{ وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ } أى : وأورثكم الله - تعالى - أرض هؤلاء اليهود وزروعهم كما أورثكم { وَدِيَارَهُمْ } أى حصونهم { وَأَمْوَالَهُمْ } التى تركوها من خلقهم ، كنقودهم ومواشيهم .
كما أورثكم { وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَ } بعد يقصد القتال وهى أرض خيبر ، أو أرض فارس والروم .
وفى هذه الجملة الكريمة { وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا } بشارة عظيمة للمؤمنين ، بأن الله - تعالى - سينصرهم على أعدائهم .
{ وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } لأنه - سبحانه - لا يعزه شئ .
أخرج الشيخان عن عائشة - رضى الله عنها - قالت : " لما رجع النبى صلى الله عليه وسلم من الخندق ، وضع السلاح واغتسل ، أتاء جبريل فقال : يا محمد قد وضعت السلاح ، والله ما وضعناه فاخرج إليهم فقال النبى صلى الله عليه وسلم : فإلى أين ؟ قال : ها هنا . وأشار إلى بنى قريظة . فخرج النبى صلى الله عليه وسلم إليهم " .
وعن ابن عمر - رضى الله عنهما - قال : " قال النبى - صلى الله عليه وسلم - يوم الأحزاب ، لا يصلين أحد العصر إلا فى بنى قريظة ، فأدرك بعضهم العصر فى الطريق ، فقال بعضهم : لا نصلى حتى نأتيها ، وقال بعضهم : بل نصلى ، فذكر ذلك للنبى صلى الله عليه وسلم فلم يعنف أحدا .
وبعد أن حاصر المسلمون بنى قريظة خمسا وعشرين ليلة ، نزلوا بعدها على حكم سعد بن معاذ - رضى الله عنه - فحكم بقتل رجالهم ، وتقسيم أموالهم ، وسبى نسائهم وذراريهم .
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم له : " لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات " " .
وإلى هنا نجد السورة الكريمة قد حدثتنا حديثا جامعا حكيما عن غزوة الأحزاب ، فقد ذركت المؤمنين - أولا - بنعم الله - تعالى - عليهم ، ثم صورت أحوالهم عندما أحاطت بهم جيوش الأحزاب من فوقهم ومن أسفل منهم .
ثم حكت ما قاله المنافقون فى تلك الساعات العصبية ، وما أشاروا به على أشباههم فى النفاق ، وما اعتذروا به من أعذار باطلة ، وما جبلوا عليه من أخلاق قبيحة ، على رأسها الجبن والخور وضعف العزيمة وفساد النية .
ثم انتقلت إلى الحديث عن المواقف المشرقة الكريمة التى وقفها المؤمنون الصادقون عندما رأوا الأحزاب ، وكيف أنهم ازدادوا إيمانا على إيمانهم ، ووفوا بعهودهم مع الله - تعالى - دون أن يبدلوا تبديلا .
وكا بدئت الآيات بتذكير المؤمنين بنعم الله - تعالى - عليهم ، ختمت - أيضا - بهذا التذكير حيث رد الله أعداءهم عنهم دون أن ينالوا خيرا ، ومكنهم من معاقبة الغادرين من اليهود .
وقوله : { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } أي : جعلها لكم من قتلكم{[23331]} لهم { وَأَرْضًا لَمْ تَطَؤوهَا } قيل : خيبر . وقيل : مكة . رواه مالك ، عن زيد بن أسلم . وقيل : فارس والروم . وقال ابن جرير : يجوز أن يكون الجميع مرادا .
{ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا } : قال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، أخبرنا محمد بن عمرو ، عن أبيه ، عن جده علقمة بن وقاص قال : أخبرتني{[23332]} عائشة قالت : خرجت يوم الخندق أقفو الناس ، فسمعت وئيد الأرض ورائي ، فإذا أنا بسعد بن معاذ ومعه ابن أخيه الحارث بن أوس يحمل مجَنَّه ، قالت : فجلست إلى الأرض ، فمر سعد وعليه دِرْع من حديد قد خرجت منه أطرافه ، فأنا أتخوف على أطراف سعد ، قالت : وكان سعد من أعظم الناس وأطولهم ، فمر وهو يرتجز{[23333]} ويقول :
لَبَّثْ قليلا يَشْهدُ الهَيْجَا حَمَلْ *** مَا أحْسَنَ الموتَ إذا حَانَ الأجَلْ
قالت : فقمت فاقتحمت حديقة ، فإذا فيها نفر من المسلمين ، وإذا فيها عمر بن الخطاب ، وفيهم رجل عليه تَسْبغَة{[23334]} له - تعني المغفر - فقال عمر : ما جاء بك ؟ لعمري والله إنك لجريئة{[23335]} ، وما يؤمنُك أن يكون بلاء أو يكون تَحَوّز . قالت : فما زال يلومني حتى تمنيت أن الأرض انشقت بي{[23336]} ساعتئذ ، فدخلت فيها ، فرفع الرجل التسبغة{[23337]} عن وجهه ، فإذا هو طلحة بن عبيد الله فقال : يا عمر ، ويحك ، إنك قد أكثرت منذ اليوم ، وأين التَحَوُّز أو الفرار إلا إلى الله تعالى ؟ قالت : ويرمي سعدًا رجل من قريش ، يقال له ابن العَرقة بسهم{[23338]} ، وقال له : خذها وأنا ابن العَرقة فأصابَ أكْحَلَه فقطعه ، فدعا الله سعد فقال : اللهم ، لا تمتني حتى تُقر عيني من قريظة . قالت : وكانوا حلفاءه ومواليه في الجاهلية ، قالت : فرقأ كَلْمُه ، وبعث الله الريح على المشركين ، وكفى الله المؤمنين القتال ، وكان الله قويًّا عزيزًا . فلحق أبو سفيان ومَنْ معه بتهامة ، ولحق عيينة بن بدر ومَنْ معه بنجد ، ورجعت بنو قريظة فتحصنوا في صياصيهم ، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأمر بقبة من أدم فضربت على سعد في المسجد ، قالت : فجاءه جبريل ، عليه السلام ، وإن على ثناياه لنقع الغبار ، فقال : أو قد وضعت السلاح ؟ لا والله ما وضعت الملائكة بعد السلاح ، اخرج إلى بني قريظة فقاتلهم . قالت : فلبس رسول الله صلى الله عليه وسلم لأمته ، وأذّن في الناس بالرحيل أن يخرجوا ، [ فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ]{[23339]} فمر على بني غَنْم{[23340]} وهم جيران المسجد حوله فقال : ومَنْ مر بكم ؟ قالوا : مر بنا دحية الكلبي - وكان دحية الكلبي تشبه لحيته ، وسنه ووجهه جبريل ، عليه الصلاة والسلام ، فأتاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة ، فلما اشتد حصارهم واشتد البلاء قيل لهم : انزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فاستشاروا أبا لبابة بن عبد المنذر ، فأشار إليهم أنه الذبح . قالوا : ننزل على حكم سعد بن معاذ [ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " انزلوا على حكم سعد بن معاذ " . فنزلوا وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى سعد بن معاذ ]{[23341]} فأتي به على حمار عليه إكاف من ليف قد حُمِل عليه ، وحَفّ به قومه ، فقالوا : يا أبا عمرو ، حلفاؤك ومواليك وأهل النّكاية ، ومَنْ قد علمت ، قالت : ولا يَرْجعُ إليهم شيئا ، ولا يلتفت إليهم ، حتى إذا دنا من دورهم التفت إلى قومه فقال : قد آن لي ألا أبالي في الله لومة لائم . قال{[23342]} : قال أبو سعيد{[23343]} : فلما طلع قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " قوموا إلى سيدكم فأنزلوه " . فقال عمر : سيدنا الله . قال : " أنزلوه " . فأنزلوه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " احكم فيهم " . قال سعد : فإني أحكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم ، وتسبى ذراريهم ، وتقسم أموالهم ، فقال رسول الله : " لقد حكمت فيهم بحكم الله وحكم رسوله " . ثم دعا سعد فقال : اللهم ، إن كنت أبقيتَ على نبيك من حرب قريش شيئًا ، فأبقني لها . وإن كنت قطعت الحرب بينه وبينهم ، فاقبضني إليك . قال : فانفجر كَلْمُه ، وكان قد برئ منه إلا مثل الخُرْص ، ورجع إلى قبته التي ضرب عليه رسول الله .
قالت عائشة : فَحَضَره رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ، وعمر قالت : فوالذي نفس محمد بيده ، إني لأعرف بكاء أبي بكر من بكاء عمر ، وأنا في حجرتي . وكانوا كما قال الله تعالى : { رُحَمَاءُ بَيْنَهُم } .
قال علقمة : فقلت : أيْ أمّه ، فكيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصنع ؟ قالت : كانت عينه لا تدمع على أحد ، ولكنه كان إذا وجد فإنما هو آخذ بلحيته{[23344]} .
وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن نمير ، عن هشام بن عُرْوَة ، عن أبيه ، عن عائشة نحوًا من هذا ، ولكنه{[23345]} أخصر منه ، وفيه دُعاء سعد ، رضي الله عنه{[23346]} .
وقوله { وأورثكم } استعارة من حيث حصل ذلك لهم بعد موت الآخرين من قبلهم ، وقوله { وأرضاً لم تطؤوها } ، يريد بها البلاد التي فتحت على المسلمين بعد كالعراق والشام ومكة فوعد الله تعالى بها عند فتح حصون بني قريظة وأخبر أنه قد قضى بذلك قاله عكرمة ، وذكر الطبري عن فرق أنهم خصصوا ذلك ، فقال الحسن بن أبي الحسن : أراد الروم وفارس ، وقال قتادة : كنا نتحدث أنها مكة ، وقال يزيد بن رومان ومقاتل وابن زيد : هي خيبر ، وقالت فرقة اليمن .
قال الفقيه الإمام القاضي : ولا وجه لتخصيص شيء من ذلك دون شيء .
وقوله { وأرضاً لم تطؤوها } أي : تنزلوا بها غزاةً وهي أرض أُخرى غير أرض قريظة وصفت بجملة { لم تَطَؤُوها } أي : لم تمشوا فيها . فقيل : إن الله بشرهم بأرض أخرى يرثونها من بعد . قال قتادة : كنا نحدث أنها مكة . وقال مقاتل وابن رومان : هي خيبر ، وقيل : أرض فارس والروم . وعلى هذه التفاسير يتعين أن يكون فعل { أورثكم } مستعملاً في حقيقته ومجازه ؛ فأما في حقيقته فبالنسبة إلى مفعوله وهو { أرضهم وديارهم وأموالهم ، } وأما استعماله في مجازه فبالنسبة إلى تعديته إلى { أرضاً لم تطؤوها ، } أي : أن يورثكم أرضاً أخرى لم تطؤوها ، من باب : { أتى أمر الله } [ النحل : 1 ] أو يُؤوَّل فعل { أورثكم } بمعنى : قَدَّر أن يُوَرِّثكم . وأظهر هذه الأقوال أنها أرض خيبر فإن المسلمين فتحوها بعد غزوة قريظة بعام وشهر . ولعلّ المخاطبين بضمير { أورثكم } هم الذين فتحوا خيبر لم ينقص منهم أحد أو فقد منه القليل ولأن خيبر من أرض أهل الكتاب وهم ممن ظاهروا المشركين فيكون قصدُها من قوله { وأرضاً } مناسباً تمام المناسبة .
وفي التذييل بقوله { وكان الله على كل شيء قديراً } إيماء إلى البشارة بفتح عظيم يأتي من بعده .
وعندي : أن المراد بالأرض التي لم يَطؤوها أرض بني النضير وأن معنى { لم تطؤوها } لم تفتحوها عنوة ، فإن الوطء يطلق على معنى الأخذ الشديد ، قال الحارث بن وَعْلَة الذهلي :
وطَأَتَنا وَطْئاً على حَنَق *** وَطْءَ المقيَّد نابت الهَرْم
ومنه قوله تعالى : { ولولا رجالٌ مؤمنون ونساءٌ مؤمناتٌ لم تعلموهم أن تطؤوهم } [ الفتح : 25 ] ، فإن أرض بني النضير كانت مما أفاء الله على رسوله من غير إيجاف .
تفسير مقاتل بن سليمان 150 هـ :
{وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها} خيبر.
{وكان الله على كل شيء} من القرى وغيرها {قديرا} أن يفتحها على المسلمين.
مالك عن زيد بن أسلم قال: قيل خيبر، وقيل مكة.
جامع البيان عن تأويل آي القرآن للطبري 310 هـ :
"وأوْرَثَكُمْ أرْضَهُمْ وَديارَهُمْ وأمْوَالَهُم" يقول: وملككم بعد مهلكهم أرضهم، يعني مزارعهم ومغارسهم وديارهم يقول: ومساكنهم وأموالهم يعني سائر الأموال غير الأرض والدور.
وقوله: "وأرْضا لَمْ تَطَئُوها" اختلف أهل التأويل فيها، أيّ أرض هي؟
فقال بعضهم: هي الروم وفارس ونحوها من البلاد التي فتحها الله بعد ذلك على المسلمين...
وقال آخرون: هي مكة. وقال آخرون: بل هي خيبر...
والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن الله تعالى ذكره أخبر أنه أورث المؤمنين من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أرض بني قريظة وديارهم وأموالهم، وأرضا لم يطئوها يومئذٍ ولم تكن مكة ولا خَيبر، ولا أرض فارس والروم ولا اليمن، مما كان وطئوه يومئذٍ، ثم وطئوا ذلك بعد، وأورثهموه الله، وذلك كله داخل في قوله: "وأرْضا لَمْ تَطَئُوها" لأنه تعالى ذكره لم يخصص من ذلك بعضا دون بعض. "وكانَ اللّهُ على كُلّ شَيْءٍ قَدِيرا" يقول تعالى ذكره: وكان الله على أن أورث المؤمنين ذلك، وعلى نصره إياهم، وغير ذلك من الأمور قدرة، لا يتعذّر عليه شيء أراده، ولا يمتنع عليه فعل شيء حاول فعله.
{وكان الله على كل شيء قديرا} هذا يؤكد قول من قال إن المراد من قولهم: {وأرضا لم تطئوها} هو ما سيؤخذ بعد بني قريظة، ووجهه هو أن الله تعالى لما ملكهم تلك البلاد ووعدهم بغيرها، دفع استبعاد من لا يكون قوي الاتكال على الله تعالى وقال أليس الله ملككم هذه فهو على كل شيء قدير يملككم غيرها.
البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 745 هـ :
{وأورثكم}: فيه إشعار أنه انتقل إليهم ذلك بعد موت أولئك المقتولين ومن نقلهم من أرضهم، وقدمت لكثرة المنفعة بها من النخل والزرع، ولأنهم باستيلائهم عليها ثانياً وأموالهم ليستعان بها في قوة المسلمين للجهاد، ولأنها كانت في بيوتهم، فوقع الاستيلاء عليها ثالثاً.
{وأرضاً لم تطؤوها}: وعد صادق في فتح البلاد، كالعراق والشام واليمن ومكة، وسائر فتوح المسلمين.
نظم الدرر في تناسب الآيات و السور للبقاعي 885 هـ :
ولما ذكر الناطق بقسميه، ذكر الصامت فقال: {وأورثكم أرضهم} من الحدائق وغيرها؛ ولما عم خص بقوله: {وديارهم} لأنه يحامي عليها ما لا يحامي على غيرها؛ ثم عم بقوله: {وأموالهم} مما تقدم ومن غيره من النقد والماشية والسلاح والأثاث وغيرها، فقسم ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين للفارس ثلاثة أسهم: للفرس سهمان ولفارسه سهم كما للراجل ممن ليس له فرس، وأخرج منها الخمس، فعلى سنتها وقعت المقاسم ومضت السنة في المغازي.
محاسن التأويل للقاسمي 1332 هـ :
وبتمام هذه الغزوة أراح الله المسلمين من شر مجاورة اليهود الذين تعودوا الغدر والخيانة، ولم يبق إلا بقية من كبارهم بخيبر مع أهلها، وهم الذين كانوا السبب في إثارة الأحزاب. قال بعضهم: يا الله! ما أسوأ عاقبة الطيش! فقد تكون الأمة مرتاحة البال هادئة الخواطر، حتى تقوم جماعة من رؤسائها بعمل غدر يظنون من ورائه النجاح. فيجلب عليهم الشرور ويشتتهم من ديارهم. وهذا ما حصل لليهود في الحجاز. فقد كان بينهم وبين المسلمين عهود يأمن بها كل منهم الآخر. ولكن اليهود لم يوفوا بتلك العهود حسدا منهم وبغيا. فتم عليهم ما تم. سنة الله في المفسدين. فإن الله لا يصلح أعمالهم {وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا} أي وقد شاهدتم بعض مقدوراته فاعتبروا بغيرها...
الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل - لجنة تأليف بإشراف الشيرازي 2009 هـ :
إنّ القرآن الكريم يشهد بأنّ الدافع الأساس لهذه الحرب هو دعم يهود بني قريظة لمشركي العرب ومساندتهم في حرب الأحزاب، لأنّه يقول: (الذين ظاهروهم).
إضافةً إلى أنّ اليهود في المدينة كانوا يعتبرون الطابور الخامس لأعداء الإسلام، وكانوا مجدّين في الإعلام المضادّ للإسلام، ويغتنمون كلّ فرصة مناسبة للبطش بالمسلمين والفتك بهم.
وكما قلنا سابقاً، فإنّ هذه الطائفة هي الوحيدة من الطوائف الثلاث (بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة) التي بقيت في المدينة عند نشوب معركة الأحزاب، فقد طردت الطائفتان الأوّليان في السنة الثّانية والرّابعة للهجرة، وكان يجب أن تعاقب هذه الطائفة على أعمالها الخبيثة وجرائمها، لأنّها كانت أوقح من الجميع وأكثر علانية في نقضها لميثاقها واتّصالها بأعداء الإسلام...
إنّ الانتصار على اُولئك القوم الظالمين العنودين قد حمل معه نتائج مثمرة للمسلمين، ومن جملتها:
أ ـ تطهير الجبهة الداخلية للمدينة، واطمئنان المسلمين وتخلّصهم من جواسيس اليهود.
ب ـ سقوط آخر دعامة لمشركي العرب في المدينة، وقطع أملهم من إثارة القلاقل والفتن داخلياً.
ج ـ تقوية بنية المسلمين المالية بواسطة غنائم هذه الغزوة.
د ـ فتح آفاق جديدة للانتصارات المستقبلية، وخاصة فتح «خيبر».
هـ ـ تثبيت مكانة الحكومة الإسلامية وهيبتها في نظر العدوّ والصديق، في داخل المدينة وخارجها.
إنّ من جملة التعبيرات التي تلاحظ في الآيات أعلاه أنّها تقول في مورد قتلى هذه الحرب: (فريقاً تقتلون) أي أنّها قدّمت (فريقاً) على (تقتلون) في حين أنّها أخّرت (فريقاً) عن الفعل «تأسرون»!
وقال بعض المفسّرين في تفسير ذلك: إنّ سبب هذا التعبير هو التأكيد على الأشخاص في مسألة القتلى، لأنّ رؤساءهم كانوا في جملة القتلى، أمّا الأسرى فإنّهم لم يكونوا اُناساً معروفين ليأتي التأكيد عليهم. إضافةً إلى أنّ هذا التقديم والتأخير أدّى إلى أن يقترن «القتل والأسر» ـ وهما عاملا الانتصار على العدو ـ ويكون أحدهما إلى جنب الآخر، مراعاة للانسجام بين الأمرين أكثر.
وكذلك ورد إنزال اليهود من «صياصيهم» قبل جملة: (وقذف في قلوبهم الرعب) في حين أنّ الترتيب الطبيعي على خلاف ذلك، أي أنّ الخطوة الاُولى هي إيجاد الرعب، ثمّ إنزالهم من الحصون المنيعة. وسبب هذا التقديم والتأخير هو أنّ المهمّ بالنسبة للمسلمين، والمفرّح لهم، والذي كان يشكّل الهدف الأصلي هو تحطيم هذه القلاع المحصّنة جدّاً.
والتعبير بـ (أورثكم أرضهم وديارهم) يبيّن حقيقة أنّ الله سبحانه قد سلّطكم على أراضيهم وديارهم وأموالهم دون أن تبذلوا كثير جهد في هذه الغزوة.
وأخيراً فإنّ التأكيد على قدرة الله عزّ وجلّ في آخر آية: (وكان الله على كلّ شيء قديراً) إشارة إلى أنّه سبحانه قد هزم الأحزاب بالرياح والعواصف والجنود الغيبيين يوماً، وهزم ناصريهم ـ أي يهود بني قريظة ـ بجيش الرعب والخوف يوماً آخر.