لهاتين عددا من الأحاديث ، منها : ما أخرجه الإِمام أحمد " أن صعصعة بن معاوية ، أتى النبى صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه هاتين الآيتين ، فقال : حسبي ، لا أبالي أن لا أسمع غيرها " ، وفي صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " اتقوا النار ولو بشق تمرة ، ولو بكلمة طيبة " .

وفي الصحيح - أيضاً - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا تحقرن من المعروف شيئاً ، ولو أن تفرغ من دلوك فى إناء المستقي ، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط " .

وكان صلى الله عليه وسلم يقول لعائشة : " يا عائشة ، استترى من النار ولو بشق تمرة ، فإنها تسد من الجائع مسدها من الشبعان . يا عائشة . إياك ومحقرات الذنوب ، فإن لها من الله - تعالى - طالبا " .

ومن الآيات الكريمة التى وردت فى معنى هاتين الآيتين قوله - تعالى - : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } وقوله - سبحانه - : { وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ } .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرٗا يَرَهُۥ} (7)

ثم أخبر تعالى أنه من عمل عملاً رآه قليلاً كان أو كثيراً ، فخرجت العبارة عن ذلك بمثال التقليل ، وهذا هو الذي يسميه أهل الكلام مفهوم الخطاب ، وهو أن يكون المذكور والمسكوت عنه في حكم واحد ، ومنه قوله تعالى : { فلا تقل لهما أف }{[11938]} [ الإسراء : 23 ] ، وهذا كثير ، وقال ابن عباس وبعض المفسرين : رؤية هذه الأعمال هي في الآخرة ، وذلك لازم من لفظ السورة وسردها ، فيرى الخير كله من كان مؤمناً ، والكافر لا يرى في الآخرة خيراً ؛ لأن خيره قد عجل له في الدنيا ، وكذلك المؤمن أيضاً تعجل له سيئاته الصغار في دنياه في المصائب والأمراض ونحوها فيجيء من مجموع هذا أن من عمل من المؤمنين { مثقال ذرة } من خير أو شر رآه ، ويخرج من ذلك أن لا يرى الكافر خيراً في الآخرة ، ومنه حديث عائشة رضي الله عنها ، قالت : قلت يا رسول الله : أرأيت ما كان عبد الله بن جدعان يفعله من البر وصلة الرحم وإطعام الطعام ، ألَهُ في ذلك أجر ؟ قال : «لا ؛ لأنه لم يقل قط : رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين{[11939]} » ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يسمي هذه الآية الجامعة الفادة ، وقد نص على ذلك حين سئل عن الحمر ، الحديث{[11940]} ، وأعطى سعد بن أبي وقاص سائلاً ثمرتين ، فقبض السائل يده ، فقال له سعد : ما هذا ؟ إن الله تعالى قبل منا مثاقيل الذر ، وفعلت نحو هذا عائشة في حبة عنب ، وسمع هذه الآية صعصعة بن عقال التيمي عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : حسبي ، لا أبالي أن لا أسمع غيرها{[11941]} ، وسمعها رجل عند الحسن ، فقال : انتهت الموعظة ، فقال الحسن : فقه الرجل . وقرأ هشام عن ابن عامر وأبو بكر عن عاصم : «يره » ، بسكون الهاء في الأولى والأخيرة ، وقرأ ابن كثير وابن عامر وحفص عن عاصم وحمزة والكسائي ونافع فيما روى عنه ورش والحلواني عن قالون عنه في الأولى «يرهو » وأما الآخرة فإنه سكون وقف ، وأما من أسكن الأولى فهي على لغة من يخفف أمثال هذا ومنه قول الشاعر :

ومطواي مشتاقان له أرقان{[11942]}

وهذه لغة لم يحكها سيبويه ؛ لكن حكاها الأخفش ، وقرأ أبو عمرو وحده بضم الهاء فيهما مشبعتان ، وقرأ أبان عن عاصم ، وابن عباس ، وأبو حيوة ، وحميد بن الربيع عن الكسائي : ( يره ) بضم الياء ، وهي رؤية بصر ، بمعنى : يجعله يدركه ببصره ، والمعنى : يرى ثوابه وجزاءه ؛ لأن الأعمال الماضية لا ترى بعين أبدا ، وهذا الفعل كله من " رأيت " بمعنى أدركت ببصري ، فتعديه إنما هو إلى مفعول واحد . وقرأ عكرمة : ( خيرا يراه ) و ( شرا يراه ) ، وقال النقاش : ليست برؤية بصر ، وإنما المعنى : يصيبه ويناله .

ويروى أن هذه السورة نزلت وأبو بكر رضي الله عنه يأكل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فترك أبو بكر رضي الله عنه الأكل وبكى ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أبا بكر ، ما يبكيك ؟ قال : يا رسول الله أو أسأل عن مثاقيل الذر ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا أبا بكر ما رأيت في الدنيا مما تكره فمثاقيل ذر الشر ، ويدخر الله لك مثاقيل ذر الخير " {[11943]} .

و ( الذرة ) نملة صغيرة حمراء رقيقة لا يرجح بها ميزان ، ويقال : إنها تجري إذا مضى لها حول ، وقد تؤول ذلك في قول امرىء القيس :

من القاصرات الطرف لو دب محول** من الذر فوق الإتب منها لأثرا{[11944]}

وحكى النقاش أنهم قالوا : كان بالمدينة رجلان أحدهما لا يبالي عن الصغائر يرتكبها ، وكان الآخر يريد أن يتصدق فلا يجد إلا اليسير فيستحيي من الصدقة ، فنزلت الآية فيهما ، كأنه يقال لأحدهما : تصدق باليسير فإن مثقال ذرة الخير ترى ، وقيل للآخر : كف عن الصغائر فإن مقادير ذر الشر ترى .


[11938]:من الآية 23 من سورة الإسراء والآية عامة فهي تنهي عن القليل والكثير، ولكن اكتفت بذكر القليل.
[11939]:أخرجه الإمام أحمد في مسنده، ومسلم في صحيحه، كما أخرجه البغوي، وجدعان بضم الجيم، وهو ابن عم والد أبي بكر الصديق رضي الله عنه، ومعنى الحديث أن ما كان يفعله من الصلة والإطعام وغيرهما لا ينفعه في الآخرة لكونه كافرا.
[11940]:روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (الخيل لثلاثة، لرجل أجر، ولرجل ستر، وعلى رجل وزر، فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال لها في مرج أو روضة، فما أصابت في ِطَيِلها ذلك في المرج والروضة كان له حسنات، ولو أنها قطعت ِطَيَلها فاستنت شرفا أو شرفين كانت آثارها وأرواثها حسنات له، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقى به كان ذلك حسنات له، فهي لذلك الرجل أجر، ورجل ربطها تغنيا وتعففا ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي له ستر، ورجل ربطها فخرا ورئاء ونواء فهي على ذلك وزر، فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر، فقال: (ما أنزل الله فيها شيئا إلا هذه الآية الفاذة الجامعة (فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره). ورواه مسلم من حديث زيد بن أسلم، وذكره السيوطي في الدر المنثور، وزاد نسبته إلى مالك، وأحمد، والنسائي، وابن ماجه. ومعنى (الفاذة): المنفردة. هذا والطيل: الحبل الطويل، واستنت : عدت وجرت، والشرف: الشوط ، والنواء: العداء لأهل الإسلام.
[11941]:أخرجه ابن المبارك في الزهد، وأحمد في مسنده، وعبد بن حميد، والنسائي، والطبراني، وابن مردويه، عن صعصعة بن معاوية عم الفرزدق.
[11942]:هذا عجز بيت ذكره النحويون شاهدا على أن بعض العرب يجوزون تسكين الهاء، كما في قوله هنا: (له)، والبيت بتمامه مع بيت قبله: أرقت لبرق دونه شدوان يمان وأهوى البرق كل يمان فظلت لدى البيت العتيق أريغه ومطواي مشتاقان له أرقان وهما من قصيدة قالها رجل من أزد السراة، قيل: اسمه يعلى الأحول الأزدي، وقيل: بل هو عمرو بن أبي عمارة الأزدي، وقيل: بل هو جواس بن حيان، من أزد عمان. والبيت العتيق: مكة، وظلت: قضيت يومي، ويروى بدلا منها: فبت، ولدى بمعنى: عند، وأريغه: أطلبه، ويروى بدلا منها: أخيله، بمعنى : أظنه وأتخيله، ويروى : أشيمه، ومطواي: مثنى مطو، وهو الصاحب والرفيق في السفر. ومشتاقان: خبر مطواي، وكذلك أرقان خبر ثان. ويروي صاحب الأغاني البيت: (ومطواي في شوق له أرقان)، وعلى هذا فلا شاهد فيه، والضمير في (له) يعود على (البرق) في البيت السابق. هذا والبيت في اللسان، وخزانة الأدب، والأغاني، والمحتسب، والخصائص، والمنصف.
[11943]:أخرجه ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، والطبراني في الأوسط، والحاكم في تاريخه، وابن مردويه ، والبيهقي في (شعب الإيمان)، عن أنس رضي الله عنه، وأخرج مثله ابن أبي الدنيا في كتاب البكاء، وابن جرير، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في (شعب الإيمان)، عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه، كذلك أخرجه ابن مردويه عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، كما أخرجه عن أبي إدريس الخولاني رضي الله عنه.
[11944]:هذا البيت من قصيدة امرىء القيس التي نظمها وهو في طريقه إلى بلاد الروم، "والقاصرات الطرف" : اللواتي يقصرن طرفهن على أزواجهن ولا ينظرن إلى غيرهن، ويريد حبيبته التي ذكرها في البيت السابق حين قال: إن كل ما يراه من برق ومطر لا ينسيه هذه الحبيبة، وهو يتمنى أن يسقط المطر على ديارها دون سواها: نشيم بروق المزن، أين مصابه ولا شيء يشفي منك يابنة عفزرا والمحول: الذي مضى عليه حول: أي سنة، والذر: النمل الصغير، والإتب: ثوب غير مخيط على الجانبين.
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{فَمَن يَعۡمَلۡ مِثۡقَالَ ذَرَّةٍ خَيۡرٗا يَرَهُۥ} (7)

تفريع على قوله : { ليروا أعمالهم } [ الزلزلة : 6 ] تفريع الفذلكة ، انتقالاً للترغيب والترهيب بعد الفراغ من إثبات البعث والجزاء ، والتفريعُ قاض بأن هذا يكون عقب ما يصدر الناس أشتاتاً .

والمثقال : ما يعرف به ثِقَل الشيء ، وهو ما يُقَدَّر به الوزن وهو كميزاننٍ زِنةً ومعْنًى .

والذّرة : النملة الصغيرة في ابتداء حياتها .

و { مثقال ذرة } مثَل في أقل القلة وذلك للمؤمنين ظاهر وبالنسبة إلى الكافرين فالمقصود ما عملوا من شر ، وأما بالنسبة إلى أعمالهم من الخير فهي كالعدم فلا توصف بخير عند الله لأن عمل الخير مشروط بالإِيمان قال تعالى : { والذين كفروا أعمالهم كسراب بِقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً } [ النور : 39 ] .

وإنما أعيد قوله : { ومن يعمل } دون الاكتفاء بحرف العطف لتكون كل جملة مستقلة الدلالة على المراد لتختص كل جملة بغرضها من الترغيب أو الترهيب فأهمية ذلك تقتضي التصريح والإِطناب .

وهذه الآية معدودة من جوامع الكلم وقد وصفها النبي صلى الله عليه وسلم بالجامعة الفاذة ففي « الموطأ » أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " الخيلُ لثلاثة " الحديث . فسُئل عن الحُمُر فقال : لم يُنْزَل عَليَّ فيها إلا هذه الآية الجامعة الفاذَّة : { فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره } . وعن عبد الله بن مسعود أنه قال : هذه أحكم آية في القرآن ، وقال الحسن : قَدِم صعصعة بن ناجية جد الفرزدق على النبي صلى الله عليه وسلم يستقرىء النبي القرآن فقرأ عليه هذه الآية فقال صَعصعة : حسبي فقد انتهت الموعظة لا أبالي أن لا أسمع من القرآن غيرها . وقال كعب الأحبار : « لقد أنزل الله على محمد آيتين أحصتا ما في التوراة والإِنجيل والزبور والصحف : { فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره .

وإذ قد كان الكلام مسوقاً للترغيب والترهيب معاً أوثر جانب الترغيب بالتقديم في التقسيم تنويهاً بأهل الخير .

وفي « الكشاف » : يحكى أن أعرابياً أخَّر خيراً يَرَه فقيل قدّمت وأخَّرت فقال :

خُذا بطن هَرشَى أو قَفَاها فإنه *** كلا جانبيْ هَرشَى لهن طريق اه

وقد غفل هذا الأعرابي عن بلاغة الآية المقتضية التنويه بأهل الخير .

روى الواحدي عن مقاتل : أن هذه الآية نزلت في رجلين كانا بالمدينة أحدهما لا يبالي من الذنوب الصغائر ويركبها ، والآخر يحب أن يتصدق فلا يجد إلا اليسير فيستحيي من أن يتصدق به فنزلت الآية فيهما .

ومن أجل هذه الرواية قال جمع : إن السورة مدنية . ولو صحّ هذا الخبر لما كان مقتضياً أن السورة مدنية لأنهم كانوا إذا تلوا آية من القرآن شاهداً يظنها بعض السامعين نزلت في تلك القصة كما بيناه في المقدمة الخامسة .