التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَۚ وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم مِّنۡ خَيۡرٖ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (110)

وبعد أن أمر القرآن المؤمنين في الآية السابقة بالعفو والصفح عن أعدائهم لأن الحكمة تجعل العفو والصفح خيراً من العقوبة والتأنيب ، انتقل بعد ذلك إلى أمرهم بالمحافظة على الشعائر التي تطهر قلوبهم ، وتزكي نفوسهم فقال - تعالى - : { وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة . . . }

قد أمرهم - سبحانه - في هذه الآية بالمواظبة على عمودي الإِسلام وهما العبادة البدنية التي تؤكد حسن صلة العبد بخالقه وهي الصلاة والعبادة المالية التي تؤلف بين قلوب الموسرين والمعسرين وهي الزكاة .

وجاءت جملة { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله } بعد ذلك ، لترغبهم في فعل الخير على وجه عام ، ولتحثهم على التزود من الأعمال الصالحة سواء أكانت فرضاً أم نفلا .

وقال { لأَنْفُسِكُم } للإِشعار بأن ما يقدمه المؤمن من خير إنما يعود نفعه إليه ، وأنه سيجد عند الله نظير ذلك الثواب الجزيل ، والأجر العظيم ، وفي قوله ، عند الله ، إشارة إلى ضخامة الثواب ، لأنه صادر من الغني الحميد .

وجاءت جملة { إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } لتأكيد ذلك الوعد ، فقد دلت على أن الله - تعالى - لا يخفى عليه عمل عامل قليلا كان أو كثيرا . وإذا كان عالماً محيطاً بكل عمل يصدر من الإِنسان ، كانت الأعمال محفوظة عنده - تعالى - ، فلا يضيع منها عمل دون أن يلقى العامل جزاءه يوم الدين .

وفي إعادة ذكر اسم الجلالة في هذه الجملة مع تقدم ذكره في قوله : { تَجِدُوهُ عِندَ الله } إشعار باستقلال هذه الجملة ، وبشدة الاهتمام بالمعنى الذي تضمنته .

كذلك من فوائد إظهار اسم الجلالة في مقام يجوز فيه الإِضمار ، أن تكون الجملة كحكمة تقال عند كل مناسبة ، بخلاف ما لو أتى بدل الاسم الظاهر بالضمير فإن إلقاءه عند المناسبة يستدعي أن تذكر الجملة السابقة معها حتى يعرف المراد من الضمير .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَۚ وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم مِّنۡ خَيۡرٖ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (110)

وقوله تعالى : { وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ } يَحُثُّ{[2525]} تعالى على الاشتغال بما ينفعهم وتَعُودُ عليهم عاقبتُه يوم القيامة ، من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، حتى يمكن لهم الله{[2526]} النصر في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد { يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } [ غافر : 52 ] ؛ ولهذا قال تعالى : { إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } يعني : أنه تعالى لا يغفل عن عمل عامل ، ولا يضيع لديه ، سواء كان خيرًا أو شرًا ، فإنه سيجازي كل عامل بعمله .

وقال أبو جعفر بن جرير في قوله تعالى : { إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } وهذا الخبر من الله للذين خاطبهم بهذه الآيات من المؤمنين ، أنهم مهما فعلوا من خير أو شر ، سرا أو علانية ، فهو به بصير لا يخفى عليه منه شيء ، فيجزيهم بالإحسان خيرًا ، وبالإساءة مثلها . وهذا الكلام وإن كان خرج مخرج الخبر ، فإن فيه وعدًا ووعيدًا وأمرًا وزجرًا . وذلك أنه أعْلَم القوم أنه بصير بجميع أعمالهم ليجدوا في طاعته إذ كان ذلك مُدَّخرًا{[2527]} لهم عنده ، حتى يثيبهم عليه ، كما قال : { وَمَا تُقَدِّمُوا لأنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ } وليحذروا معصيته .

قال : وأما قوله : { بصير } فإنه مبصر صرف إلى " بصير " كما صرف مبدع إلى " بديع " ، ومؤلم إلى " أليم " ، والله أعلم .

وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أبو زُرْعَة ، حدثنا ابن بُكَير ، حدثني ابن لَهِيعة ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أبي الخير ، عن عقبة بن عامر ، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفسر{[2528]} في هذه الآية { سَمِيعٌ بَصِيرٌ } يقول : بكل شيء بصير{[2529]} .


[2525]:في جـ، ط، ب، أ، و: "يحثهم".
[2526]:في جـ، ط، ب: "يمكن الله لهم".
[2527]:في ب، أ، و: "مذخورا".
[2528]:في جـ، ط، ب، أ: "يقرأ"، وفي و: "يقترئ".
[2529]:تفسير ابن أبي حاتم (1/336).
 
التحرير والتنوير لابن عاشور - ابن عاشور [إخفاء]  
{وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُواْ ٱلزَّكَوٰةَۚ وَمَا تُقَدِّمُواْ لِأَنفُسِكُم مِّنۡ خَيۡرٖ تَجِدُوهُ عِندَ ٱللَّهِۗ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعۡمَلُونَ بَصِيرٞ} (110)

قوله تعالى : { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة } أريد به الأمر بالثبات على الإسلام فإن الصلاة والزكاة ركناه فالأمر بهما يستلزم الأمر بالدوام على ما أنتم عليه على طريق الكناية .

وقوله : { وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله } مناسب للأمر بالثبات على الإسلام وللأمر بالعفو والصفح . وفيه تعريض باليهود بأنهم لا يقدرون قدر عفوكم وصفحكم ولكنه لا يضيع عند الله ولذلك اقتصر على قوله : { عند الله } قال الحطيئة :

من يفعل الخير لا يعدم جوائزه *** لا يذهب العرف بين الله والناس

وقوله تعالى : { إن الله بما تعملون بصير } تذييل لما قبله . والبصير العليم كما تقدم ، وهو كناية عن عدم إضاعة جزاء المحسن والمسيء لأن العليم القدير إذا علم شيئاً فهو يرتب عليه ما يناسبه إذ لا يذهله جهل ولا يعوزه عجز ، وفي هذا وعد لهم يتضمن وعيداً لغيرهم لأنه إذا كان بصيراً بما يعمل المسلمون كان بصيراً بما يعمل غيرهم .