قال - تعالى - : { والله الذي أَرْسَلَ . . . وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } .
قال أبو حيان - رحمه الله - لما ذكر - سبحانه - أشياء من الأمور السماوية ، وإرسال الملائكة ، أتبع ذلك بذكر أشياء من الأمور الأرضية كالرياح وإرسالها ، وفى هذا احتجاج على منكرى البعث ، دلهم على المثال الذى يعاينونه ، وهو إحياء الموتى سيان . وفى الحديث " أنه قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف يحيى الله الموتى وما آية ذلك فى خلقه ؟ فقال : " هر مررت بوادى أهلا - محلا - أى مجبا لا نبات فيه - ثم مررت به يهتز خضرا ؟ فقالوا : نعم ، فقال : فكذلك يحيى الله الموتى ، وتلك آيته فى خلقه " " .
فقوله - تعالى - : { والله الذي أَرْسَلَ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً } بيان لمظهر آخر من مظاهر قدرته - عز وجل - ومن سعة رحمته بعباده .
وقوله : { فَتُثِيرُ } من الإِثارة بمعنى التهييج والتحريك من حال إلى حال .
أى : والله - تعالى - وحده ، هو الذى أرسل الرياح ، فجعلها بقدرته النافذة تحرك السحب من مكان إلى مكان ، فتذهب بها تارة إلى جهة الشمال ، وتارة إلى جهة الجنوب ، وتارة إلى غير ذلك .
وقوله : { فَسُقْنَاهُ إلى بَلَدٍ مَّيِّتٍ } بيان للحكمة من هذه الإِثارة ، والمراد بالبلد الميت : الأرض الجدباء التى لا نبات فيها . والضمير فى { فَسُقْنَاهُ } يعود إلى السحاب .
وقوله : { فَأَحْيَيْنَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا } أى : فأحيينا بالمطر النازل من السحاب الأرض الجدباء ، فاهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج .
فالضمير فى قوله { بِهِ } يعود إلى المطر ، لأن السحاب يدل عليه بما بينهما من تلازم ، ويصح أن يعود إلى السحاب لأنه سبب نزول الأمطار .
وقال - سبحانه - { فَتُثِيرُ } بصيغة المضارع . استحضارا لتلك الصورة البديعة الدالة على قدرة الله - تعالى - ، والتى من شأنها أن تغرس العظات والعبر فى النفوس .
وقال - سبحانه - : { فَسُقْنَاهُ } { فَأَحْيَيْنَا } بنون العظمة ، وبالفعل الماضى ، للدلالة على تحقق قدرته ورحمته بعباده .
قال صاحب الكشاف ما ملخصه : فإن قلت : لم جاء { فَتُثِيرُ } على المضارعة دون ما قبله وما بعده ؟
قلت : ليحكى الحال التى تقع فيها إثارة الرياح للحساب ، وتستحضر تلك الصور البديعة الدالة على القدر الربانية ، وهكذا يعفلون بكل فعل فيه نوع تميز وخصوصية .
ولما كان سوق السحاب إلى البلد الميت ، وإحياء الأرض بالمطر بعد موتها ، من الدلائل على القدرة الباهرة قيل : فسقنا ، وأحيينا ، معدولا بهما عن لفظ الغيبة ، إلى ما هو أدخل فى الاختصاص وأدل عليه . .
والكاف فى قوله - تعالى - : { كَذَلِكَ النشور } بمعنى مثل ، وهى فى محل رفع على الخبرية . أى : مثل الإِحياء الذى تشاهدونه للأرض بعد نزول المطر عليها ، يكون إحياء الأموات منكم .
قال الإِمام الرازى : فإن قيل ما وجه التشبيه بقوله : { كَذَلِكَ النشور } ؟ فالجواب من وجوه :
أحدها : أن الأرض الميتة لما قبلت الحياة اللائقة بها ، كذلك الأعضاء تقبل الحياة .
ثانيها : كما أن الريح يجمع القطع السحابية ، كذلك يجمع - سبحانه - بين أجزاء الأعضاء . .
ثالثها : كما أن نسوق الريح والسحاب إلى البلد الميت ، كذلك نسوق الروح والحياة إلى البدن الميت .
والنشور : الإِحياء والبعث بعد الموت . يقال : أنشر الله - تعالى - الموتى ونشرهم ، إذا أحياهم بعد موتهم . ونشر الراعى غنمه ، إذا بثها بعد أن آواها .
كثيرا ما يستدل تعالى على المعاد بإحيائه الأرض بعد موتها - كما في [ أول ]{[24471]} سورة الحج - ينبه عباده أن يعتبروا بهذا على ذلك ، فإن الأرض تكون ميتة هامدة لا نبات فيها ، فإذا أرسل إليها{[24472]} السحاب تحمل الماء وأنزله عليها ، { اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [ الحج : 5 ] ، كذلك الأجساد{[24473]} ، إذا أراد الله سبحانه بعثها ونشورها ، أنزل من تحت العرش مطرا يعم{[24474]} الأرض جميعًا فتنبت الأجساد في قبورها كما ينبت{[24475]} الحب في الأرض ؛ ولهذا جاء في الصحيح : " كل ابن آدم يبلى إلا عَجْب الذَّنَب ، منه خلق ومنه يركب " ؛ولهذا قال تعالى : { كَذَلِكَ النُّشُورُ } .
وتقدم في " الحج " {[24476]} حديث أبي رَزِين : قلت : يا رسول الله ، كيف يحيي الله الموتى ؟ وما آية ذلك في خلقه ؟ قال : " يا أبا رزين ، أما مررت بوادي قومك محْلا{[24477]} ثم مررت به يهتز خَضِرًا ؟ " قلت : بلى . قال : «فكذلك يحيي الله الموتى » .
لما قدم في أول السورة الاستدلال بأن الله فطر السماوات والأرض وما في السماوات من أهلها وذلك أعظم دليل على تفرده بالإِلهية ثنّي هنا بالاستدلال بتصريف الأحوال بين السماء والأرض وذلك بإرسال الرياح وتكوين السحاب وإنزال المطر ، فهذا عطف على قوله : { فاطر السماوات والأرض } [ فاطر : 1 ] .
وإظهار اسم الجلالة في مقام الإِضمار دون أن يقول وهو الذي أرسل الرياح فيعود الضمير إلى اسم الله من قوله : { إن الله عليم بما يصنعون } [ فاطر : 8 ] .
واختير من دلائل الوحدانية دلالة تجمع أسباب المطر ليفضي من ذلك إلى تنظير إحياء الأموات بعد أحوال الفناء بآثار ذلك الصنع العجيب وأن الذي خلق وسائل إحياء الأرض قادر على خلق وسائل إحياء الذين ضمنتهم الأرض على سبيل الإِدماج .
وإذ قد كان القصد من الاستدلال هو وقوع الإِحياء وتقرر وقوعه جيء بفعل الماضي في قوله : { أرسل } . وأما تغييره إلى المضارع في قوله : { فتثير سحاباً } فلحكاية الحال العجيبة التي تقع فيها إثارة الرياح السحابَ وهي طريقة للبلغاء في الفعل الذي فيه خصوصية بحال تستغرب وتهم السامع . وهو نظير قول تأبط شرًّا :
بأني قد لَقيت الغول تهوي *** بسَهب كالصحيفة صَحْصَحان
فأَضرِبُها بلا دهش فخرت *** صريعاً لليدين وللجِـــرَان
فابتدأ ب ( لقيت ) لإِفادة وقوع ذلك ثم ثنى ب ( أضربها ) لاستحضار تلك الصورة العجيبة من إقدامه وثباته حتى كأنهم يبصرونه في تلك الحالة . ولم يؤت بفعل الإِرسال في هذه الآية بصيغة المضارع بخلاف قوله في سورة الروم ( 48 ) { الله الذي يرسل الرياح } الآية لأن القصد هنا استدلال بما هو واقع إظهاراً لإِمكان نظيره وأما آية سورة الروم فالمقصود منها الاستدلال على تجديد صنع الله ونعمه .
والقول في الرياح والسحاب تقدم غير مرة أولاها في سورة البقرة .
وفي قوله : { فسقناه } بعد قوله : { الله الذي أرسل الرياح } التفاوت من الغيبة إلى التكلم .
وقوله : { كذلك النشور } سبيله سبيل قوله : { يا أيها الناس إن وعد الله حق } [ فاطر : 5 ] الآيات من إثبات البعث مع تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به عنه ، إلا أن ما قبله كان مأخوذاً من فحوى الدلالة لما ظهرت في برهان صدق الرسول صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به من توحيد أخذ من طريق دلالة التقريب لوقوع البعث إذ عسر على عقولهم تصديق إمكان الإِعادة بعد الفناء ليحصل من بارقة صدق الرسول صلى الله عليه وسلم وبارقة الإِمكان ما يسوق أذهانهم إلى استقامة التصديق بوقوع البعث .
والإِشارة في قوله : { كذلك النشور } إلى المذكور من قوله : { فأحيينا به الأرض } . والأظهر أن تكون الإِشارة إلى مجموع الحالة المصورة ، أي مثل ذلك الصنع المحكم المتقن نصنع صنعاً يكون به النشور بأن يهيّىء الله حوادث سماوية أو أرضية أو مجموعة منهما حتى إذا استقامت آثارها وتهيأت أجسام لقبول أرواحها أمر الله بالنفخة الأولى والثانية فإذا الأجساد قائمة ماثلة نظير أمرِ الله بنفخ الأرواح في الأجنة عند استكمال تهيئها لقبول الأرواح .
وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم تقريب ذلك بمثل هذا مما رواه أحمد وابن أبي شيبة وقريب منه في « صحيح مسلم » عن عروة بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم " قيل لرسول الله : كيف يُحْيي الله الموتى وما آية ذلك في خلقه ؟ فقال : هل مررتَ بوادٍ أُهْلِكَ ممحلاً ثم مررتَ به يهتزُ خَضِراً ؟ قيل : نعم . قال : فكذلك يَحيِي الله الموتى وتلك آيته في خلقه " . وفي بعض الروايات عن أبي رزين العقيلي أن السائل أبو رزين .
وقرأ الجمهور { الرياح } بصيغة الجمع . وقرأ حمزة والكسائي « الريح » بالإِفراد ، والمعرّف بلام الجنس يستوي فيه المفرد والجمع .