ثم ختم - سبحانه - السورة الكريمة ، بتلك التسلية الرقيقة لنبيه - صلى الله عليه وسلم - فقال : { واصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا . . } .
أى : واصبر - أيها الرسول الكريم - { لِحُكْمِ رَبِّكَ } إلى أن ننزل بهم عقابنا فى الوقت الذى نشاؤه ونختاره { فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } أى : فإنم بمرأى منا وتحت رعايتنا وحمايتنا وحفظنا .
{ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } أى : وأكثر من تسبيح ربك وتنزيهه عن كل مالا يليق به حين تقوم من منامك ، أو من مجلسك ، أو حين تقوم للصلاة .
{ واصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } .
عطف على جملة { فذرهم حتى يلاقوا يومهم } [ الطور : 45 ] الخ ، وما بينهما اعتراض وكان مفتتح السورة خطاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم ابتداء من قوله تعالى : { إن عذاب ربك لواقع } [ الطور : 7 ] المسوق مساق التسلية له ، وكان في معظم ما في السورة من الأخبار ما يخالطه في نفسه صلى الله عليه وسلم من الكدر والأسف على ضلال قومه وبعدهم عما جاءهم به من الهدى ختمَت السورة بأمره بالصبر تسلية له وبأمره بالتسبيح وحمدِ الله شكراً له على تفضيله بالرسالة .
والمراد ب { حكم ربك } ما حكم به وقدره من انتفاء إجابَة بعضهم ومن إبطاء إجابة أكثرهم .
فاللام في قوله : { لحكم ربك } يجوز أن تكون بمعنى ( على ) فيكون لتعدية فعل { اصبر } كقوله تعالى : { واصبر على ما يقولون } [ المزمل : 10 ] . ويجوز فيها معنى ( إلى ) أي اصبر إلى أن يحكم الله بينك وبينهم فيكون في معنى قوله : { واصبر حتى يحكم اللَّه } [ يونس : 109 ] ويجوز أن تكون للتعليل فيكون { لحكم ربك } هو ما حكَم به من إرساله إلى الناس ، أي اصبر لأنك تقوم بما وجب عليك .
فللام في هذا المكان موقع جامع لا يفيد غيرُ اللام مثلَه .
والتفريع في قوله : { فإنك بأعيننا } تفريع العلة على المعلول { اصبر } لأنك بأعيننا ، أي بمحل العناية والكلاءة منا ، نحن نعلم ما تلاقيه وما يريدونه بك فنحن نجازيك على ما تلقاه ونحرسك من شرهم وننتقم لك منهم ، وقد وفى بهذا كله التمثيلُ في قوله : { فإنك بأعيننا } ، فإن الباء للإِلصاق المجَازي ، أي لا نغفل عنك ، يقال : هو بمرأى مني ومسمع ، أي لا يخفى عليّ شأنه . وذكر العين تمثيل لشدة الملاحظة وهذا التمثيل كناية عن لازم الملاحظة من النصر والجزاء والحفظ .
وقد آذن بذلك قوله : { لحكم ربك } دون أن يقول : واصبر لحكمنا ، أو لحكم الله ، فإن المربوبية تؤذن بالعناية بالمربوب .
وجمعُ الأعين : إما مبالغة في التمثيل كأنَّ الملاحظة بأعين عديدة كقوله : { واصنع الفلك بأعيننا } [ هود : 37 ] وهو من قبيل { والسماء بنيناها بأييد } [ الذاريات : 47 ] .
ولك أن تجعل الجمع باعتبار تعدد متعلَّقات الملاحظة فملاحظةٌ للذب عنه ، وملاحظة لتوجيه الثواب ورفع الدرجة ، وملاحظة لجزاء أعدائه بما يستحقونه ، وملاحظة لنصره عليهم بعموم الإيمان به ، وهذا الجمع على نحو قوله تعالى في قصة نوح : { وحملناه على ذات ألواح ودسر تجري بأعيننا } [ القمر : 13 ، 14 ] لأن عناية الله بأهل السفينة تتعلّق بإجرائها وتجنيب الغرق عنها وسلامة ركابها واختيار الوقت لإِرسائها وسلامة الركاب في هبوطهم ، وذلك خلاف قوله في قصة موسى { ولتصنع على عيني } [ طه : 39 ] فإنه تعلق واحد بمشي أخته إلى آل فرعون وقولها : { هل أدلكم على من يكفله } [ طه : 40 ] .
{ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } .
التسبيح : التنزيه ، والمراد ما يدل عليه من قول ، وأشهر ذلك هو قول : « سبحان الله » وما يرادفه من الألفاظ ، ولذلك كثر إطلاق التسبيح وما يشتق منه على الصلوات في آيات كثيرة وآثار .
والباء في قوله : { بحمد ربك } للمصاحبة جمعاً بين تعظيم الله بالتنزيه عن النقائص وبين الثناء عليه بأوصاف الكمال .
و { حين تقوم } وقت الهبوب من النوم ، وهو وقت استقبال أعمال اليوم وعنده تتجدد الأسباب التي من أجلها أُمر بالصبر والتسبيح والحمد .
فالتسبيح مراد به : الصلاة ، والقيام : جعل وقت للصلوات : إمّا للنوافل ، وإما لصلاة الفريضة وهي الصبح .
وقيل : التسبيح قوله : « سبحان الله » ، والقيام : الاستعداد للصلاة أو الهبوب من النوم . وروي ذلك عن عوف بن مالك وابن زيد والضحاك على تقارب بين أقوالهم ، أي يقول القائم : « سبحان الله وبحمده » أو يقول : « سبحانك اللهم ربّنا وبحمدك ولا إله غيرك » .
وعن عوف بن مالك وابن مسعود وجماعة : أن المراد بالقيام القيام من المجلس لما روى الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من جلس مجلساً فكثر فيه لَغَظُه فقال قبل أن يقوم من مجلسه ذلك : سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك ، إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك " ولم يذكر أنه قرأ هذه الآية .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
فقال يعزى نبيه صلى الله عليه وسلم: {واصبر لحكم ربك} يعني لقضاء ربك على تكذيبهم إياك {فإنك بأعيننا} يقول: إنك بعين الله تعالى {وسبح بحمد ربك} يقول: وصل بأمر ربك {حين تقوم} إلى الصلاة المكتوبة...
{وسبح بحمد ربك حين تقوم} [الطور: 48]...
سئل مالك عن تفسير: {وسبح بحمد ربك حين تقوم} قال: حين تقوم إلى الصلاة في رأيي وقد قال الله: {ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم} [الطور: 49]...
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم" وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبّكَ "يا محمد الذي حكم به عليك، وامض لأمره ونهيه، وبلّغ رسالاته "فإنّكَ بأَعْيُنِنا" يقول جلّ ثناؤه: فإنك بمرأى منا نراك ونرى عملك، ونحن نحوطك ونحفظك، فلا يصل إليك من أرادك بسوء من المشركين.
وقوله: "وَسَبّحْ بِحمْدِ رَبّكَ" اختلف أهل التأويل في تأويل ذلك؛ فقال بعضهم: معنى ذلك: إذا قمت من نومك فقل: سبحان اللّهِ وبحمده... قال ابن زيد، في قوله: "وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ حِينَ تَقُومُ" قال: إذا قام لصلاة من ليل أو نهار. وقرأ "يا أيّها الّذِينَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلى الصّلاةِ" قال: من نوم...
وقال بعضهم: بل معنى ذلك: إذا قمت إلى الصلاة المفروضة فقل: سبحانك اللهمّ وبحمدك... عن الضحاك. "وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ حِينَ تقومُ" قال: إذا قام إلى الصلاة قال: سبحانك اللهمّ وبحمدك، وتبارك اسمك ولا إله غيرك...
وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: معنى ذلك: وصلّ بحمد ربك حين تقوم من مَنامك، وذلك نوم القائلة، وإنما عنى صلاة الظهر.
وإنما قلت: هذا القول أولى القولين بالصواب، لأن الجميع مجمعون على أنه غير واجب أن يقال في الصلاة: سبحانك وبحمدك، وما رُوي عن الضحاك عند القيام إلى الصلاة، فلو كان القول كما قاله الضحاك لكان فرضا أن يُقال لأن قوله: "وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ" أمر من الله تعالى بالتسبيح، وفي إجماع الجميع على أن ذلك غير واجب الدليل الواضح على أن القول في ذلك غير الذي قاله الضحاك.
فإن قال قائل: ولعله أُريد به الندب والإرشاد. قيل: لا دلالة في الآية على ذلك، ولم تقم حجة بأن ذلك معنيّ به ما قاله الضحاك، فيجعل إجماع الجميع على أن التسبيح عند القيام إلى الصلاة مما خير المسلمون فيه دليلاً لنا على أنه أُريد به الندب والإرشاد.
وإنما قلنا: عُنِي به القيام من نوم القائلة، لأنه لا صلاة تجب فرضا بعد وقت من أوقات نوم الناس المعروف إلا بعد نوم الليل، وذلك صلاة الفجر، أو بعد نوم القائلة، وذلك صلاة الظهر فلما أمر بعد قوله: "وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ حِينَ تَقُومُ" بالتسبيح بعد إدبار النجوم، وذلك ركعتا الفجر بعد قيام الناس من نومها ليلاً، عُلِم أن الأمر بالتسبيح بعد القيام من النوم هو أمر بالصلاة التي تجب بعد قيام من نوم القائلة على ما ذكرنا دون القيام من نوم الليل.
تأويلات أهل السنة للماتريدي 333 هـ :
{واصبر لحُكم ربك} دلّ هذا الحرف أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كُلّف أمرا شديدا شاقا عليه حتى قال له: {واصبر} إذ الأمر بالصبر لا يكون إلا في أمور شاقة شديدة،... ثم قوله تعالى: {لِحُكم ربك} يحتمل وجوها:
أحدها: ما أمر من تبليغ الرسالة إلى الفراعنة الذين كان همّهم القتل لمن خالفهم، فذلك أمر شديد، فأمره بالصبر على ذلك والتبليغ إلى أولئك.
والثاني: أمره بالصبر على أذاهم واستهزائهم به وترك المكافأة لهم. والثالث: يحتمل أن يكون الأمر بالصبر على الأمور التي كانت عليه في خاص نفسه من احتمال غصّة التكذيب وحُزنه على تركهم التوحيد والإيمان. وإنما ذلك كله حكم الله تعالى... {فإنك بأعيُننا} أي بمنظر وعلم منا: فإن كان الأمر بالصبر على القيام بتبليغ الرسالة إلى من ذكرنا فيُخرّج قوله: {فإنك بأعيُننا} مخرَج وعد النصر والمعرفة كقوله تعالى: {والله يعصِمُك من الناس} [المائدة: 67]. وإن كان الأمر بالصبر على ترك مكافأتهم أو على القيام بالأمور التي في ما بينه وبين ربه تعالى، فيصير كأنه قال: على علم منا بما يكون منهم من التكذيب والاستهزاء والأذى كلّفناك لا عن جهل منا بذلك، والله أعلم...
{وسبّح بحمد ربك} أي نزّهه عن معاني الخَلق وعما لا يليق، واذكر الثناء عليه بما هو أهله...
. {حين تقوم} يحتمل {حين تقوم} من مجلسك أو من مقامك أم {حين تقوم} للتعيُّش والانتشار. فإذا كان المراد {حين تقوم} من مجلسك، فيكون التسبيح ما ذُكر في الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال: (من جلس مجلسا كثُر فيه لغَطُه فقل قبل أن تقوم من مجلسك: سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك، وأتوب إليك، غفر له ما كان في مجلسه ذلك) [الترمذي 3433] ولم يذكر الآية. وإن كان المراد {حين تقوم} من منامك، فجائز أن يكون المراد منه الصلاة، وإن كان {حين تقوم} الانتشار والتعيّش، فيصير كأنه أمر بالتسبيح بالنهار في وقت الانتشار...
{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ}...
. "حين تقوم من كل مكان سبحانك وبحمدك لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك "
لطائف الإشارات للقشيري 465 هـ :
قوله جلّ ذكره: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}. أنت بمرأىً مِنَّا، وفي نصرةٍ منَّا. {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}: في هذا تخفيفٌ عليه وهو يقاسي الصبر.
الكشاف عن حقائق التنزيل للزمخشري 538 هـ :
{لِحُكْمِ رَبّكَ} بإمهالهم وما يلحقك فيه من المشقة والكلفة. {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} مثل، أي: بحيث نراك ونكلؤك.
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 542 هـ :
{فإنك بأعيننا}، ومعناه بإدراكنا وأعين حفظنا وحيطتنا كما تقول: فلان يرعاه الملك بعين. وهذه الآية ينبغي أن يقررها كل مؤمن في نفسه، فإنها تفسح مضايق الدنيا.
(الأول) أنه تعالى لما بين أنهم يكيدونه كان ذلك مما يقتضي في العرف المبادرة إلى إهلاكهم لئلا يتم كيدهم فقال: اصبر ولا تخف، فإنك محفوظ بأعيننا.
(ثانيها) أنه تعالى قال فاصبر ولا تدع عليهم فإنك بمرأى منا نراك وهذه الحالة تقتضي أن تكون على أفضل ما يكون من الأحوال لكن كونك مسبحا لنا أفضل من كونك داعيا على عباد خلقناهم، فاختر الأفضل فإنك بمرأى منا.
(ثالثها) أن من يشكو حاله عند غيره يكون فيه إنباء عن عدم علم المشكو إليه بحال الشاكي فقال تعالى: {اصبر} ولا تشك حالك فإنك بأعيننا نراك فلا فائدة في شكواك...
اللام في قوله {واصبر لحكم} تحتمل وجوها:
(الأول) هي بمعنى إلى أي اصبر إلى أن يحكم الله.
(الثاني) الصبر فيه معنى الثبات، فكأنه يقول فاثبت لحكم ربك يقال ثبت فلان لحمل قرنه.
(الثالث) هي اللام التي تستعمل بمعنى السبب يقال لم خرجت فيقال لحكم فلان علي بالخروج فقال: {واصبر} واجعل سبب الصبر امتثال الأمر حيث قال واصبر لهذا الحكم عليك لا لشيء آخر.
المسألة الثالثة: ما وجه تعلق الباء هاهنا قلنا قد ظهر من جميع الوجوه، أما إن قلنا بأنه للحفظ فتقديره محفوظ بأعيننا، وإن قلنا للعلم فمعناه بمرأى منا أي بمكان نراك وتقديره فإنك {بأعيننا} مرئي...
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
{واصبر} أي أوجد هذه الحقيقة لتصبر على ما أنت فيه من أداء الرسالة وما لها من الكلف من أذى الناس وغيره ولكونه في مقام الإعراض عن الكفار وكون إعراضه عنهم أصعب عليه من مقاساة إنذاره وإن نشأ عنها تكذيبهم واستهزاؤهم، اشتدت العناية هنا بالصبر فقدم، ولما كانت الطاعة أعظم ناصر وأكبر معز، وكانت الصلاة أعظمها قال: {وسبح} أي أوقع التنزيه عن شائبة كل نقص بالقلب واللسان والأركان، متلبساً {بحمد ربك} أي المحسن إليك، فأثبت له كل كمال مع تنزيهه له عن كل نقص، فلا يكون في ملكه ما لا يريد ولا يريد إلا ما هو حكمة بالغة.
في ظلال القرآن لسيد قطب 1387 هـ :
ويفرغ بهذا التهديد الأخير من أمر المكذبين الظالمين، الذين طاردهم هذه المطاردة الطويلة العنيفة، لينتهي بهم إلى موقف المهدد الذي ينتظره العذاب من بعيد ومن قريب.. يفرغ منه ليلتفت إلى النبي الكريم الذي تطاول عليه المتطاولون، وتقول عليه المتقولون، يلتفت إليه [صلى الله عليه وسلم] يوجهه إلى الصبر على هذا العناء، وهذا التكذيب، وهذا التطاول؛ والصبر على طريق الدعوة الشاق الطويل. تاركا الأمر لحكم الله يفعل به ما يشاء: (واصبر لحكم ربك)..
ومع التوجيه إلى الصبر إيذان بالإعزاز الرباني، والعناية الإلهية، والأنس الحبيب الذي يمسح على مشقات الطريق مسحا، ويجعل الصبر عليه أمرا محببا، وهو الوسيلة إلى هذا الإعزاز الكريم:
(واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا)..
ويا له من تعبير! ويا له من تصوير! ويا له من تقدير!
إنها مرتبة لم يبلغها قط إنسان. هذه المرتبة التي يصورها هذا التعبير الفريد في القرآن كله. حتى بين التعبيرات المشابهة.
لقد قيل لموسى عليه السلام: (وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى).. وقيل له: (وألقيت عليك محبة مني ولتصنع على عيني). وقيل له: (واصطنعتك لنفسي)..
وكلها تعبيرات تدل على مقامات رفيعة. ولكنه قيل لمحمد [صلى الله عليه وسلم]: (فإنك بأعيننا) وهو تعبير فيه إعزاز خاص، وأنس خاص. وهو يلقي ظلا فريدا أرق وأشف من كل ظل.. ولا يملك التعبير البشري أن يترجم هذا التعبير الخاص. فحسبنا أن نشير إلى ظلاله، وأن نعيش في هذه الظلال.
ومع هذا الإيناس هداية إلى طريق الصلة الدائمة به: (وسبح بحمد ربك حين تقوم. ومن الليل فسبحه وإدبار النجوم).. فعلى مدار اليوم. عند اليقظة من النوم. وفي ثنايا الليل. وعند إدبار النجوم في الفجر. هنالك مجال الاستمتاع بهذا الإيناس الحبيب. والتسبيح زاد وأنس ومناجاة للقلوب. فكيف بقلب المحب الحبيب القريب؟؟؟
التحرير والتنوير لابن عاشور 1393 هـ :
{واصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا}. عطف على جملة {فذرهم حتى يلاقوا يومهم} [الطور: 45] الخ، وما بينهما اعتراض وكان مفتتح السورة خطاباً للنبيء صلى الله عليه وسلم ابتداء من قوله تعالى: {إن عذاب ربك لواقع} [الطور: 7] المسوق مساق التسلية له، وكان في معظم ما في السورة من الأخبار ما يخالطه في نفسه صلى الله عليه وسلم من الكدر والأسف على ضلال قومه وبعدهم عما جاءهم به من الهدى ختمَت السورة بأمره بالصبر تسلية له وبأمره بالتسبيح وحمدِ الله شكراً له على تفضيله بالرسالة. والمراد ب {حكم ربك} ما حكم به وقدره من انتفاء إجابَة بعضهم ومن إبطاء إجابة أكثرهم. فاللام في قوله: {لحكم ربك} يجوز أن تكون بمعنى (على) فيكون لتعدية فعل {اصبر} كقوله تعالى: {واصبر على ما يقولون} [المزمل: 10]. ويجوز فيها معنى (إلى) أي اصبر إلى أن يحكم الله بينك وبينهم فيكون في معنى قوله: {واصبر حتى يحكم اللَّه} [يونس: 109] ويجوز أن تكون للتعليل فيكون {لحكم ربك} هو ما حكَم به من إرساله إلى الناس، أي اصبر لأنك تقوم بما وجب عليك. فللام في هذا المكان موقع جامع لا يفيد غيرُ اللام مثلَه. والتفريع في قوله: {فإنك بأعيننا...
. {اصبر} لأنك بأعيننا، أي بمحل العناية والكلاءة منا، نحن نعلم ما تلاقيه وما يريدونه بك فنحن نجازيك على ما تلقاه ونحرسك من شرهم وننتقم لك منهم، وقد وفى بهذا كله التمثيلُ في قوله: {فإنك بأعيننا}، فإن الباء للإِلصاق المجَازي، أي لا نغفل عنك، يقال: هو بمرأى مني ومسمع، أي لا يخفى عليّ شأنه. وذكر العين تمثيل لشدة الملاحظة وهذا التمثيل كناية عن لازم الملاحظة من النصر والجزاء والحفظ. وقد آذن بذلك قوله: {لحكم ربك} دون أن يقول: واصبر لحكمنا، أو لحكم الله، فإن المربوبية تؤذن بالعناية بالمربوب. وجمعُ الأعين: إما مبالغة في التمثيل كأنَّ الملاحظة بأعين عديدة كقوله: {واصنع الفلك بأعيننا} [هود: 37] وهو من قبيل {والسماء بنيناها بأييد} [الذاريات: 47]. ولك أن تجعل الجمع باعتبار تعدد متعلَّقات الملاحظة فملاحظةٌ للذب عنه، وملاحظة لتوجيه الثواب ورفع الدرجة، وملاحظة لجزاء أعدائه بما يستحقونه، وملاحظة لنصره عليهم بعموم الإيمان به...
. {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ}. التسبيح: التنزيه، والمراد ما يدل عليه من قول، وأشهر ذلك هو قول: « سبحان الله» وما يرادفه من الألفاظ، ولذلك كثر إطلاق التسبيح وما يشتق منه على الصلوات في آيات كثيرة وآثار. والباء في قوله: {بحمد ربك} للمصاحبة جمعاً بين تعظيم الله بالتنزيه عن النقائص وبين الثناء عليه بأوصاف الكمال. و {حين تقوم} وقت الهبوب من النوم، وهو وقت استقبال أعمال اليوم وعنده تتجدد الأسباب التي من أجلها أُمر بالصبر والتسبيح والحمد. فالتسبيح مراد به: الصلاة، والقيام: جعل وقت للصلوات: إمّا للنوافل، وإما لصلاة الفريضة وهي الصبح. وقيل: التسبيح قوله: « سبحان الله»، والقيام: الاستعداد للصلاة أو الهبوب من النوم...
تفسير من و حي القرآن لحسين فضل الله 1431 هـ :
{وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ} فإن التسبيح الذي يختزن حمد الله في داخله، هو الذي يملأ الروح والعقل والقلب اطمئناناً وصبراً وانفتاحاً على الأمل الكبير في رحاب الله، {حِينَ تَقُومُ} في صلاتك التي هي معراج روح المؤمن إلى الله،