وبعد أن بين - سبحانه - فساد ما عليه أولئك المشركون المقلدون من غير نظر ولا استدلال ، أردف ذلك بضرب مثل لهم زيادة في قبيح شأنهم والزراية عليهم فقال- تعالى- :
{ وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ . . . }
{ وَمَثَلُ } الصفة والشأن ، وأصل المثل بمعنى المثل : النظير والشبيه ، ثم أطلق على القول السائر المعروف ، لمماثلة مضربه - وهو الذي يضرب مضربه - وهو الذي يضرب فيه - - لمورده - وهو الذي ورد فيه أولا - ولا يكون إلا فيما فيه غرابه . ثم استعير للصفة أو الحال أو القصة ، إذا كان لها شأن عجيب وفيها غرابة .
و { يَنْعِقُ } من النعيق وهو الصياح . يقال : نعق الراعي بالغنم ينعق نعقاً ونعاقاً ونعقاناً ، صاح بها وزجرها .
والدعاء والنداء قيل بمعنى واحد أي أن ثانيهما تأكيد للأول ، وقيل : الدعاء للقريب والنداء للبعيد .
والظاهر أن المراد بهما نوعان من الأصوات .
وأولهما : وهو الدعاء معناه : الصياح بالبهائم لتأتي .
وثانيهما : وهو النداء معناه : الصياح بها لتذهب .
قال الإِمام الرازي ما ملخصه : وللعلماء من أهل التأويل في هذه طريقان :
أحدهما : تصحيح المعنى بالإِضمار في الآية .
والثاني : إجراء الآية على ظاهرها من غير إضمار .
أما الذين أضمروا فذكروا وجوها :
الأول : كأنه قال : ومثل من يدعو الذين كفروا إلى الحق كمثل الذي ينعق ، فصار الناعق الذي هو الراعي بمنزلة الداعي إلى الحق . وهو الرسول صلى الله عليه وسلم وسائر الدعاة إلى الحق ، وصار الكفار بمنزلة الغنم المنعوق بها ، ووجه الشبه أن البهيمة تسمع الصوت ولا تفهم المراد ، وهؤلاء الكفار كانوا يسمعون صوت الرسول صلى الله عليه وسلم وألفاظه ، وما كانوا ينتفعون بها وبمعانيها .
الثاني : ومثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم من الأوثان كمثل الناقع في دعائه ما لا يسمع كالغنم وما يجري مجراها من البهائم . فشبه الأصنام - في أنها لا تفهم - بهذه البهائم ، فإذا كان ولا شك أن من دعا بهيمة عد جاهلا ، فمن دعا حجراً أولى بالذم .
والفرق بين هذا القول والذي قبله أن هاهنا المحذوف هو المدعو ، وفي القول الذي قبله المحذوف هو الداعي .
أما إجراء الآية على ظاهرها من غير إضمار فتقديره ، ومثل الذين كفروا في قلة عقولهم في عباداتهم لهذه الأوثان كمثل الراعي إذا تكلم مع البهائم ، فكما أنه يقضي على ذلك الراعي بقلة العقل فكذا ههنا .
ثم قال - رحمه الله - ومثل هذا المثل يزيد السامع معرفة بأحوال الكفار ، ويحقر إلى الكافر نفسه إذا سمع ذلك ، فيكون كسرا لقلبه ، وتضييقاً لصدره ، حيث صيره كالبهيمة فيكون في ذلك نهاية الزجر والردع لمن يسمعه عن أن يسلك مثل طريقة في التقليد " .
وقوله - تعالى - { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } زيادة في تبكيتهم وتقريعهم ، أي : صم عن استماع دعوة الحق . بكم عن إجابة الداعي إليها ، عمى عن آيات صدقها وصحتها . فهم لإعراضهم عن الهادي لهم إلى ما ينفعهم وينجيهم من العذاب صاروا بمنزلة من فقد حواسه ، فأصبح لا يسمع ولا ينطق ولا يبصر .
وقوله : { فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } وارد مورد النتيجة بعد البرهان ، بجانب كونه توبيخاً لهم ، لأنهم بفقدهم أهم طرق الإِدراك وهما السمع والبصر ، وأهم وسيلة للثقافة وهي استطلاع الحقائق من طريق المحاورة والتكلم ، صاروا بعد كل ذلك بمنزلة من فقد عله الاكتسابي ، فأصبح لا يفقه شيئاً ؛ لأن العقل الذي يكتسب به الإِنسان المعارف والحقائق يستعين استعانة كبرى بهذه الحواس الثلاث .
وبعد هذا البيان البليغ لحال الذين يتخذون من دون الله أنداداً ، ولحال الكافرين المقلدين لآبائهم في الضلال بدون تدبر أو تعقل ، بعد كل ذلك وجهت السورة الكريمة نداء إلى المؤمنين بينت لهم فيه - وفيما سيأتي بعده من آيات - كثيراً من التشريعات والآداب والأحكام التي هم في حاجة إليها فقال - تعالى - :
{ ياأيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ . . . }
وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ ( 171 )
وقوله تعالى : { ومثل الذين كفروا } الآية ، المراد تشبيه واعظ الكافرين وداعيهم والكافرين الموعوظين بالراعي الذي ينعق بالغنم أو الإبل فلا تسمع إلا دعاءه ونداءه ولا تفقه ما يقول ، هكذا فسر ابن عباس وعكرمة والسدي وسيبويه .
قال القاضي أبو محمد : فذكر بعض هذه الجملة وترك البعض ، ودل المذكور على المحذوف وهذه نهاية الإيجاز( {[1544]} ) .
والنعيق زجر الغنم والصياح بها ، قال الأخطل : [ الكامل ]
انعَقْ بِضَأْنِكَ يا جَرِيرُ فإنَّما . . . منَّتْكَ نَفْسُكَ في الْخَلاَءِ ضَلاَلا( {[1545]} )
وقال قوم : إنما وقع هذا التشبيه براعي الضأن لأنها من أبلد الحيوان ، فهي تحمق راعيها ، وفي المثل أحمق من راعي ضأن ثمانين( {[1546]} ) ، وقد قال دريد لمالك بن عوف في يوم هوازن «راعي ضأن والله »( {[1547]} ) ، وقال الشاعر : [ البسيط ]
أَصْبَحْتُ هُزْءاً لراعي الضَّأْنِ يَهْزَأُ بي . . . مَاذَا يرِيبُكَ منّيَ رَاعيَ الضَّانِ( {[1548]} )
فمعنى الآية أن هؤلاء الكفرة يمر الدعاء على آذانهم صفحاً يسمعونه ولا يفقهونه إذ لا ينتفعون بفقهه( {[1549]} ) ، وقال ابن زيد : المعنى في الآية : ومثل الذين كفروا في اتباعهم آلهتهم وعبادتهم إياها كمثل الذي ينعق بما لا يسمع منه شيئاً إلا دوياً غير مفيد ، يعني بذلك الصدى الذي يستجيب من الجبال ، ووجه الطبري في الآية معنى آخر ، وهو أن المراد : ومثل الكافرين في عبادتهم آلهتهم كمثل الذي ينعق بشيء بعيد منه فهو لا يسمع من أجل البعد ، فليس للناعق من ذلك إلا النداء الذي يتعبه ويصبه ، فإنما شبه في هذين( {[1550]} ) التأويلين الكفار بالناعق والأصنام بالمنعوق به ، وشبهوا في الصمم والبكم والعمى بمن لا حاسة له لما لم ينتفعوا بحواسهم ولا صرفوها في إدراك ما ينبغي ، ومنه قول الشاعر : [ الرجز ]
أصم عمّا ساءه ، سميع( {[1551]} ) . . . ولما تقرر فقدهم لهذه الحواس قضى بأنهم { لا يعقلون } إذ العقل كما قال أبو المعالي وغيره : علوم ضرورية تعطيها هذه الحواس ، أو لا بد في كسبها من الحواس ، وتأمل( {[1552]} ) .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.