قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ . . . }
الطيبات من الأطعمة : المستلذات ، ويجوز حملها على ما طاب من الرزق بتحليل الله له .
وما رزقناكم : ما أوصلناه إليكم من الرزق - وهو ما ينتفع به .
أي : يا من آمنتم بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر كلوا من ألوان الطيبات التي أحللناها لكم ، ولا تتعرضوا لما حرمناه عليكم .
وكان الخطاب هنا للمؤمنين خاصة ، لأنهم أحق بالفهم ، وأجدر بالعلم وأححرى بالاهتداء ، وأولى بالتكريم والتشريف .
ومفعول { كُلُواْ } محذوف ، أي : كلوا رزقكم حال كونه بعض طيبات ما رزقناكم .
ثم أمرهم - سبحانه - بشكره على هذه الطيبات التي أباحها لهم فقال : { واشكروا للَّهِ إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ }
وهذه الجملة الكريمة معطوفة على جملة { كُلُواْ } .
والشكر : هو الاعتراف بالنعمة مع ضرب من التعظيم لموجدها ، ووضعها في الموضع الذي أمر به .
أي : تمتعوا بنعم الله ، واعترفوا له بها على وجه التعظيم ، بأن تمتثلوا ما أمر به ، وتجتنبوا ما نهى عنه ، إن كنتم تخصونه بالعبادة حقاً ، وتفردونه بالطاعة صدقاً .
قال الآلوسي : وجملة { إِن كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } بمنزلة التعليل لطلب الشكر ، كأنه قيل : " واشكروا له لأنكم تخصونه بالعبادة ، وتخصيصكم إياه بالعبادة ، يدل على أنكم تريدون عبادة كاملة تليق بكبريائه ، وهي لا تتم إلا بالشكر ، لأنه من أجل العبادات " .
وجواب الشرط محذوف دل عليه المذكور والتقدير : إن كنتم إياه تعبدون فكلوا واشكروا لله .
وقال - تعالى - { وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ } وفي الحديث الصحيح الذي رواه البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر " وروى الإِمام مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها ، أو يشرب الشربة فيحمده عليها " .
قال صاحب المنار : قال الأستاذ الإِمام : لا يفهم هذه الآية حق فهمهما إلا من كان عارفاً بتاريخ الملل عند ظهور الإِسلام وقبله ، فإن المشركين وأهل الكتاب كانوا فرقاً وأصنافاً ، منهم من حرم على نفسه أشياء معينة بأجناسها أو أصنافهم كالبحيرة والسائبة عند العرب ، وكبعض الحيوانا عند غيرهم وكان المذهب الشائع في النصارى أن أقرب ما يتقرب به إلى الله - تعالى - تعذيب النفس ، وحرمانها من الطيبات المستلذة ، واحتقار الجسد ولوازمه ، واعتقاد أنه لا حياة للروح إلا بذلك . . . ثم قال : وقد تفضل الله على هذه الأمة بأن جعلها أمة وسطاً تعطى الجسد حقه والروح حقها ، فأحل لنا الطيبات لتتسع دائرة نعمه الجسدية علينا ، وأمرنا بالشكر عليها ليكون لنا منها فوائد روحانية عقلية ، فلم نكن جسمانيين محضاً كالأنعام ، ولا روحانيين خلصاً كالملائكة ، وإنما جعلنا أناسي كملة بهذه الشريعة المعتدلة ، فله الحمد والشكر والثناء الحسن .
يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بالأكل من طَيبات ما رزقهم تعالى ، وأن يشكروه على ذلك ، إن كانوا عبيده ، والأكل من الحلال سبب لتقبل الدعاء والعبادة ، كما أن الأكل من الحرام يمنع قبولَ الدعاء والعبادة ، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمامُ أحمد :
حدثنا أبو النضر ، حدثنا الفُضَيل بن مرزوق ، عن عدَيِّ بن ثابت ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أيها الناس ، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال : { يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [ المؤمنون : 51 ] وقال : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } ثم ذكر الرجل يطيلُ السفر أشعث أغبر ، يمدُّ يديه إلى السماء : يا رب ، يا رب ، ومطعمه حرام ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغُذي بالحرام ، فأنى يستجاب لذلك " .
ورواه مسلم في صحيحه ، والترمذي من حديث [ فضيل ]{[3056]} بن مرزوق{[3057]} .
{ يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم } لما وسع الأمر على الناس كافة وأباح لهم ما في الأرض سوء ما حرم عليهم ، أمر المؤمنين منهم أن يتحروا طيبات ما رزقوا ويقوموا بحقوقها فقال : { واشكروا لله } على ما رزقكم وأحل لكم . { إن كنتم إياه تعبدون } إن صح أنكم تخصونه بالعبادة ، وتقرون أنه مولى النعم ، فإن عبادته تعالى لا تتم إلا بالشكر . فالمعلق بفعل العبادة هو الأمر بالشكر لإتمامه ، وهو عدم عند عدمه . وعن النبي صلى الله عليه وسلم " يقول الله تعالى : إني والإنس والجن في نبأ عظيم ، أخلق ويعبد غيري ، وأرزق ويشكر غيري " .
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ( 172 )
الطيب هنا يجمع الحلال المستلذ ، والآية تشير بتبعيض { من } إلى الحرام رزق( {[1553]} ) ، وحض تعالى على الشكر والمعنى في كل حالة ، و { إن } شرط ، والمراد بهذا الشرط التثبيت وهز النفس ، كما تقول افعل كذا إن كنت رجلاً .
اعتراض بخطاب المسلمين بالامتنان عليهم بإباحة ما في الأرض من الطيبات ، جَرَّت إليه مناسبة الانتقال ، فقد انتُقل من توبيخ أهل الشرك على أن حَرَّموا ما خلقه الله من الطيبات إلى تحذير المسلمين من مثل ذلك مع بيان ما حُرِّم عليهم من المطعومات ، وقد أعيد مضمون الجملة المتقدمة جملة { يأيها الناس كلوا مما في الأرض } [ البقرة : 168 ] بمضمون جملة { يأيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم } ليكون خطاب المسلمين مستقلاً بنفسه ، ولهذا كان الخطاب هنا بيأيها الذين آمنوا ، والكلام على الطيبات تقدم قريباً .
وقوله : { واشكروا لله } معطوف على الأمر بأكل الطيبات الدال على الإباحة والامتنان ، والأمر في { اشكروا } للوجوب لأن شكر المنعم واجب . وتقدم وجه تعدية فعل الشكر بحرف اللام عند قوله تعالى : { واشكروا لي } [ البقرة : 152 ] .
والعدول عن الضمير إلى الاسم الظاهر لأن في الاسم الظاهر إشعاراً بالإلاهية فكأنه يومِىء إلى ألاَّ تشكر الأصنام ؛ لأنها لم تَخلُق شيئاً مما على الأرض باعتراف المشركين أنفسهم فلا تستحق شكراً . وهذا من جعل اللقب ذا مفهوم بالقرينة ؛ إذ الضمير لا يصلح لِذلك إلاّ في مواضع . ولذلك جاء بالشرط فقال : { إن كنتم إياه تعبدون } أي اشكروه على ما رزقكم إن كنتم ممن يتصف بأنه لا يعبد إلاّ الله أي إن كنتم هذا الفريق وهذه سجيتكم ، ومن شأن كان إذا جاءت وخبرها جملة مضارعية أن تدل على الاتصاف بالعنوان لا على الوقوع بالفعل مثل قوله : { إن كنتم للرؤيا تعبرون } [ يوسف : 43 ] أي إن كان هذا العلم من صفاتكم ، والمعنى إن كنتم لا تشركون معه في العبادة غيره فاشكروه وحده . فالمراد بالعبادة هنا الاعتقاد بالإلاهية والخضوع والاعتراف وليس المراد بها الطاعات الشرعية . وجواب الشرط محذوف أغنى عنه ما تقدم من قوله { واشكروا } .