التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمۡرِ رَبِّكَۖ لَهُۥ مَا بَيۡنَ أَيۡدِينَا وَمَا خَلۡفَنَا وَمَا بَيۡنَ ذَٰلِكَۚ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّٗا} (64)

ثم ساق - سبحانه - ما يدل على كمال قدرته ، وشمول علمه ، فقال - تعالى - : { وَمَا نَتَنَزَّلُ . . . } .

التنزل : النزول على مهل . فإنه مطاوع نزل - بالتشديد - ، يقال : نزلته فتنزل ، إذا حدث النزول على مهل وتدرج . وقد يطلق التنزيل بمعنى النزول مطلقاً ، إلا أن المناسب هنا هو المعنى الأول .

والآية الكريمة حكاية لما قاله جبريل للنبى - صلى الله عليه وسلم - ، فقد ذكر كثير من المفسرين أن الوحى احتبس عن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لفترة من الوقت بعد أن سأله المشركون أسئلة تتعلق بأصحاب الكهف . وبذى القرنين وبالروح ، حتى قال المشركون : إن رب محمد - صلى الله عليه وسلم - قد قلاه - أى : أبغضه وكرهه - فلما نزل جبريل على النبى - صلى الله عليه وسلم - بعد فترة من غياب - قيل خمسة عشر يوماً وقيل أكثر قال له : يا جبريل احتبست عنى حتى ساء ظنى واشتقت إليك فقال له جبريل : إنى كنت أشوق ولكنى عبد مأمور ، إذا بعثت جئت ، وإذا حبست احتبست ، وأنزل الله - تعالى - هذه الآية وسورة الضحى " .

وقال الآلوسى : " ولا يأبى ما تقدم فى سبب النزول ما أخرجه أحمد ، والبخارى والترمذى ، والنسائى ، وجماعة ، فى سببه عن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لجبريل : ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا ؟ فنزلت : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ . . } لجواز أن يكون - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك فى محاورته السابقة - أيضاً - ، واقتصر فى كل رواية على شىء مما وقع فى المحاورة . . . " .

والمعنى : قال جبريل للرسول - صلى الله عليه وسلم - عندما سأله عن سبب احتباسه عنه لفترة من الوقت : يا محمد إنى ما أتنزل عليك وقتاً بعد وقت ، إلا بأمر ربك وإرادته ، فأنا عبده الذى لا يعصى له أمراً . . .

{ لَهُ } - سبحانه - { مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك } أى : له وحده جميع الجهات والأماكن ، وجميع الأزمان الحاضرة والماضية والمستقبلية ، وما بين ذلك ، فلا نقدر أن ننتقل من جهة إلى جهة ، أو من وقت إلى وقت إلا بأمر ربك ومشيئته .

فالجملة الكريمة مسوقة لبيان ملكية الله - تعالى - لكل شىء ، وقدرته على كل شىء وعلمه بكل شىء .

وقوله - تعالى - : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } مؤكد لما قبله من إثبات قدرة الله - تعالى - وعلمه .

أى : وما كان ربك - أيها الرسول الكريم - ناسيا أو تاركاً لك أو مهملاً لشأنك ، ولكنه - سبحانه - محيط بأحوالك وبأحوال جميع المخلوقات { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ }

قال ابن كثير : " قال ابن أبى حاتم : حدثنا يزيد بن محمد . . . عن أبى الدرداء يرفعه قال : " ما أحل الله فى كتابه فهو حلال ، وما حرمه هو حرام ، وما سكت عنه فهو عافية ، فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن لينسى شيئاً " ثم تلا هذه الآية : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمۡرِ رَبِّكَۖ لَهُۥ مَا بَيۡنَ أَيۡدِينَا وَمَا خَلۡفَنَا وَمَا بَيۡنَ ذَٰلِكَۚ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّٗا} (64)

قرأ الجمهور «وما نتنزل » بالنون كأن جبريل عن نفسه والملائكة ، وقرأ الأعرج وما «يتنزل » بالياء على أنه خبر من الله أن جبريل لا يتنزل ، قال هذا التأويل بعض المفسرين ، ويرده قوله { ما بين أيدينا } لأنه لا يطرد معه وإنما يتجه أن يكون خبراً من جبريل أن القرآن لا يتنزل إلا بأمر الله في الأوقات التي يقدرها . ورويت قراءة الأعرج بضم الياء ، وقرأ ابن مسعود «إلا بقول ربك » ، وقال ابن عباس وغيره : سبب هذه الآية ، أن النبي عليه السلام أبطأ عنه جبريل مرة فلما جاءه قال «يا جبريل قد اشتقت اليك أفلا تزورنا أكثر مما تزورنا »{[7992]} فنزلت هذه الآية . وقال مجاهد والضحاك : سببها أن جبريل تأخر عن النبي صلى الله عليه وسلم عند قوله في السؤالات المتقدمة في سورة الكهف{[7993]} «غداً أخبركم » حتى فرح بذلك المشركون واهتم رسول الله صلى عليه وسلم ، ثم جاء جبريل ونزلت هذه في ذلك المعنى ، فهي كالتي في الضحى{[7994]} ، وهذه الواو التي في قوله { وما نتنزل } هي عاطفة جملة كلام على أخرى وواصلة بين القولين وإن لم يكن معناهما واحداً . وحكى النقاش عن قوم أن قوله { وما نتنزل } متصل بقوله { إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً } [ مريم : 19 ] ، وهذا قول ضعيف ، وقوله { ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك } لفظ يحتاج إلى ثلاث مراتب ، واختلف المفسرون فيها ، فقال أبو العالية «ما بين الأيدي » في الدنيا بأسرها الى النفخة الأولى ، «وما خلف » الآخرة من وقت البعث { وما بين ذلك } ما بين النفختين . وقال ابن جريج «ما بين الأيدي » هو ما مر من الزمن قبل إيجاد من في الضمير ، «وما خلف » هو ما بعد موتهم إلى استمرار الآخرة { وما بين ذلك } هو مدة الحياة .

قال القاضي أبو محمد : والآية إنما المقصد بها الإشعار بملك الله تعالى لملائكه وأن قليل تصرفهم وكثيره إنما هو بأمره وانتقالهم من مكان إلى مكان ، إنما هو بحكمته إذ الأمكنة له وهم له ، فلو ذهب بالآية إلى أن المراد ب «ما بين الأيدي وما خلف » الأمكنة التي فيها تصرفهم ، والمراد ب { ما بين ذلك } هم أنفسهم ومقاماتهم لكان وجهها كأنه قال نحن مقيدون بالقدرة لا ننتقل ولا نتتزل إلا بأمر ربك{[7995]} . وقال ابن عباس وقتادة فيما روي وما أراه صحيحاً عنهما «ما بين الأيدي هي الآخرة وما خلف هو الدنيا » وهذا مختل المعنى إلا على التشبيه بالمكان لأن ما بين اليد إنما هو ما تقدم وجوده في الزمن بمثابة التوارة والإنجيل من القرآن وقول أبي العالية إنما يتصور في بني آدم وهذه المقالة هي للملائكة فتأمله .

وقوله { وما كان ربك نسياً } أي ممن يلحقه نسيان بعثنا إليكم في وقت المصلحة به فإنما ذلك عن قدر له أي فلا تطلب أنت يا محمد الزيارة أكثر مما شاء الله هذا ما تقتضيه قوة الكلام على التأويل الواحد أو فلا تهتم يا محمد بتأخيري ولا تلفت لفرح المشركين بذلك على التأويل الثاني و { نسياً } فعيل من النسيان والذهول عن الأمور ، وقالت فرقة { نسياً } هنا معناه تاركاً ، ع : وفي هذا ضعف لأنه إنما نفي النسيان مطلقاً فيتمكن ذلك في النسيان الذي هو نقص وأما الترك فلا ينتفي مطلقاً ألا ترى قوله تعالى : { وتركهم في ظلمات }{[7996]} [ البقرة : 17 ] وقوله { وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض }{[7997]} [ الكهف : 99 ] فلو قال نسيك أو نحوه من التقييد لصح حمله على الترك ، ولا حاجة لنا أن نقول إن التقييد في النية لأن المعنى الآخر أظهر . وقرأ ابن مسعود «وما بين ذلك وما نسيك ربك » وروى أبو الدرداء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهي عافيته فاقبلوا » ثم تلا هذه الآية{[7998]} .


[7992]:رواه الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما، وقال: حديث حسن غريب، ورواه البخاري أيضا عن ابن عباس رضي الله عنهما، وجاء في روايته أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لجبريل: ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ فنزلت: {وما نتنزل إلا بأمر ربك} الآية، وذكر السيوطي في "الدر المنثور" أن هذا الحديث أخرجه أحمد، والبخاري، ومسلم، وعبد بن حميد، والترمذي، والنسائي، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، والحاكم، والبيهقي في الدلائل.
[7993]:وذلك عند تفسير قوله تعالى: {ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله}.
[7994]:يعني قوله تعالى: {والضحى والليل إذا سجى ما ودعك ربك وما قلى}. وهذا الحديث أخرجه ابن جرير عن مجاهد، وأخرج نحوه سعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عن مجاهد. (راجع الدر المنثور)، قال الإمام السيوطي: إن هذا القول قال به أيضا عكرمة، ومقاتل، والكلبي، ولكنهم اختلفوا في المدة التي تأخرها جبريل عليه السلام عن النبي صلى الله عليه وسلم.
[7995]:قال أبو حيان في البحر: "وما قاله ابن عطية ذهب إلى نحوه الزمخشري، قال: له ما قدامنا وما خلفنا من الجهات والأماكن، وما نحن فيه، فلا نملك إلا أن ننتقل من جهة إلى جهة، ومن مكان –إلى مكان إلا بأمر المليك ومشيئته، والمعنى أنه محيط بكل شيء، لا تخفى عليه خافية".
[7996]:من قوله تعالى في الآية (17) من سورة (البقرة): {ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون}.
[7997]:من الآية (99) من سورة (الكهف).
[7998]:أخرجه ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبزار، والطبراني، وابن مردويه، والبيهقي في سننه، والحاكم وصححه، عن أبي الدرداء، وذكر الإمام السيوطي في "الدر المنثور" أن أبا الدرداء رفع الحديث، قال: (ما أحل الله في كتابه فهو حلال، و ما حرم فهو حرام، وما سكت عنه فهو عافية، فاقبلوا من الله عافيته، فإن الله لم يكن لينسى شيئا، ثم تلا {وما كان ربك نسيا}.)