ثم حكى - سبحانه - ما كانوا يفعلونه من إنفاق أموالهم لا في الخير ولكن في الشرور والآثام وتوعدهم على ذلك بسوء المصير فقال - تعالى - : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ والذين كفروا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } .
روى المفسرون في سبب نزول هذه الآية روايات منها ما ذكره محمد بن إسحاق عن الزهرى وغيره قالوا : لما أصيبت قريش يوم بدر ، ورجع فلُّهم - أي جيشهم المهزوم - إلى مكة ورجع أبو سفيان بعيره ، مشى عبد الله بن ربيعة وعكرمة بن أبى جهل ، وصفوان بن أمية في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأنباؤهم وإخوانهم في بدر ، فكلموا أبا سفيان بن حرب ، ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة ، فقالوا : يا معشر قريش إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم ، فأعينونا بها المال على حربه ، لعلنا أن ندرك منه ثأراً بمن أصيب منا . ففلعوا . قال : ففيهم - كما ذكر عن ابن عباس - أنزل الله - تعالى - { إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله . . } الآية .
وروى ابن جرير عن سعيد بن جبرير قال : نزلت في أبى سفيان بن حرب ، استأجر يوم غزوة أحد ألفين من الأحابيش من بنى كنانة ، فقاتل بهم النبى - صلى الله عليه وسلم - :
وروى عن الكلبى والضحاك ومقاتل أنها نزلت في المطعمين يوم بدر ، وكانوا اثنى عشر رجلا من قريش . . . كان كل واحد منهم يطعم الناس كل يوم عشر جزر .
قال ابن كثير : وعلى كل تقدير فهى عامة وإن كان سبب نزولها خاصا .
أى : أن الآية الكريمة تتناول بوعديها كل من يبذل أمواله في الصد عن سبيل الله ، وفى تأييد الباطل ومعارضة الحق .
المعنى : أن الذين كفروا بالحق لما جاءهم { يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ } لافى جوه الخير ، وإنما ينفقونها { لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } أى : ينفقونها ليمنعوا الناس عن الدخول في الدين الذي يوصلهم إلى رضا الله وغلى طريقه القويم .
واللام في قوله : { لِيَصُدُّواْ } لام الصيرورة ، ويصح أن تكون للتعليل ؛ لأن غرضهم منع الناس عن الدخول في دين الله الذي جاء به النبى - صلى الله عليه وسلم - ، والذى يرونه ديناً مخالفاً لما كان عليه الآباء والأجداد فيجب محاربته في زعمهم .
وقوله : { فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ . . . } بيان لما سيؤول إليه أمرهم في الدنيا من الخيبة والهزيمة والندامة .
أى : فيسنفقون هذه الأموال في الشرور والعدوان ، ثم تكون عاقبة ذلك حسرة وندامة عليهم ، لأنهم لم يصلوا - ولن يصلوا - من وراء إنفاقها إلى ما يبغون ويؤملون . وفضلا عن كل هذا فستكون نهايتهم الهزيمة والإِذلال في الدنيا ، لأن سنة الله قد اقتضت أن يجعل النصر في النهاية لأتباع الحق لالأتباع الباطل .
وقوله : { فَسَيُنفِقُونَهَا } خبر إن في قوله { إِنَّ الذين كَفَرُواْ . . } واقترن الخبر بالفاء لتضمن المبتدأ الموصول مع صلته معنى الشرط ، فصار الخبر بمنزلة الجزاء بحسب المعنى .
وفى تكرير الإِنفاق في شبه الشرط والجزاء ، إشعار بكمال سوء إنفاقهم ، حيث إنهم لم ينفقوا أموالهم في خير أو ما يشبه الخير ، وإنما أنفقوها في الشرور المحضة .
وجاء العطف بحرف { ثُمَّ } للدلالة على البون الشاسع بين ما قصدوه من نفقتهم وبين ما آل ويئول إليه أمرهم . فهم قد قصوا بنفقتهم الوقوف في وجه الحق والانتصار على المؤمنين . . ولكن هذا القصد ذهب أدراج الرياح ، فقد ذهبت أموالهم سدى ، وغلبوا المرة بعد المرة ، وعاد المؤمنون إلى مكة فاتحين ظافرين بعد أن خرجوا منها مهاجرين .
وقوله : { والذين كفروا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } بيان لسوء مصيرهم في الآخرة ، بعد بيان حسرتهم وهزيمتهم في الدنيا .
أى : أن هؤلاء الكافرين ستكون عاقبة إنفاقهم لأموالهم الحسرة والهزيمة في الدنيا ، أما في الآخرة فسيكون مصيرهم الحشر والسوق إلى نار جهنم لا إلى غيرها .
قال بعض الرواة منهم ابن أبزى وابن جبير والسدي ومجاهد : سبب نزول هذه الآية أن أبا سفيان أنفق في غزوة أحد على الأحابيش وغيرهم أربعين أوقية من الذهب أو نحو هذا ، وأن الآية نزلت في ذلك ، وقال ابن شهاب ومحمد بن يحيى بن حيان وعاصم بن عمر بن قتادة والحصين بن عبد الرحمن بن عمرو بن سعد بن معاذ : إنه لما قتل من قتل ببدر اجتمع أبناؤهم وقرابتهم وقالوا لمن خلص ماله في العير : إن محمداً قد نال منا ما ترون ، ولكن أعينونا بهذا المال الذي كان سبب الواقعة ، فلعلنا أن ننال منه ثأراً ، ففعلوا فنزلت الآية في ذلك .
قال القاضي أبو محمد : وعلى القولين فإنما أنفق المال في غزوة أحد ، فأخبر الله تعالى في هذه الآية خبراً لفظه عام في الكفار ، والإشارة به إلى مخصوصين أنهم ينفقون أموالهم يقصدون بذلك الصد عن سبيل الله والدفع في صدر الإسلام ، ثم أخبر خبراً يخص المشار إليهم أنهم ينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ، إذ لا تتم لهم إرادة ويذهب المال باطلاً ، والحسرة التلهف على الفائت ، ويحتمل أن تكون الحسرة في يوم القيامة ، والأول أظهر وإن كانت حسرة القيامة راتبة عليهم ، ثم أخبر أنه يغلبون بعد ذلك ، بأن تكون الدائرة عليهم ، وهذا من إخبار القرآن بالغيوب لأنه أخبر بما يكون قبل أن يكون ، فكان كما أخبر ، قال ابن سلام : بين الله عز وجل أنهم يغلبون قبل أن يقاتلوا بسنة ، حكاه الزهراوي ، ثم أخبر تعالى عن الكافرين أنهم يجمعون إلى جهنم ، والحشر جمع الناس والبهائم إلى غير ذلك مما يجمع ويحضر ، ومنه قوله { وحشرنا عليهم كل شيء قبلاً } [ الأنعام : 111 ] ومنه في التفسير : أن السلوى طائر كانت الجنوب تحشره على بني إسرائيل ، والقوم الذين جلبهم أبو سفيان وأنفق المال عليهم هم الأحابيش من كنانة ، ولهم يقول كعب بن مالك : [ الطويل ]
وَجِئْنا إلى موجٍ من البحر وسطه*** أحابيشُ منهم حاسرٌ ومقنعُ
ثلاثة آلاف ونحن قصية*** ثلاثُ مئين إن كثرن وأربعُ{[5339]}
وقال الضحاك وغيره : إن هذه الآية نزلت في نفقة المشركين الخارجين إلى بدر الذين كانوا يذبحون يوماً عشراً ويوماً تسعاً من الإبل ، وحكى نحو هذا النقاش .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.