التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيۡهِمۡ حَسۡرَةٗ ثُمَّ يُغۡلَبُونَۗ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحۡشَرُونَ} (36)

ثم حكى - سبحانه - ما كانوا يفعلونه من إنفاق أموالهم لا في الخير ولكن في الشرور والآثام وتوعدهم على ذلك بسوء المصير فقال - تعالى - : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ والذين كفروا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } .

روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها ما ذكره محمد بن إسحاق عن الزهرى وغيره قالوا : لما أصيبت قريش يوم بدر ، ورجع فلُّهم - أي جيشهم المهزوم - إلى مكة ورجع أبو سفيان بعيره ، مشى عبد الله بن ربيعة وعكرمة بن أبى جهل ، وصفوان بن أمية في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأنباؤهم وإخوانهم في بدر ، فكلموا أبا سفيان بن حرب ، ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة ، فقالوا : يا معشر قريش إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم ، فأعينونا بها المال على حربه ، لعلنا أن ندرك منه ثأراً بمن أصيب منا . ففلعوا . قال : ففيهم - كما ذكر عن ابن عباس - أنزل الله - تعالى - { إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله . . } الآية .

وروى ابن جرير عن سعيد بن جبرير قال : نزلت في أبى سفيان بن حرب ، استأجر يوم غزوة أحد ألفين من الأحابيش من بنى كنانة ، فقاتل بهم النبى - صلى الله عليه وسلم - :

وروى عن الكلبى والضحاك ومقاتل أنها نزلت في المطعمين يوم بدر ، وكانوا اثنى عشر رجلا من قريش . . . كان كل واحد منهم يطعم الناس كل يوم عشر جزر .

قال ابن كثير : وعلى كل تقدير فهى عامة وإن كان سبب نزولها خاصا .

أى : أن الآية الكريمة تتناول بوعديها كل من يبذل أمواله في الصد عن سبيل الله ، وفى تأييد الباطل ومعارضة الحق .

المعنى : أن الذين كفروا بالحق لما جاءهم { يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ } لافى جوه الخير ، وإنما ينفقونها { لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } أى : ينفقونها ليمنعوا الناس عن الدخول في الدين الذي يوصلهم إلى رضا الله وغلى طريقه القويم .

واللام في قوله : { لِيَصُدُّواْ } لام الصيرورة ، ويصح أن تكون للتعليل ؛ لأن غرضهم منع الناس عن الدخول في دين الله الذي جاء به النبى - صلى الله عليه وسلم - ، والذى يرونه ديناً مخالفاً لما كان عليه الآباء والأجداد فيجب محاربته في زعمهم .

وقوله : { فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ . . . } بيان لما سيؤول إليه أمرهم في الدنيا من الخيبة والهزيمة والندامة .

أى : فيسنفقون هذه الأموال في الشرور والعدوان ، ثم تكون عاقبة ذلك حسرة وندامة عليهم ، لأنهم لم يصلوا - ولن يصلوا - من وراء إنفاقها إلى ما يبغون ويؤملون . وفضلا عن كل هذا فستكون نهايتهم الهزيمة والإِذلال في الدنيا ، لأن سنة الله قد اقتضت أن يجعل النصر في النهاية لأتباع الحق لالأتباع الباطل .

وقوله : { فَسَيُنفِقُونَهَا } خبر إن في قوله { إِنَّ الذين كَفَرُواْ . . } واقترن الخبر بالفاء لتضمن المبتدأ الموصول مع صلته معنى الشرط ، فصار الخبر بمنزلة الجزاء بحسب المعنى .

وفى تكرير الإِنفاق في شبه الشرط والجزاء ، إشعار بكمال سوء إنفاقهم ، حيث إنهم لم ينفقوا أموالهم في خير أو ما يشبه الخير ، وإنما أنفقوها في الشرور المحضة .

وجاء العطف بحرف { ثُمَّ } للدلالة على البون الشاسع بين ما قصدوه من نفقتهم وبين ما آل ويئول إليه أمرهم . فهم قد قصوا بنفقتهم الوقوف في وجه الحق والانتصار على المؤمنين . . ولكن هذا القصد ذهب أدراج الرياح ، فقد ذهبت أموالهم سدى ، وغلبوا المرة بعد المرة ، وعاد المؤمنون إلى مكة فاتحين ظافرين بعد أن خرجوا منها مهاجرين .

وقوله : { والذين كفروا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } بيان لسوء مصيرهم في الآخرة ، بعد بيان حسرتهم وهزيمتهم في الدنيا .

أى : أن هؤلاء الكافرين ستكون عاقبة إنفاقهم لأموالهم الحسرة والهزيمة في الدنيا ، أما في الآخرة فسيكون مصيرهم الحشر والسوق إلى نار جهنم لا إلى غيرها .

 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمۡوَٰلَهُمۡ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيۡهِمۡ حَسۡرَةٗ ثُمَّ يُغۡلَبُونَۗ وَٱلَّذِينَ كَفَرُوٓاْ إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحۡشَرُونَ} (36)

قال بعض الرواة منهم ابن أبزى وابن جبير والسدي ومجاهد : سبب نزول هذه الآية أن أبا سفيان أنفق في غزوة أحد على الأحابيش وغيرهم أربعين أوقية من الذهب أو نحو هذا ، وأن الآية نزلت في ذلك ، وقال ابن شهاب ومحمد بن يحيى بن حيان وعاصم بن عمر بن قتادة والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ : إنه لما قتل من قتل ببدر اجتمع أبناؤهم وقرابتهم وقالوا لمن خلص ماله في العير : إن محمداً قد نال منا ما ترون ، ولكن أعينونا بهذا المال الذي كان سبب الواقعة ، فلعلنا أن ننال منه ثأراً ، ففعلوا فنزلت الآية في ذلك .

قال القاضي أبو محمد : وعلى القولين فإنما أنفق المال في غزوة أحد ، فأخبر الله تعالى في هذه الآية خبراً لفظه عام في الكفار ، والإشارة به إلى مخصوصين أنهم ينفقون أموالهم يقصدون بذلك الصد عن سبيل الله والدفع في صدر الإسلام ، ثم أخبر خبراً يخص المشار إليهم أنهم ينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ، إذ لا تتم لهم إرادة ويذهب المال باطلاً ، والحسرة التلهف على الفائت ، ويحتمل أن تكون الحسرة في يوم القيامة ، والأول أظهر وإن كانت حسرة القيامة راتبة عليهم ، ثم أخبر أنه يغلبون بعد ذلك ، بأن تكون الدائرة عليهم ، وهذا من إخبار القرآن بالغيوب لأنه أخبر بما يكون قبل أن يكون ، فكان كما أخبر ، قال ابن سلام : بين الله عز وجل أنهم يغلبون قبل أن يقاتلوا بسنة ، حكاه الزهراوي ، ثم أخبر تعالى عن الكافرين أنهم يجمعون إلى جهنم ، والحشر جمع الناس والبهائم إلى غير ذلك مما يجمع ويحضر ، ومنه قوله { وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً } [ الأنعام : 111 ] ومنه في التفسير : أن السلوى طائر كانت الجنوب تحشره على بني إسرائيل ، والقوم الذين جلبهم أبو سفيان وأنفق المال عليهم هم الأحابيش من كنانة ، ولهم يقول كعب بن مالك : [ الطويل ]

وَجِئْنا إلى موجٍ من البحر وسطه*** أحابيشُ منهم حاسرٌ ومقنعُ

ثلاثة آلاف ونحن قصية*** ثلاثُ مئين إن كثرن وأربعُ{[5339]}

وقال الضحاك وغيره : إن هذه الآية نزلت في نفقة المشركين الخارجين إلى بدر الذين كانوا يذبحون يوماً عشراً ويوماً تسعاً من الإبل ، وحكى نحو هذا النقاش .


[5339]:- الحاسر: الذي لا ردع عليه ولا مغفر. والمقنع: الذي لبس المغفر على رأسه. والنّصيّة: خيار القوم وأشرافهم، وهكذا رواه في اللسان، ولكنّه فسّر النصية بأنها البقية، ونسب ذلك إلى ابن السكيت، وقد روي البيت بروايات أخرى لعلها من أخطاء النساخ، فقد قيل: (بقية)، و(قصية). وعند الألوسي: (ونحن عصابة).