ثم بين - سبحانه - أنه كان قادرا على تعذيبهم فى الدنيا قبل الآخرة ولكنه أخر عذابهم إملاء لهم فقال : { أولئك لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرض وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَآءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب . . . } .
وقوله : معجزين من الإِعجاز بمعنى عدم المقدرة على الشئ .
أى : أولئك الذين افتروا على الله الكذب لم يكن - سبحانه - عاجزا عن إنزال العذاب الشديد بهم فى الدنيا . وما كان لهم من غيره من نصراء ينصرونهم من بأسه لو أراد إهلاكهم .
قال الإِمام الرازى : قال الواحدى : معنى الإِعجاز المنع من تحصيل المراد ، يقال أعجزنى فلان . أى : منعنى عن مرادى . .
والمقصود أن قوله { أولئك لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرض } دل على أنه لا قدرة لهم على الفرار .
وقوله : { وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَآءَ } دل على أن أحدا لا يقدر على تخليصهم من عذابه .
فجمع - سبحانه - بين ما يرجع إليهم وبين ما يرجع إلى غيرهم ، ووضح بذلك انقطاع حيلهم فى الخلاص من عذاب الدنيا والآخرة .
وقوله : { يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب } جملة مستأنفة لبيان أن من حكمة تأخير العذاب عنهم فى الدنيا مضاعفة العذاب لهم فى الآخرة .
وقوله : { مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ } تصوير بليغ لاستحواذ الشيطان عليهم .
أى أن هؤلاء المجرمين بلغ بهم الجهل والعناد والجحود أنهم ما كانوا يستطيعون السماع للحق الذى جاءهم من ربهم لثقله على نفوسهم الفاسدة ، وما كانوا يبصرون المعجزات الدالة على صدق نبيهم - صلى الله عليه وسلم - .
فليس المراد نفى السماع والإِبصار الحسيين عنهم وإنما المراد أنهم لا نطماس بصائرهم صاروا كمن لا يسمع ولا يرى .
و { معجزين } معناه : مفلتين لا يقدر عليهم . وخص ذكر { الأرض } لأن تصرف ابن آدم وتمتعه إنما هو فيها وهي قصاراه ، لا يستطيع النفوذ منها . وقوله : { وما كان لهم من دون الله من أولياء } يحتمل معنيين :
أحدهما : أن نفي أن يكون لهم ولي أو ناصر كائناً من كان .
والثاني : أن يقصد وصف الأصنام والآلهة بأنهم لم يكونوا أولياء حقيقة ، وإن كانوا هم يعتقدون أنهم أولياء .
ثم أخبر أنهم يضاعف لهم العذاب يوم القيامة ، أي يشدد حتى يكون ضعفي ما كان . و { يضاعف } فعل مستأنف وليس بصفة .
وقوله : { وما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون } يحتمل خمسة أوجه :
أحدها : أن يصف هؤلاء الكفار بهذه الصفة على معنى أن الله ختم عليهم بذلك ، فهم لا يسمعون سماعاً ينتفعون به ولا يبصرون كذلك .
والثاني : أن يكون وصفهم بذلك من أجل بغضتهم في النبي صلى الله عليه وسلم فهم لا يستطيعون أن يحملوا أنفسهم على السمع منه والنظر إليه وينظر إلى هذا حشو الطفيل بن عمرو أذنيه بالكرسف{[6294]} ، وإباية قريش وقت الحديبية أن يسمعوا ما نقل إليهم من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ردهم عن ذلك مشيختهم .
والثالث : أن يكون وصف بذلك الأصنام والآلهة التي نفى عنها - على التأويل المقدم - أن تكون أولياء .
و { ما } في هذه الوجوه نافية .
والرابع : أن يكون التقدير : يضاعف لهم العذاب بما كانوا : بحذف الجار{[6295]} ، وتكون { ما } مصدرية ، وهذا قول فيه تحامل . قاله الفراء ، وقرنه بقوله : أجازيك ما صنعت بي .
والخامس : أن تكون { ما } ظرفية ، يضاعف لهم مدة استطاعتهم السمع والبصر ، وقد أعلمت الشريعة أنهم لا يموتون فيها أبداً فالعذاب ، - إذن - متماد أبداً .
وقدم { السمع } في هذه الآية على «البصر » لأن حاسته أشرف من حاسة البصر ، إذ عليه تبنى في الأطفال معرفة دلالات الأسماء ، وإذ هو كاف في أكثر المعقولات دون البصر إلى غير ذلك .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
ثم نعتهم، فقال: {أولئك لم يكونوا معجزين}، يعني بسابقي الله {في الأرض} هربا حتى يجزيهم بأعمالهم الخبيثة، {وما كان لهم من دون الله من أولياء} يعني أقرباء يمنعونهم من الله؛ {يضاعف لهم العذاب ما كانوا يستطيعون السمع}، يعني ما كانوا على سمع إيمان بالقرآن، {وما كانوا يبصرون} الإيمان بالقرآن...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يعني جلّ ذكره بقوبه:"أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الأرْضِ" هؤلاء الذين وصف جلّ ثناؤه أنهم يصدّون عن سبيل الله، يقول جلّ ثناؤه: إنهم لم يكونوا بالذين يُعْجزون ربهم بهربهم منه في الأرض إذا أراد عقابهم والانتقام منهم، ولكنهم في قَبضته ومِلْكه، لا يمتنعون منه إذا أرادهم ولا يفوتونه هربا إذا طلبهم. "وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ أوْلِياءَ "يقول: ولم يكن لهؤلاء المشركين إذا أراد عقابهم من دون الله أنصار ينصرونهم من الله ويحولون بينهم وبينه إذا هو عذّبهم، وقد كانت لهم في الدنيا مَنَعة يمتنعون بها ممن أرادهم من الناس بسوء.
وقوله: "يُضَاعَفُ لَهُمُ العَذَابُ" يقول تعالى ذكره: يزاد في عذابهم، فيجعل لهم مكان الواحد اثنان.
وقوله: "ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ" فإنه اختلف في تأويله؛ فقال بعضهم: ذلك وصَفَ الله به هؤلاء المشركين أنه قد ختم على سمعهم وأبصارهم، وأنهم لا يسمعون الحقّ، ولا يبصرون حُجَج الله سماع منتفع ولا إبصار مهتد...
وقال آخرون: إنما عَني بقوله: "وَما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللّهِ مِنْ أوْلِياءِ" آلهة الذين يصدّون عن سبيل الله. وقالوا: معنى الكلام: أولئك وآلهتهم لم يكونوا معجزين في الأرض، "يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السّمْعَ وَما كانُوا يُبْصِرُونَ" يعني الآلهة أنها لم يكن لها سمع ولا بصر. هذا قول رُوي عن ابن عباس من وجه كرهت ذكره لضعف سنده.
وقال آخرون: معنى ذلك: يضاعف لهم العذاب بما كانوا يستطيعون السمع ولا يسمعونه، وبما كانوا يبصرون ولا يتأملون حجج الله بأعينهم فيعتبروا بها...
والصواب من القول في ذلك عندنا... أن الله وصفهم تعالى ذكره بأنهم لا يستطيعون أن يسمعوا الحقّ سماع منتفع، ولا يبصرونه إبصار مهتد، لاشتغالهم بالكفر الذي كانوا عليه مقيمين، عن استعمال جوارحهم في طاعة الله، وقد كانت لهم أسماع وأبصار.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
... (مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ)... السماع سماع الرحمة، والنظر إليه بعين الرحمة والقبول. فهم من ذلك الوجه كانوا لا يستطيعون.
والثاني: يحتمل سمع القلب وبصر القلب، وهم كانوا لا يستطيعون السمع سمع القلب وبصر القلب كقوله: (فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور) [الحج: 46]. وهذه الاستطاعة عندنا هي استطاعة الفعل لا استطاعة الأحوال؛ إذ جوارحهم كانت سليمة صحيحة. فدل أنها الاستطاعة التي يكون بها الفعل لما ذكرنا...
التبيان في تفسير القرآن للطوسي 460 هـ :
أخبر الله تعالى عن هؤلاء الكفار الذين وصفهم بأن عليهم لعنة الله وأنهم الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا بأنهم غير "معجزين في الأرض "أي لم يكونوا فائتين فيها هربا من الله تعالى إذا اراد إهلاكهم كما يهرب الهارب من عدو، وقد جد في طلبه. والإعجاز: الامتناع من المراد بما لا يمكن معه إيقاعه، وأنهم لم يكن لهم ولي يستطيع الدفاع عنهم من دون الله. والولي: الخصيص بأن يلي بالمعاونة لدفع الأذية... فلا ولي لهؤلاء يعاونهم ويدفع العقوبة عنهم، لأن الله تعالى قد أيأسهم من ذلك.
وقوله: "يضاعف لهم العذاب" قيل في معناه قولان: احدهما -بحسب تضاعف الإجرام. والآخر- كلما مر ضعف جاء ضعف، وكله على قدر الاستحقاق. وقوله "ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون" معناه أنه كان يثقل عليهم سماع الحق ورؤيته...
الوجيز في تفسير الكتاب العزيز للواحدي 468 هـ :
{أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض} أي سابقين فائتين لم يعجزونا أن نعذبهم في الدنيا ولكن أخرنا عقوبتهم.
{وما كان لهم من دون الله من أولياء} يمنعونهم من عذاب الله.
{يضاعف لهم العذاب} لإضلالهم الأتباع.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
... {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع} أراد أنهم لفرط تصامّهم عن استماع الحق وكراهتهم له، كأنهم لا يستطيعون السمع...
ويحتمل أن يريد بقوله: {وَمَا كَانَ لَهُم مّنْ دون الله أَوْلِيَاء} أنهم جعلوا آلهتهم أولياء من دون الله، وولايتها ليست بشيء، فما كان لهم في الحقيقة من أولياء، ثم بين نفي كونهم أولياء بقوله: {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السمع وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} فكيف يصلحون للولاية.
وقوله: {يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب} اعتراض بوعيد...
اعلم أن الله تعالى وصف هؤلاء المنكرين الجاحدين بصفات كثيرة في معرض الذم: الصفة الأولى: كونهم مفترين على الله، وهي قوله: {ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا}.
والصفة الثانية: أنهم يعرضون على الله في موقف الذل والهوان والخزي والنكال وهي قوله: {أولئك يعرضون على ربهم}.
والصفة الثالثة: حصول الخزي والنكال والفضيحة العظيمة، وهي قوله: {ويقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم}.
والصفة الرابعة: كونهم ملعونين من عند الله، وهي قوله: {ألا لعنة الله على الظالمين}.
والصفة الخامسة: كونهم صادين عن سبيل الله مانعين عن متابعة الحق، وهي قوله: {الذين يصدون عن سبيل الله}. والصفة السادسة: سعيهم في إلقاء الشبهات، وتعويج الدلائل المستقيمة، وهي قوله: {ويبغونها عوجا}. والصفة السابعة: كونهم كافرين، وهي قوله: {وهم بالآخرة هم كافرون} والصفة الثامنة: كونهم عاجزين عن الفرار من عذاب الله، وهي قوله: {أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض}...
والصفة التاسعة: أنهم ليس لهم أولياء يدفعون عذاب الله عنهم، والمراد منه الرد عليهم في وصفهم الأصنام بأنها شفعاؤهم عند الله والمقصود أن قوله: {أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض} دل على أنهم لا قدرة لهم على الفرار وقوله: {وما كان لهم من دون الله من أولياء} هو أن أحدا لا يقدر على تخليصهم من ذلك العذاب، فجمع تعالى بين ما يرجع إليهم وبين ما يرجع إلى غيرهم وبين بذلك انقطاع حيلهم في الخلاص من عذاب الدنيا والآخرة...
والصفة العاشرة: قوله تعالى: {يضاعف لهم العذاب}... إنهم مع ضلالهم الشديد، سعوا في الإضلال ومنع الناس عن الدين الحق، فلهذا المعنى حصل هذا التضعيف عليهم.
الصفة الحادية عشرة: قوله: {ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون} والمراد ما هم عليه في الدنيا من صمم القلب وعمى النفس...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
لما هددهم بأمور الآخرة، أشار إلى بيان قدرته على ذلك في الدارين بقوله: {أولئك} أي البعداء عن حضرة الرحمة {لم يكونوا} أي بوجه من الوجوه {معجزين} وأشار إلى عجزهم بأنهم لا يقدرون على بلوغ العالم العلوي بقوله: {في الأرض} أي ما كان الإعجاز -وهو الامتناع من مراد الله- لهم ولا هو في قدرتهم، لأن قدرته على جميع الممكنات على حد سواء. ولما نفى التعذر بأنفسهم، نفاه من جهة غيرهم فقال: {وما كان لهم} ولما كانت الرتب التي هي دون عظمته سبحانه متكاثرة جداً، بين أنهم معزولون عن كل منها بإثبات الجار فقال: {من دون الله} أي الملك الأعظم، وأغرق في النفي بقوله: {من أوليآء} أي يفعلون معهم ما يفعل القريب من تولي المصالح والحماية من المصائب، ومن لم يقدر على الامتناع وهو حي لم يمتنع بعد موته فكأنه قيل: ماذا يفعل بهم؟ فقيل: {يضاعف} أي يفعل فيه فعل من يناظر آخر في الزيادة، وبناه للمفعول لأن المرجع وجود المضاعفة مطلقاً {لهم العذاب} أي بما كانوا يضاعفون المعاصي؛ ثم علل سبب المضاعفة بأنه خلق لهم سمعاً وبصراً فضيعوهما بتصامّهم عن الحق وتعاميهم عنه، فكأن لا فرق بينهم وبين فاقدهما فقال: {ما كانوا} أي بما لهم من فساد الجبلات {يستطيعون السمع} أي يقدرون لما غلب على فطرهم الأولى السليمة بانقيادهم للهوى من التخلق بنقائص الشهوات على أن توجد طاعته لهم فما كانوا يسمعون {وما كانوا} يستطيعون، الإبصار فما كانوا {يبصرون} حتى يعرضوا عن الشهوات فتوجد استطاعتهم للسمع والإبصار، وهو كناية عن عدم قبولهم للحق وأن شدة إعراضهم عنه وصلت إلى حد صارت فيه توصف بعدم الاستطاعة كما يقول الإنسان لما تشتد كراهته له: هذا مما لا أستطيع أن أسمعه، وتكون المضاعفة بالكفر والصد، ونفي الاستطاعة أعرق في العيب وأدل على النقص وأنكأ من نفي السمع لأنهم قد يحملونه على الإجابة، وأما نفي البصر فغير منفك عن النقص سواء كان للعين أو للقلب، هذا إن لم تخرج الآية على الاحتباك، وإن خرجت عليه استوى الأمران، وصار نفي الاستطاعة أولاً دالاًّ على نفيها ثانياً، ونفي الإبصار ثانيا يدل على نفي السمع أولاً...
تفسير المنار لرشيد رضا 1354 هـ :
{أولئك لم يكونوا معجزين في الأرض} أي لم يكونوا معجزين الله في الدنيا أن يعاقبهم بظلمهم وصدهم عن سبيله وكفرهم بكتابه ورسوله ولقائه {وما كان لهم من دون الله من أولياء} وما كان لهم فيها أولياء من دونه يتولون أمرهم عنده، ولا أنصار يمنعونهم من عقابه وينصرونهم، ولكن سبقت كلمته واقتضت مشيئته وحكمته أن يؤخرهم إلى هذا اليوم {يضاعف لهم العذاب} فيه بالنسبة إلى ما كان يكون من عقابهم في الدنيا لو عوقبوا فيها، لا بالزيادة عما يستحقونه منه بمقتضى سنته تعالى في إفساد كفرهم لأرواحهم، وتدسية ظلمهم لأنفسهم، وهذه الجملة استئناف بياني. قرأ الجمهور يضاعف من المضاعفة وابن كثير وابن عامر ويعقوب يضعف بالتشديد من التضعيف.
وعلل هذه المضاعفة بقوله: {ما كانوا يستطيعون السمع} أي ما كانوا يستطيعون إلقاء أسماعهم إلى القرآن إصغاء لدعوة الحق وكلام الله عز وجل لاستحواذ الباطل على أنفسهم، ورين الكفر والظلم على قلوبهم بل كانوا ينهون عنه وينأون عنه ومن ذلك قوله فيهم {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون} [فصلت: 26] {وما كانوا يبصرون} ما يدل عليه من آيات الله في الآفاق وفي أنفسهم، أي أنهم لشدة انهماكهم في الكفر ولوازمه من الباطل واتباع الهوى والشهوات، صاروا يكرهون الحق والهدى كراهة شديدة بحيث يثقل عليهم سماع ما يبينه من الآيات السمعية، وما يثبته من الآيات البصرية، وليس المراد أنهم فقدوا حاستي السمع والبصر فصاروا صما وعميانا بالفعل. بل هم كما يقول أمثالهم فيما يبغضون أنني لا أطيق رؤية فلان، ولا أقدر أن أسمع كلامه وتذكر أو راجع قوله تعالى لنبيه في سورة يونس {ومنهم من يستمعون إليك} [يونس: 42] الخ.
وأمثالهم مشاهدون في كل زمان ومكان...
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
استئناف بياني ناشئ عن الاقتصار في تهديدهم على وصف بعض عقابهم في الآخرة فإنّ ذلك يثير في نفس السامع أن يسأل: هل هم سالمون من عذاب الدنيا. فأجيب بأنهم لم يكونوا معجزين في الدنيا، أي لا يخرجون عن مقدرة الله على تعذيبهم في الدنيا إذا اقتضت حكمته تعجيل عذابهم. وإعادة الإشارة إليهم بقوله: (أولئك) بعد أن أشير إليهم بقوله: {أولئك يعرضون على ربهم} [هود: 18] لتقرير فائدة اسم الإشارة السابق. والمعنى: أنهم يصيرون إلى حكم ربهم في الآخرة ولم يكونوا معجزيه أن يعذبهم في الدنيا متى شاء تعذيبهم ولكنه أراد إمهالهم. والمعجز هنا الذي أفلت ممّن يروم إضراره. وتقدم بيانه عند قوله تعالى: {إن ما توعدون لأت وما أنتم بمعجزين} في سورة [الأنعام: 134]. والأرض: الدنيا. وفائدة ذكره أنهم لا ملجأ لهم من الله لو أراد الانتقام منهم فلا يجدون موضعاً من الأرض يستعصمون به. فهذا نفي للملاجئ والمعاقل التي يستعصم فيها الهارب...
والعذاب المضاعف هو عذاب الآخرة بقرينة قوله: {لم يكونوا معجزين في الأرض} المشعر بتأخير العذاب عنهم في الدنيا لاَ عنْ عجز...
والإتيان بأفعال الكون في هذه الجمل أربع مرات ابتداء من قوله: {أولئك لم يكونوا معجزين} إلى قوله {وما كانوا يبصرون} لإفادة ما يدل عليه فعل الكون من تمكن الحدث المخبر به فقوله: {لم يكونوا معجزين} آكد من: لا يعجزون وكذلك أخواته. والاختلاف بين صيغ أفعال الكون إذ جاء أولها بصيغة المضارع والثلاثة بعده بصيغة الماضي لأن المضارع المجزوم بحرف (لم) له معنى المضي فليس المخالفة منها إلاّ تفنناً...
زهرة التفاسير - محمد أبو زهرة 1394 هـ :
الإشارة إلى الذين يصدون عن سبيل الله تعالى ويبغونها عوجا ويريدون أهلها معوجين غير سائرين في الجادة، والإشارة إلى الموصوفين بصفات تدل على أن هذه الصفات سبب لما يقومون به من تحد لله تعالى، ولذا قال سبحانه: {لم يكونوا معجزين في الأرض}، أي لم يكونوا معجزين لله عن أن ينزل بهم ما أنزل بمن سبقهم بجوائح ماحقة كخسف في الأرض أو رجفة أو ريح صرصر عاتية أو حرب مجلية مخزية، والمعنى أنهم لم يكونوا بحالهم وكينونتهم معجزين لله في الدنيا، فالله هو القهار والغالب على كل شيء فلا ولي لهم يقاوم إرادة الله تعالى فيهم، ولذا قال تعالى: {وما كان لهم من دون الله من أولياء} أي ما كان لهم أولياء يعاندون الله تعالى فيما يريد فيهم ويقاومون إرادته، وهذا ما يدل عليه قوله تعالى: {من دون الله} فإنها تدل على المضادة لما يريد سبحانه وتعالى فهم لا يستطيعون نصرتهم ولا منع العذاب عنهم، قالوا بمعنى النصر المانع وكلمة {من} في قوله تعالى: {من أولياء} لتعميم النفي أي ما كان لهم أي ولي من الأولياء. هذا في الدنيا إذا حسبوا أنه لا رقيب عليهم ولا دافع يدفعهم وهم مسلطون، فيبين الله تعالى أنه قاهر فوقهم. أما في الآخرة فقال الله تعالى عن حالهم فيها {يضاعف لهم العذاب} أي يكرر العذاب عليهم فيكون ضعفين أو أضعافا؛ لأنهم أشركوا بالله عبادة الأوثان، ولأنهم آذوا المؤمنين وحاولوا صدهم عن سبيل الله، ولأنهم طغوا وبغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد، ولأنهم ظلموا الناس وفتنوهم في دينهم. وما بعثهم على تلك الآثام التي ضاعفت لهم العذاب إلا أنهم لم يستمعوا إلى الحق ولم يبصروا الآيات، ولذا قال تعالى: {ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا يبصرون} ذكر الله تعالى في هذا النص الكريم السبب في هذه المآثم فذكر أنه أمران: الأمر الأول: أنهم لا يستطيعون السمع، وليس المراد أنهم صم حقيقة، بل شبهت حالهم بحال الأصم الذي لا يستطيع السمع؛ ذلك لأنهم لا يتدبرون ما يسمعون من دعوة إلى الحق وآيات تتلى فيها الإعجاز فكانوا كأنهم لا يسمعون، وقد ذكرهم الله في مواضع أخرى {ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون 179} (الأعراف). الأمر الثاني: قوله تعالى: {وما كانوا يبصرون} أي ينظرون نظرة تأمل للكون ويدركون أسراره، والجمع بين الماضي والمستقبل في قوله تعالى: {وما كانوا يبصرون} للدلالة على استمرار غفلتهم عن الآيات وتجددها وقتا بعد اخر فكلمة كان تدل على الماضي وكلمة يبصرون تدل على المستقبل كذلك قو له تعالى 'ما كانوا يستطيعون السمع "والله أعلم بمراده في كتابه.
يبيّن لنا الحق سبحانه في هذه الآية أن هؤلاء الكافرون لا يعجزون الله في الأرض، بدليل أن هناك نماذج من أمم قد سبقت وكفرت، فمنهم من أخذته الريح، ومنهم من خسف الله بهم الأرض، ومنهم من غرق، وإذا انتقلوا إلى الآخرة فليس لهم ولي أو نصير من دون الله؛ لأن الولي هو القريب منك، ولا يقرب منك إلا من تحبه، ومن ترجو خيره. فإذا قرب منك إنسان له مواهب فوق مواهبك، نضح عليك من مواهبه، وإذا كان من يقرب منك قويا وأنت ضعيف، ففي قوته سياج لك، وإن كان غنيا، فغناه ينضح عليك، وإن كان عالما أفادك بعلمه، وإن كان حليما أفادك بحلمه لحظة غضبك، وكل صاحب موهبة تعلو موهبتك وأنت قريب منه، فسوف يفيدك من موهبته. والولي هو النصير أيضا؛ لأنك أول ما تستصرخ سيأتي لك القريب منك. وهؤلاء الذين يصدّون عن سبيل الله لن يجدوا وليّا ولا نصيرا في الآخرة-وإن وجدوه في الدنيا-لأن كل إنسان في الآخرة سيكون مشغولا بنفسه...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ في الأرْضِ} لأنهم لا يملكون أيّة قوّة ذاتية بعيداً عما يريده الله لهم من القوّة، ولكن الله يمهلهم ويؤخرهم إلى أجل مسمّى، من خلال حكمته التي أودعها في الكون، وأجرى عليها سننه، في تسيير أمور الحياة على نهج معيّن. فإذا جاء الأجل الذي تنتهي إليه الفترة، فإنه يأخذهم أخذ عزيز مقتدر، ولن يعجزه أحد منهم، مهما كانت قوّته. {وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَآءَ} ينصرونهم من دونه، لأن ما يزعمونه من هؤلاء الأولياء مخلوقون له، خاضعون بتكوينهم لإرادته، فلا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً إلا بالله، فكيف يملكونه لغيرهم؟ {يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ} جزاء ضلالهم وإضلالهم، فيحصدون العذاب بسبب هاتين الجريمتين، {مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ} وذلك لأن الله قد سلبهم السمع والبصر من خلال امتناعهم عن توجيه آذانهم إلى الاستماع، وعدم استفادتهم من بصرهم، وبهذا يتبين أن عدم استطاعتهم للسمع، وعدم كونهم مبصرين، لم يكن ناتجاً عن حالة العجز الذاتي عن ذلك، بل عن عجز طارئ كانوا هم السبب فيه، في ما أودعه الله في الأشياء من علاقة المسبب بالسبب، فإذا أراد الإنسان الاستماع ليسمع، كان السمع أمراً طبيعياً له، وكذلك البصر إذا أراد الإبصار، أما إذا لم يرد ذلك وأغلق أذنيه بإغلاق قلبه، أو أغلق عينيه بإغلاق معنويّ أو روحيٍّ، فإنه لا مجال لسمع أو بصر، فيكون وزان هذه الفقرة، وفق قوله تعالى: {لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ ءَاذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ} [الأعراف: 179]، أو قوله تعالى: {وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ* فَاعْتَرَفُواْ بِذَنبِهِمْ} [الملك: 10 11] مما يوحي بأن المسألة لا تخرج عن إطار الإرادة والاختيار عندهم...