التفسير الوسيط للقرآن الكريم لسيد طنطاوي - سيد طنطاوي [إخفاء]  
{۞وَإِلَىٰ مَدۡيَنَ أَخَاهُمۡ شُعَيۡبٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥۖ وَلَا تَنقُصُواْ ٱلۡمِكۡيَالَ وَٱلۡمِيزَانَۖ إِنِّيٓ أَرَىٰكُم بِخَيۡرٖ وَإِنِّيٓ أَخَافُ عَلَيۡكُمۡ عَذَابَ يَوۡمٖ مُّحِيطٖ} (84)

ثم انتقلت السورة الكريمة بعد ذلك فقصت علينا ما كان بين شعيب - عليه السلام - وقومه وكيف أنه دعاهم إلى عبادة الله - تعالى - وحده بأسلوب بليغ حكيم ، ولكنهم لم يستجيبوا له ، فكانت عاقبتهم الهلاك كالذين من قبلهم قال - تعالى - :

{ وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً . . . }

تلك هى قصة شعيب - عليه السلام - كما حكتها هذه السورة الكريمة ، وقد وردت هذه القصة فى سور أخرى منها : سورتى الأعراف والشعراء . .

ومدين اسم للقبيلة التى تنتسب إلى مدين بن إبراهيم - عليه السلام - .

وكانوا يسكنون فى المنطقة التى تسمى ( معان ) وتقع بين حدود الحجاز والشام .

وأهل مدين يسمون أيضاً بأصحاب الأيكة .

والأيكة : منطقة مليئة بالشجر كانت مجاورة لقرية ( معان ) ، وكان يسكنها بعض الناس فأرسل الله شعيباً إليهم جميعاً .

وشعيب هو ابن ميكيل بن يشجر بن مدين بن إبراهيم ، فهو أخوهم فى النسب .

وكان النبى - صلى الله عليه وسلم - إذا ذكر شعيب قال : " ذلك خطيب الأنبياء " لحسن مراجعته لقومه ، وقوة حجته .

وكان قومه يعبدون الأصنام . ويطففون فى الكيل والميزان . . . فدعاهم إلى عبادة الله وحده ، ونهاهم عن الخيانة وسوء الأخلاق .

ويرى بعض العلماء : أن شعيباً أرسل إلى أمتين : أهل مدين الذين أهلكوا بالصيحة ؛ وأصحاب الأيكة الذين أخذهم الله بعذاب يوم الظلة ، وأن الله - تعالى - لم يبعث نبياً مرتين سوى شعيب - عليه السلام - .

ولكن المحققين من العلماء اختاروا أنهما أمة واحدة ، فأهل مدين هم أصحاب الأيكة ، أخذتهم الرجفة والصيحة وعذاب يوم الظلة - أى السحابة - وأن كل عذاب كان كالمقدمة للآخر .

هذا ، وقوله - سبحانه - { وإلى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً . . . } معطوف على ما سبقه من قصة صالح - عليه السلام - عطف القصة على القصة .

أى : وكما أرسلنا صالحاً - عليه السلام - إلى ثمود ، فقد أرسلنا إلى أهل مدين أخاهم شعيباً - عليه السلام - فقال لهم مقالة كل نبى لقومه : يا قوم اعبدوا الله وحده ، فإنكم لا إله لكم على الحقيقة سواه ، فهو الذى خلقكم ، وهو الذى رزقكم ، وهو الذى إليه مرجعكم . . .

ثم بعد أن أمرهم بإخلاص العبادة لله ، نهاهم عن التطفيف فى الكيل والميزان فقال : { وَلاَ تَنقُصُواْ المكيال والميزان }

والمكيال والميزان : اسمان للآلة التى يكال بها ويوزن .

ونقص الكيل والميزان يكون من وجهين : أحدهما أن يكون الاستنقاص من جهتهم إذا باعوا لغيرهم .

وثانيهما : أن يكون الاستنقاص من جهة غيرهم إذا اشتروا منه ، بأن يأخذوا منه أكثر من حقهم .

فكأنه - عليه السلام - يقول لهم : لا تنقصوا المكيال والميزان لا عند الأخذ ولا عند الإعطاء ، فلا تعطوا غيركم أقل من حقه إذا بعتم ، ولا تأخذوا منه أكثر من حقكم إذا اشتريتم .

وإلى هذين الأمرين أشار قوله - تعالى - { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ . الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ . وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ . . . } ثم بين لهم الأسباب التى دعته إلى أمرهم ونهيهم فقال : { إني أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } .

والخير : كلمة جامعة لكل ما يرضى الإِنسان ويغنيه ويسره .

ومحيط : أى شامل بحيث لا يستطيع أحد الإِفلات منه . كما يحيط الظرف بالمظروف . . .

أى : أخلصوا لله عبادتكم ، والتزموا العدل فى معاملاتكم ، فإنى أراكم تملكون الوفير من المال ، وتعيشون فى رغد من العيش ، وفى بسطة من الرزق ، ومن كان كذلك فمن الواجب عليه أن يقابل هذه النعم بالشكر لواهبها وهو الله - تعالى - وأن يستعملها استعمالاً يرضيه ، وأن يعطى كل ذى حق حقه .

وإنى - أيضاً - أخاف عليكم إذا ما تماديتم فى مخالففة ما آمركم به وما أنهاكم عنه ، عذاب يوم أهواله وآلامه شاملة لكل ظالم ، بحيث لا يستطيع أن يهرب منها . . .

قال الشوكانى : وصف - سبحانه - اليوم بالإِحاطة ، والمراد العذاب لأن العذاب واقع فى اليوم ، ومعنى إحاطة عذاب اليوم بهم ، أنهم لا يشذ منهم أحد عنه ، ولا يجدون منه ملجأ ولا مهربا .

فأنت ترى أن شعيباً - عليه السلام - بعد أن أمرهم بما يصلح عقيدتهم ونهاهم عما يفسد معاملاتهم وأخلاقهم . . ذكرهم بما هم فيه من نعمة وغنى قطعاً لعذرهم حتى لا يقولوا له نحن فى حاجة إلى تطفيف المكيال والميزان لفقرنا ، ثم أخبرهم بأنه ما حمله على هذا النصح لهم إلا خوفه عليهم .

 
تفسير القرآن العظيم لابن كثير - ابن كثير [إخفاء]  
{۞وَإِلَىٰ مَدۡيَنَ أَخَاهُمۡ شُعَيۡبٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥۖ وَلَا تَنقُصُواْ ٱلۡمِكۡيَالَ وَٱلۡمِيزَانَۖ إِنِّيٓ أَرَىٰكُم بِخَيۡرٖ وَإِنِّيٓ أَخَافُ عَلَيۡكُمۡ عَذَابَ يَوۡمٖ مُّحِيطٖ} (84)

يقول تعالى : ولقد أرسلنا إلى مدين - وهم قبيلة من العرب ، كانوا يسكنون بين الحجاز والشام ، قريبًا من بلاد معان ، في بلد يعرف بهم ، يقال لها " مدين " فأرسل الله إليهم شعيبا ، وكان من أشرفهم{[14857]} نسبًا . ولهذا قال : { أَخَاهُمْ شُعَيْبًا } يأمرهم بعبادة الله تعالى وحده ، وينهاهم عن التطفيف{[14858]} في المكيال والميزان { إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ } أي : في معيشتكم ورزقكم فأخاف أن تُسلَبوا ما أنتم فيه بانتهاككم محارم الله ، { وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ } {[14859]} أي : في الدار الآخرة .


[14857]:- في ت ، أ : "أشرافهم".
[14858]:- في أ : "الطفيف".
[14859]:- في ت : "عظيم".
 
المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية - ابن عطية [إخفاء]  
{۞وَإِلَىٰ مَدۡيَنَ أَخَاهُمۡ شُعَيۡبٗاۚ قَالَ يَٰقَوۡمِ ٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُم مِّنۡ إِلَٰهٍ غَيۡرُهُۥۖ وَلَا تَنقُصُواْ ٱلۡمِكۡيَالَ وَٱلۡمِيزَانَۖ إِنِّيٓ أَرَىٰكُم بِخَيۡرٖ وَإِنِّيٓ أَخَافُ عَلَيۡكُمۡ عَذَابَ يَوۡمٖ مُّحِيطٖ} (84)

التقدير : { وإلى مدين } أرسلنا { أخاهم شعيباً } ، واختلف في لفظة { مدين } فقيل : هي بقعة ، فالتقدير على هذا : وإلى أهل مدين - كما قال : { واسأل القرية }{[6466]} - وقيل كان هذا القطر في ناحية الشام ، وقيل { مدين } اسم رجل كانت القبيلة من ولده فسميت باسمه ، و { مدين } لا ينصرف في الوجهين ، حكى النقاش أن { مدين } هو ولد إبراهيم الخليل لصلبه .

قال القاضي أبو محمد : وهذا بعيد وقد قيل : إن { شعيباً } عربي ، فكيف يجتمع هذا وليس للعرب اتصال بإبراهيم إلا من جهة إسماعيل فقط ، ودعاء «شعيب » إلى «عبادة الله » يقتضي أنهم كانوا يعبدون الأوثان ، وذلك بين من قولهم فيما بعد ، وكفرهم هو الذي استوجبوا به العذاب لا معاصيهم ، فإن الله لم يعذب قط أمة إلا بالكفر ، فإن انضافت إلى ذلك معصية كانت تابعة ، وأعني بالعذاب عذاب الاستئصال العام ، وكانت معصية هذه الأمة الشنيعة أنهم كانوا تواطأوا أن يأخذوا ممن يرد عليهم من غيرهم وافياً ويعطوا ناقصاً في وزنهم وكيلهم ، فنهاهم شعيب بوحي الله تعالى عن ذلك ، ويظهر من كتاب الزجاج أنهم كانوا تراضوا بينهم بأن يبخس بعضهم بعضاً .

وقوله { بخير } قال ابن عباس : معناه في رخص من الأسعار ، و { عذاب اليوم المحيط } هو حلول الغلاء المهلك . وينظر هذا التأويل إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم : «ما نقص قوم المكيال والميزان إلا ارتفع عنهم الرزق »{[6467]} وقيل لهم قوله : { بخير } عام في جميع نعم الله تعالى ، و { عذاب اليوم } هو الهلاك الذي حل بهم في آخر ، وجميع ما قيل في لفظ «خير » منحصر فيما قلناه .

ووصف «اليوم » ب «الإحاطة » وهي من صفة العذاب على جهة التجوز إذ كان العذاب في اليوم : وقد يصح أن يوصف «اليوم » ب «الإحاطة » على تقدير : محيط شره . ونحو هذا .


[6466]:- من الآية (82) من سورة (يوسف).
[6467]:- رواه في الموطأ، ولفظه فيه: (ولا نقص قوم المكيال والميزان إلا قُطع عنهم الرزق).