ثم بين - سبحانه - مظاهر قدرته فى خلق الإنِسان فى أطوار مختلفة ، فقال - تعالى - { هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ } أى : خلق أباكم آدم من تراب ، وأنتم فرع عنه .
{ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } وأصل النطفة : الماء الصافى . أو القليل من الماء الذى يبقى فى الدلو أو القربة ، وجمعها نطف ونطاف . يقال : نطفت القربة إذا تقاطر ماؤها بقلة .
والمراد بها هنا : المنى الذى يخرج من الرجل ، ويصب فى رحم المرأة ، { ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ } والعلقة قطعة من الدم المتجمد .
{ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } أى : ثم يخرجكم من بطون أمهاتكم أطفالا صغارا ، بعد أن تكامل خلقكم فيها . فقوله : { طفلا } اسم جنس يصدق على القليل والكثير .
ثم { لتبلغوا أَشُدَّكُمْ } بعد ذلك ، بعد أن تنتقلوا من مرحلة الطفولة إلى المرحلة التى تكتمل فيها أجسامكم وعقولكم .
{ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً } بعد ذلك ، بأن تصلوا إلى السن التى تتناقص فيها قوتكم والجملة الكريمة معطوفة على قوله { لتبلغوا } أو معمولة لمحذوف كالجمل التى تقدمتها ، أى : ثم يبقيكم لتكونوا شيوخا .
{ وَمِنكُمْ مَّن يتوفى مِن قَبْلُ } أى : ومنكم من يدركه الموت من قبل أن يدرك سن الشيخوخة ، أو سن الشباب ، أو سن الطفولة .
وقوله - تعالى - : { ولتبلغوا أَجَلاً مُّسَمًّى } معطوف على مقدر . أى : فعل ذلك بكم لكي تعيشوا ، ولتبلغوا أجلا مسمى تنتهى عنده حياتكم ، ثم تبعثون يوم القيامة للحساب . والجزاء .
وقوله : { وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أى : ولعلكم تعقلون عن ربكم أنه هو الذى يحيبكم يوم القيامة كما أماتكم ، وكما أنشأكم من تلك الأطور المتعددة وأنتم لم تكونوا قبل ذلك شيئا مذكورا .
ثم ختم - سبحانه - هذه الآيات الزاخرة بكثير من النعم بقوله - تعالى - { هُوَ الذي يُحْيِي } من يريد إحياءه { وَيُمِيتُ } من يشاء إماتته .
{ هو الذي خلقكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم يخرجكم طفلا } أطفالا ، والتوحيد لإرادة الجنس أو على تأويل كل واحد منكم . { ثم لتبلغوا أشدكم } اللام فيه متعلقة بمحذوف تقديره : ثم يبقيكم لتبلغوا وكذا في قوله :{ ثم لتكونوا شيوخا } ويجوز عطفه على { لتبلغوا } وقرأ نافع وأبو عمرو وحفص وهشام " شيوخا " بضم الشين . وقرئ " شيخا " كقوله " طفلا " . { ومنكم من يتوفى من قبل } من قبل الشيخوخة أو بلوغ الأشد . { ولتبلغوا } ويفعل ذلك لتبلغوا : { أجلا مسمى } هو وقت الموت أو يوم القيامة . { ولعلكم تعقلون } ما في ذلك من الحجج والعبر .
استئناف رابع بعد اسئتناف جملة { هُوَ الحَيُّ } [ غافر : 65 ] وما تفرع عليها ، وكلها ناشىء بعضه عن بعض . وهذا الامتنان بنعمة الإِيجاد وهو نعمة لأن المَوجُود شرف والمعدوم لا عناية به . وأدمج فيه الاستدلال على الإبداع . وتقدم الكلام على أطوار خَلق الإنسان في سورة الحج ، وتقدم الكلام على بعضه في سورة فاطر .
والطفل : اسم يصدق على الواحد والاثنين والجمع ، للمذكر والمؤنث قال تعالى : { أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء } [ النور : 31 ] وقد يطابق فيقال : طفل وطفلان وأطفال .
واللامات في قوله : { ثُمَّ لِتَبْلُغوا أشُدَّكُم } وما عطف عليه ب ( ثم ) متعلقات بمحذوف تقديره : ثم يبقيكم ، أو ثم ينشئكم لتبلغوا أشدكم ، وهي لامات التعليل مستعملة في معنى ( إلى ) لأن الغاية المقدرة من الله تشبه العلة فيما يفضي إليها ، وتقدم نظيره في سورة الحج .
وقوله : { ولتبلغوا أجَلاً مُسَمَّى } عطف على { لِتَكُونُوا شُيُوخاً } أي للشيخوخة غاية وهي الأجلُ المسمّى أي الموت فلا طور بعد الشيخوخة . وأما الأجل المقدّر للذين يهلِكون قبل أن يبلغوا الشيخوخة فقد استفيد من قوله : { وَمِنكم مَّن يُتَوفَّى مِن قَبْلُ } أن من قبل بعض هذه الأطوار ، أي يتوفى قبل أن يخرج طفلاً وهو السقط أو قبل أن يبلغ الأشدّ ، أو يتوفّى قبل أن يكون شيخاً . ولتعلقه بما يليه خاصة عطف عليه بالواو ولم يعطف ب ( ثم ) كما عطفت المجرورات الأخرى ، والمعنى : أن الله قدّر انقراض الأجيال وخَلَقَهَا بأجيال أخرى ، فالحي غايته الفناء وإن طالت حياته ، ولمّا خلقه على حالة تؤول إلى الفناء لا محالة كان عالماً بأن من جملة الغايات في ذلك الخلقِ أن يَبلغوا أجلاً .
وبُني { قبل } على الضم على نية معنى المضاف إليه ، أي من قبل ما ذُكر . والأشُدّ : القوة في البدن ، وهو ما بين ثمانَ عشرةَ سنةً إلى الثلاثين وتقدم في سورة يوسف [ 22 ] .
وشيوخ : جمع شيخ ، وهو مَن بلغ سِن الخمسين إلى الثمانين ، وتقدم عند قوله تعالى : { وهذا بعلي شيخاً } في سورة [ هود : 72 ] . ويجوز في ( شيوخ ) ضم الشين . وبه قرأ نافع وأبو عمرو وحَفص عن عاصم وأبو جعفر ويعقوب وخلف . ويجوز كسر الشين وبه قرأ ابن كثير وحمزة ، والكسائي .
وقوله : { ولَعَلَّكُم تَعْقِلُونَ } عطف على { ولتبلغوا أجَلاً مُسَمَّى } أي أن من جملة ما أراده الله من خلق الإِنسان على الحالة المبينة ، أن تكون في تلك الخلقة دلالة لآحاده على وجود هذا الخالق الخَلْقَ البديع ، وعلى إنفراده بالإِلهية ، وعلى أن ما عداه لا يستحق وصف الإِلهية ، فمن عقل ذلك من الناس فقد اهتدى إلى ما أُريد منه ومن لم يعقل ذلك فهو بمنزلة عديم العقل . ولأجل هذه النكتة لم يؤت لفعل { تعقلون } بمفعول ولا بمجرور لأنه نزل منزلة اللازم ، أي رجاء أن يكون لكم عقول فهو مراد لله من ذلك الخلق فمن حكمته أن جعل ذلك الخلق العجيب علة لأمور كثيرة .
مشروع تقني يهدف لتوفير قالب تقني أنيق وحديث يليق بالمحتوى الثري لمشروع الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم الصادر عن مؤسسة البحوث والدراسات العلمية (مبدع)، وقد تم التركيز على توفير تصفح سلس وسهل للمحتوى ومتوافق تماما مع أجهزة الجوال، كما تم عمل بعض المميزات الفريدة كميزة التلوين التلقائي للنصوص والتي تم بناء خوارزمية برمجية مخصصة لهذا الغرض.
تم الحصول على المحتوى من برنامج الجامع التاريخي لتفسير القرآن الكريم.
المشروع لا يتبع أي جهة رسمية أو غير رسمية، إنما هي جهود فردية ومبادرات شخصية لبعض الخبراء في مجال البرمجيات.
المشروع لازال في بداياته وننوي إن شاء الله العمل على تطويره بشكل مستمر وسنضع خطة تطوير توضح المميزات التي يجري العمل عليها إن شاء الله.
الدعاء للقائمين عليه، نشر الموقع والتعريف به، إرسال الملاحظات والمقترحات.